«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ 2◄37
ومازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
ولما علم أبو محمد بن حزم، أن قول ابن عباس رضى اللَّه عنه، وعائشة رضى اللَّه عنها: خرج لخمس بَقين من ذى القِعْدة، لا يلتئمُ مع قوله أوَّله بأن قال: معناه أن اندفاعه من ذِى الحُليفة كان لخمس، قال: وليس بين ذى الحُليفة وبين المدينة إلا أربعةُ أميال فقط، فلم تُعَدْ هذه المرحلة القريبة لِقلَّتها، وبهذا تأتلِف جميعُ الأحاديث...
قال: ولو كان خروجُه من المدينة لخمسٍ بقين لذى القِعْدة، لكان خروجُه بلا شك يَوْمَ الجمعة، وهذا خطأ، لأن الجمعة لاتصلَّى أربعاً، وقد ذكر أنس، أنهم صلُّوا الظهر معه بالمدينة أربعاً. قال: ويزيده وضوحاً، ثم ساق من طريق البخارى، حديث كعب بن مالك: ((قلَّما كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرُج فى سفر إذا خرج، إلا يومَ الخميس))، وفى لفظ آخر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُحب أن يخرُج يومَ الخميس، فبطل خروجه يومَ الجمعة لما ذكرنا عن أنس، وبطل خروجُه يوم السبت، لأنه حينئذ يكون خارجاً من المدينة لأربعٍ بَقين من ذى القِعدة، وهذا ما لم يقله أحد.
قال: وأيضاً قد صحَّ مبيتُه بذى الحُليفة الليلَة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعه من ذى الحُليفة يوم الأحد، يعنى: لو كان خروجُه يوم السبت، وصح مبيتُه بذى طُوى ليلةَ دخوله مكة، وصحَّ عنه أنه دخلها صُبح رابعة من ذى الحِجَّة، فعلى هذا تكونُ مدةُ سفره من المدينة إلى مكة سبعةَ أيام، لأنه كان يكون خارجاً من المدينة لو كان ذلك لأربع بَقين لِذى القِعْدة، واستوى على مكة لثلاث خَلَوْنَ من ذى الحِجة، وفى استقبال الليلة الرابعة، فتلك سبعُ ليالٍ لا مزيد، وهذا خطأ بإجماع، وأمرٌ لم يقله أحد، فصحَّ أن خروجه كان لِستٍ بقين من ذى القِعْدة وائتلفت الرواياتُ كلُّها، وانتفى التعارُض عنها بحمد اللَّه، انتهى .
قلت: هى متآلفة متوافقة، والتعارض مُنتفٍ عنها مع خروجه يومَ السبت، ويزولُ عنها الاستكراه الذى أوَّلها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبى محمد بن حزم:((لو كان خروجُه من المدينةِ لخمسٍ بَقين من ذى القِعْدة، لكان خروجُه يومَ الجمعة ...)) إلى آخره فغيرُ لازم، بل يصح أن يخرُج لخمس، ويكون خروجه يوم السبت، والذى غرَّ أبا محمد أنه رأى الراوى قد حذف التاء من العدد، وهى إنما تُحذف من المؤنث، ففهم لخمس ليال بقين، وهذا إنما يكون إذا كان الخروجُ يوم الجمعة، فلو كان يوم السبت، لكان لأربع ليال بقين، وهذا بعينه ينقلِبُ عليه، فإنه لو كان خروجُه يوم الخميس، لم يكن لخمس ليال بقين، وإنما يكون لست ليال بقين..
ولهذا اضطر إلى أن يُؤوِّل الخروج المقيَّد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذى الحُليفة، ولا ضرورة له إلى ذلك، إذ من الممكن أن يكون شهرُ ذى القِعْدة كان ناقصاً، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناءً على المعتاد من الشهر، وهذه عادةُ العرب والناس فى تواريخهم، أن يُؤرِّخُوا بما بقى من الشهر بناءً على كماله، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه، وظهور نقصه كذلك، لئلا يختلِف عليهم التاريخُ، فيصِحُّ أن يقول القائلُ: يوم الخامس والعشرين، كتب لخمس بقين، ويكون الشهر تسعاً وعِشرين، وأيضاً فإن الباقى كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج، والعرب إذا اجتمعت الليالى والأيام فى التاريخ، غلَّبت لفظَ الليالى لأنها أولُ الشهر، وهى أسبقُ من اليوم، فتذكر الليالى، ومرادُها الأيام، فيصِحُّ أن يُقال: لخمسٍ بَقين باعتبار الأيام، ويُذكَّر لفظ العدد باعتبار الليالى، فصحَّ حينئذ أن يكون خروجه لخمسٍ بقين، ولا يكون يوم الجمعة . وأما حديثُ كعب، فليس فيه أنه لم يكن يخرُج قطُّ إلا يومَ الخميس، وإنما فيه أن ذلك كان أكثرَ خروجه، ولا ريب أنه لم يكن يتقيَّد فى خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس.
وأما قوله: لو خرج يومَ السبت، لكان خارجاً لأربع، فقد تبيَّن أنه لا يلزم، لا باعتبار الليالى، ولا باعتبار الأيام.
وأما قوله: ((إنه بات بذى الحُليفة الليلة المستقبَلَة مِن يوم خروجه من المدينة)).. إلى آخره، فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدةُ سفره سبعة أيام، فهذا عجيبٌ منه، فإنه إذا خرج يومَ السبت وقد بقى من الشهر خمسةُ أيام، ودخل مكة لأربع مَضين مِن ذى الحِجة، فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام، وهذا غيرُ مشكل بوجه من الوجوه، فإن الطريق التى سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسيرُ العرب أسرعُ من سير الحضر بكثير، ولا سيما مع عدم المحامل والكجاوات والزوامِل الثِّقال ... واللَّه أعلم .
عدنا إلى سياق حَجِّه، فصلَّى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعاً، ثم ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحُليفة، فصلَّى بها العصر ركعتين، ثم بات بها وصلَّى بها المغرب، والعشاء، والصبح، والظهر، فصلَّى بها خمس صلوات، وكان نساؤه كُلُّهن معه، وطاف عليهن تِلك الليلة، فلما أراد الإحرام، اغتسل غُسلاً ثانياً لإحرامه غير غُسل الجِماع الأول، ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغُسل الأول للجنابة، وقد ترك بعضُ الناس ذِكره، فإما أن يكون تركه عمداً، لأنه لم يثبت عنده، وإما أن يكون تركه سهواً منه، وقد قال زيدُ بن ثابت:((إنه رأى النبىَّ صلى الله عليه وسلم تجرَّد لإهلاله واغتسل)) . قال الترمذى: حديث حسن غريب .
وذكر الدارقطنى، عن عائشة قالت: ((كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِمَ، غسل رأسه بخطمى وأُشْنَان . ثم طيَّبته عائشة بيدها بِذَرِيرَةٍ وطيبٍ فيه مسك فى بدنه ورأسه، حتى كان وبيص المِسك يُرى فى مفارقه ولِحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلَّى الظهر ركعتين، ثم أهَلَّ بالحجِّ والعُمرة فى مصلاه))، ولم يُنقل عنه أنه صلَّى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر.
وقلَّد قبل الإحرام بُدنه نعلين، وأشعرَها فى جانبها الأيمن، فشقَّ صفحةَ سَنامِها، وسَلَتَ الدَّمَ عنها
وإنما قلنا: إنه أحرم قارناً لِبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة فى ذلك .
أحدها: ما أخرجاه فى الصحيحين عن ابن عمر، قال:((تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّة الوداع بالعُمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهَدْىَ مِن ذى الحُليفة، وبدأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأَهَلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحجَّ....)) وذكر الحديث .
وثانيها: ما أخرجاه فى الصحيحين أيضاً، عن عروة، عن عائشة أخبرته عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث ابن عمر سواء .
وثالثها: ما روى مسلم فى صحيحه من حديث قُتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أنَّه قرن الحجَّ إلى العُمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً، ثم قال: ((هكذا فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم)) .
ورابعها: ما روى أبو داود، عن النفيلى، حدثنا زهير هو ابن معاوية حدثنا إسحاق عن مجاهد ((سئل ابنُ عمر: كم اعتمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: مرتين . فقالت عائشةُ: لقد عَلِمَ ابنُ عمر أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سِوى التى قرن بحَجَّته)) .
ولم يُناقض هذا قولَ ابن عمر: ((إنَّه صلى اللَّه عليه وسلم، قرن بين الحجِّ والعُمرة))، لأنه أراد العُمْرة الكاملة المفردة، ولا ريب أنهما عُمرتان: عُمرةُ القضاء وعُمرةُ الجِعرانة، وعائشة رضى اللَّه عنها أرادت العُمْرتين المستقلَّتَيْنِ، وعُمرَة القِران، والتى صُدَّ عنها، ولا ريب أنها أربع .
وخامسها: ما رواه سفيان الثورى، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((حجَّ ثلاثَ حِجج: حَجَّتينِ قبل أن يُهاجر، وحَجَّة بعد ما هاجر معها عُمرة)) رواه الترمذى وغيره.
وسادسها: ما رواه أبو داود، عن النُّفيلى، وقتيبة قالا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ((اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعَ عُمَرٍ: عُمرةَ الحُديبية، والثانية: حين تواطؤُوا على عُمرةٍ مِن قابل، والثالثة من الجِعرانة، والرابعة التى قرن مع حَجَّته)) .
وسابعها: ما رواه البخارى فى صحيحه عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بوادى العَقيق يقول: ((أتانى اللَّيْلَة آتٍ مِنْ رَبِّى عَزَّ وجلَّ، فقال: صَلِّ فى هَذَ الوَادى المُبارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ)).
وثامنها: ما رواه أبو داود عن البرَّاء بن عازب قال: ((كنت مع علىٍّ رضى اللَّه عنه حين أَمَّرَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على اليمن، فأصبتُ معه أَوَاقىَّ مِن ذهَبٍ، فلما قَدِمَ علىٌّ من اليمن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: وجدتُ فاطمة رضى اللَّه عنها قد لَبِسَتْ ثياباً صَبِيغَات، وقد نضحت البيت بِنَضُوحٍ، فقالت: مالك؟ فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابَه فأحَلُّوا، قال: فقلتُ لها: إنى أهللتُ بإهلال النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: فأتيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال لى: ((كيف صنعتَ))؟ قال: قُلتُ: أهللتُ بإهلال النبىَّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإنى قد سُقْتُ الهَدْىَ، وقَرَنْتُ...))، وذكر الحديث .
وتاسعها: ما رواه النسائى عن عمران بن يزيد الدمشقى، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن مسلم البطين، عن علىّ بن الحُسين، عن مروان بن الحكم قال: ((كنتُ جالساً عند عثمان، فسمع علياً رضى اللَّه عنه يُلبِّى بِعُمرة وحَجَّةٍ، فقال: ألم تَكُن تُنْهَى عَنْ هَذَا؟ قال: بلَى لكنى سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُلَبِّى بهما جميعاً، فلم أدَعْ قولَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِكَ)).
وعاشرها: ما رواه مسلم فى صحيحه مِن حديث شُعبة، عن حُميد بن هِلال قال: سمعتُ مُطرِّفاً قال: قال عمران بن حصين: أُحدِّثك حديثاً عسى اللَّهُ أن ينفعكَ به: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((جمع بين حَجَّةٍ وعُمْرة، ثم لم يَنْهَ عنه حتَّى ماتَ، ولم يَنْزِلْ قُرآن يُحرِّمُ)).
وحادى عشرها: ما رواه يحيى بن سعيد القطان، وسفيان بن عُيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن عبد اللَّه بن أبى قتادة، عن أبيه قال: ((إنما جَمَعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الحجِّ والعُمْرة، لأنه علم أنه لا يَحُجُّ بَعدها)) . وله طرق صحيحة إليهما .
وثانى عشرها: ما رواه الإمام أحمد من حديث سُراقة بنِ مالك قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ))، قَالَ: وَقَرَنَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم فى حَجَّة الوَادَعِ . إسناده ثقات.
وثالثُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث أبى طَلحَةَ الأنصارِىّ((أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَة)) ورواه الدارقطنى، وفيه الحجاج بن أرطاة .
ورابعُ عشرها: ما رواه أحمد مِن حديث الهرْمَاس بن زياد الباهلى((أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرن فى حَجَّةِ الوَادَعِ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَة))ِ .
وخامسُ عشرها: ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبى أوفى قال: ((إنما جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الحجِّ والعُمْرَة، لأنه علم أنه لا يحُجُّ بعد عامِه ذلك)) وقد قيل: إن يزيد بن عطاء أخطأ فى إسناده، وقال آخرون: لا سبيلَ إلى تخطئته بغير دليل .
وسادسُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، مِن حديث جابر بن عبد اللَّه،((أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ الحَجَّ والعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافاً واحِداً)). ورواه الترمذى، وفيه الحجاجُ بنُ أرطاة، وحديثُه لا ينزِل عن درجةِ الحَسَنِ ما لم ينفرِدْ بشئ، أو يُخالف الثِّقات .
وسابعُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث أُمِّ سلمة قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقُول: ((أَهِلُّوا يا آلَ مُحَمَّدٍ بِعُمْرَةٍ فى حَجٍّ)).
وثامن عشرها: ما أخرجاه فى الصحيحين واللفظ لمسلم، عن حفصةَ قالت: قلتُ للنبى صلى الله عليه وسلم: ما شأنُ النَّاسِ حلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قال: ((إنِّى قَلَّدْتُ هَدْيي، ولَبَّدْتُ رَأسى، فلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الحَجِّ))، وهذا يدل على أنه كان فى عُمرةٍ معها حَج، فإنه لا يَحلُّ من العُمْرة حتى يَحِلَّ من الحَج، وهذا على أصل مالك والشافعىِّ ألزمُ، لأن المعتمِر عُمرةً مفردة، لا يمنعه عندهما الهدىُ من التحلل، وإنما يمنعه عُمْرة القِران، فالحديثُ على أصلهما نص .
وتاسعُ عشرها: ما رواه النسائى، والترمذى، عن محمد بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أنه سمِعَ سعدَ بن أبى وقاص، والضحاكَ بن قيس عامَ حجَّ معاويةُ بنُ أبى سفيان، وهما يذكران التمتع بالعُمْرة إلى الحجِّ، فقال الضحاك: لا يصنعُ ذلك إلا مَنْ جَهِلَ أمرَ اللَّهِ، فقال سعد: بئسَ ما قلتَ يا ابنَ أخى . قال الضحاك: فإن عمرَ بنَ الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه، قال الترمذى: حديث حسن صحيح .
ومراده بالتمتع هنا بالعُمْرة إلى الحَج: أحدُ نوعيه، وهو تمتُّع القِران، فإنه لغةُ القرآن، والصحابة الذين شهدوا التنزيلَ والتأويل شهِدوا بذلك، ولهذا قال ابنُ عمر: تمتع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعُمْرة إلى الحَجِّ، فبدأ فأهلَّ بالعُمْرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ، وكذلك قالت عائشة، وأيضاً: فإن الذى صنعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، هو مُتعة القِران بلا شك، كما قطع به أحمد، ويدل على ذلك أن عمران بن حصين قال: ((تمتَّع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتمتَّعنا معه)) متفق عليه. وهو الذى قال لمطرِّف: ((أُحدِّثك حديثاً عسى اللَّه أن ينفعَك به، إن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، جمع بَيْن حَجٍّ وعُمْرَةٍ، ثمَّ لم يَنْهَ عَنْهُ حتَّى مَاتَ)). وهوفىصحيح مسلم، فأخبر عن قِرانه بقوله: تمتَّع . وبقوله: جمع بين حج وعُمْرة .
ويدل عليه أيضاً: ما ثبت فى الصحيحين عن سعيد بن المسيِّب قال: ((اجتمع علىٌّ وعثمانُ بعُسْفَان، فقال: كان عثمانُ ينهى عن المُتعة أو العُمرة، فقال علىّ: ما تُريد إلى أمر فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ قال عثمانُ: دعنا مِنْك، فقال: إنى لا أستطيع أن أدعَك، فلما أن رأى علىٌّ ذلك، أهلَّ بِهِما جميعاً)). هذا لفظ مسلم.
ولفظ البخارى ((اختلف علىّ وعُثمان بعُسْفَانَ فى المُتعة، فقال علىُّ: ما تريد إلا أن تنهى عن أمرٍ فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك علىٌّ، أهلَّ بهما جميعا)).
وأخرج البخارى وحدَه من حديث مروان بنِ الحكم قال: ((شهدتُ عثمان وعلياً، وعثمانُ ينهى عن المُتعة، وأن يُجْمَعَ بينهما، فلما رأى علىٌّ ذلك، أهلَّ بهما: لبَّيْكَ بعُمْرَةٍ وحَجَّة، وقال: ما كنتُ لأَدَعَ سُّـنَّة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِقول أحد)) .
فهذا يُبيِّن، أن مَن جمع بينهما، كان متمتِّعاً عندهم، وأن هذا هو الذى فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه عثمانُ على أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإنه لما قال له: ما تُريد إلى أمر فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، لم يقل له: لم يفعلْه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه وافقه على ذلك، لأنكره، ثم قصد علىّ إلى موافقة النبى صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به فى ذلك، وبيان أن فعله لم يُنسخ، وأهلَّ بهما جميعاً تقريراً للاقتداء به ومتابعته فى القِران، وإظهاراً لسُّـنَّة نهى عنها عثمان متأوِّلاً، وحينئذ فهذا دليل مستقل تمام العشرين.
الحادى والعشرون: ما رواه مالك فى الموطأ، عن ابن شهاب، عن عُروة، عن عائشة أنها قالت: ((خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامَ حَجَّة الوداع، فأهللنا بعُمرة، ثم قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كانَ مَعَه هَدْىٌ، فَلْيُهْلِلْ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ منهما جَمِيعاً)).
ومعلوم: أنه كان معه الهَدْىُ، فهو أولى مَن بادر إلى ما أمر به، وقد دل عليه سائرُ الأحاديث التى ذكرناها ونذكرها .
وقد ذهب جماعة من السَلَف والخَلَف إلى إيجاب القِران على مَن ساق الهَدْىَ، والتمتع بالعُمْرة المفردة على مَن لم يَسُق الهدىَ، منهم: عبدُ اللَّه بن عباس وجماعة، فعندهم لا يجُوز العدولُ عما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمر به أصحابه، فإنه قرن وساق الهَدْى، وأمر كُلَّ مَن لا هَدْىَ معه بالفسخ إلى عُمْرة مفردة، فالواجب: أن نفعل كما فعل، أو كما أمر، وهذا القول أصحُّ مِن قول مَن حرَّم فسخ الحج إلى العُمْرة من وجوه كثيرة، سنذكرها إن شاء اللَّه تعالى.
الثاني والعشرون: ما أخرجه فى الصحيحين أبى قِلابة، عن أنس بن مالك.. قال: ((صلَّى بنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحنُ معه بالمدينة الظهرَ أربعاً، والعصرَ بذى الحُليفة ركعتين، فباتَ بها حتَّى أصبح، ثم ركِبَ حتَّى استوت به راحِلتُه على البيداء، حَمِدَ اللَّه وسبَّح وكبَّر ثمَّ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة، وأهلَّ الناسُ بهما، فلما قَدمنَا، أمرَ الناس، فحلُّوا، حتى إذا كان يومُ التَّرْويَةِ أهلُّوا بالحَج))ِ..