مطلوب حياة لمن ننادي!
السائر في شوارع المحروسة الرئيسية ناهيك عن شوارعها الجانبية وحواريها سيشعُر بشفقة شديدة تصل لحَد البُكاء تقريبًا على الحال الذي انحدر إليه المُجتمع بشكل كامل؛ فالعشوائية وانحطاط الأخلاق وانهيار كُل القيم صارت هي الصورة السائدة والطافحة على وجه البلد بلا أي مُنافس، تكاتك يقودها أشكال وأعمار عجيبة من البشر لا تعلم من أين ظهروا، متسولون مُختلفــو الأحجام والأوصاف والأنواع، بلطجية عينى عينَك على شكل باعة جائلين أو سائقى ميكروباصات أو حتى أصحاب نصبات الشاى والقهوة العشوائية التي تُسيطر على ما تبقى من رصيف أي شارع أو حارة، أما أصل الرصيف فقد هضمته المحال والأكشاك لصالحها بكراتين الشيبسى والبسكويت والسجائر وحلاوة المولد وغيرها!
لم يعُد تطبيق القانون أصلًا صالحًا ولا في الإمكان لا سيما بعد أن صارت العشوائية هي القاعدة، إن تطبيق القانون والتصدى للخروج عنه يكون في مواجهة قلة خارجة على المألوف والمسموح به، لكن كيف يُمكن مواجهة أغلبية ساحقة طفحت على وجه الحياة بكُل ما تحمله من جهل وأنانية واستهداف لمصالح شخصية بحتة بعيدًا عن أي التزام تجاه المُجتمع والآخرين ولا أقول الدولة أو البلد؟ وهل يُمكن إلقاء اللوم على عاتق هؤلاء بعدما صار مُعظمهم نجوم فشر أبطال هوليوود تُطاردهم وسائل الإعلام بشراسة للحصول على تصريح أو لقاء معهم؟!
في الواقع هالنى ما فعله (عمرو أديب) عندما استضاف (محمد رمضان) بطل أبطال العشوائيات وانحدار القيم المُجتمعية وإعلاء راية البلطجة في مصر وهو يؤكد أنه فنان مُتميز، ويمنحه مساحة إضافية لتسميم عقول الشباب والصبية كأننا ناقصين بلاوى، قبل أن يقوم (أديب) باستضافة المُغنى (أحمد شيبة) في تكريس جديد لقيمة العشوائية وسلوك الزحمة في مُجتمعنا الذي صار سائق التوك توك فيه أهم من سائق الطائرة، ولقد صنع الإعلام من أبطال أغانى المهرجانات الوضيعة الذين يؤدون أغانيهم بالسنجة والمطواة ويستحلفون بماء النار أساطير لا يُشق لها غبار، ويجلس (خيرى رمضان) في مواجهة بتوع "مفيش صاحب بيتصاحب" كأنه قاعد قُدَّام الراحل (فريد الأطرش)، بينما يستضيف (وائل الإبراشى) أشكالا أخرى غريبة منهم اللى لابس بنطلون أحمر واللى حاطط على راسه طرطور تحت مُسمى الغناء الشعبى، ويحاورهم ويمنحهم حق بث سموم الجهل والسطحية والعشوائية في المُجتمع كأن المُجتمع ناقص تضليل!
ولو كان الفن هو المرآة الحقيقية لمُجتمع ينحدر إلى الهاوية، وأقولها بالمُجاملة حكاية ينحدر هذه لأننا صرنا في قعر الهاوية بالفعل، لو كان الفن كذلك فإن الإعلام هو السبب الأول في الترويج لمثل هذه الفنون المسمومة أكثر من غيرها، وقد يقول قائل إن (أديب) استضاف (أنغام) كوجه آخر لعُملة الفن الجيدة، وقام (الإبراشى) كذلك باستضافة (ميادة الحناوى) مثلًا أو (محمد عبده)، على راسى والله، لكن أرجوك تلاحظ أن المحتاج للدعم الآن هو الفن النظيف الذي يدعو للسمو الأخلاقى، لا هذا التردى الداعى للمزيد من العشوائية والانفلات، والسائد حاليًا هو ذلك السوء الذي لا يحتاج لدعم من جانب إعلاميين كبار، بل المحتاج لدعم فعلًا هو الفن الراقى، والأخلاق السامية، لا الهُراء المروِّج لبلطجة وإجرام تحت مُسمى حُرية التعبير؛ فالإعلامي عليه التزام أخلاقى وإلزام مهنى ينبغى له ألا يتجاهلهما أو يُسمَح له بأن يوليهما ظهره تحت مُسمى الجمهور عايز كده، ولو سِرنا خلف ما يعوزه الجمهور لكان الأولى بنا أن نستضيف نجمات أفلام البورنو فهُن أهم من (رمضان) و(شيبة) بالنسبة للجمهور اللى عايز كده!
هل يُمكن أن نرى وقفة حقيقية حازمة لمواجهة كُل هذا الهُراء وإنقاذ ما يُمكن أن نتعشَّم في إنقاذه من مُجتمعنا؟ هل سأل أحدهم نفسه عن السبب الذي يدعو تلاميذ مدرسة ابتدائية لم يتخطوا الثامنة من عمرهم لغناء أغانٍ يقول مطلعها دبرياج ع الفلاش.. ومن ضمن مقاطعها سلك لمِّس في الضفيرة وأنا بحسس ع الخطيرة؟ وماذا يفعل الأب لو سأله ابنه مُستفسرًا عن المقصود بالضفيرة أو الخطيرة بعدما أغلق باب دخول مثل هذه الأغنيات لمنزله عن طريق التليفزيون أو النت فاقتحمت الدار عن طريق التاكسى والتوك توك والميكروباص والمدرسة؟!
وهل ينكر أحد أن هذا الانهيار في ذوق الناس كبارًا وصغارًا مع دعم إعلامي رهيب يؤدى -هذا الانهيار- للقضاء بالكامل على الأخلاق، وبالتالى دعم تحويل المُجتمع إلى غابة حقيقية لنشاهد حوادث مثل سرقة الأعضاء عينى عينَك تحت إشراف أساتذة جامعيين، أو تعذيب صبى وهتك عرضه بشكل جماعى من جانب العشرات تحت داعى أنه اتصل بفتاة قريبتهم، أو حتى تجريد رجُل من ملابسه وإلباسه قميص نوم حريمى وزفُّه في الشوارع نقلًا عن مسلسل ساقط يتم الترويج لصاحبه كفنان بطل "ليل نهار"؟
لو كان الفن مرآة للمُجتمع فهو كذلك عود الثقاب القادر على إشعال نار تأكل المجتمع دون رحمة أو تقوم بتدفئته في الشتا براكية يعمل عليها برَّاد شاى بالمرَّة.. فهل يغيب هذا عن عقول صُنَّاع الإعلام وأصحاب القرار بعيدًا عن شعار خايب وهو أن الزبون دائمًا على حق؟ وهل هناك حياة لمَن نُنادى؟!
ومطلوب حياة لمَن نُنادى (قصة حقيقية)...
هو حادث يُجرى آلاف المرَّات يوميًا، وهو ناتج عن انهيار الأخلاق وانتشار الأنانية والتملُّص من المسئولية، الكُل في مجال عمله الحكومى تحوَّل لموظف لا يهمه إلا أن يُلقى بالمسئولية -أي مسئولية ولو ضئيلة- بعيدًا عن عاتقه، لينتظر قبض آخر الشهر وهو يشرب الشاى والقهوة ويتشمِّس أو يزوَّغ من مكان الوظيفة.
الزميلة (هند البنا) كاتبة ومسئولة في عدة دور نشر، تعرَّضت لواقعة تسمُم بعد تناول وجبة كبدة فاسدة في أحد مطاعم الإسكندرية، قلة ضمير معروف آخرها عشرة جنيهات غرامة على صاحب المحل لو تم إثبات التُهمة عليه أصلًا، المُشكلة كانت في البهدلة التي عانت منها الزميلة في مستشفيات الإسكندرية من أجل تلقى العلاج المُناسب، سوء المُعاملة، وتملُّص الأطباء من مسئولياتهم في مواجهة حالة تُعانى أمام أعينهم لدرجة إجبارها على مُغادرة فراش لجأت إليه لالتقاط أنفاسها من مُعاناة السم في أمعائها والسم من حولها في كُل خطوة تخطوها في مُجتمع ينهار لأن جرمها أنها غير قادرة على القيام بدور (محمد رمضان) في مثل هذه الحالة بأنه يطلَّع مدفع رشاش ويجبر الطبيب على علاجه فورًا!
يا جماعة الخير من الواضح أن الشخص العادى الذي لا يملك واسطة ولا جاعورة ولا ذراع لم يعُد له مكان في هذا البلد، ومن الأوضح أن مُصابة بالتسمم-مثل الزميلة-كان لزامًا عليها أن تتنقَّل بين عدة مُستشفيات للحصول على علاج فشلت في الحصول عليه بالشكل المُناسب، تخيَّل شخصا مُصابا بالتسمم يتم إجباره على أن يلف كعب داير على المستشفيات بداعى إتمام الإجراءات أو البحث عن عقار أو حقنة أو خلافه، يعنى المسألة موت وخراب ديار، وحقوق يتم إهدارها بسبب فشل القانون في فرض نفسه على أرضنا المسكينة بعدما انهارت القيم وتحوَّل التزام أي شخص لإدانة له، وصار الجميع مُتخليًا عن واجباته -وحتى عن النخوة الضرورية في مثل هذه المواقف- مُتشبثًا بأمله فى أنه يقعد ينجعص ويرفُض يشوف شغله وهو مستنى الزهر يلعب وتتبدَّل الأحوال ويركب أول موجة في سكة الأموال!