رئيس التحرير
عصام كامل

مليتوا البلد جاتكم القرف !


ما لا يفهمه نواب اختارهم الشعب، تحت وطأة وهم بأنهم عقلاء، راشدون خادمون، فاهمون، أن الله منح الأدباء والمفكرين والكتاب والفلاسفة، والرسامين، والموسيقيين، والفنانين، الفطرة المختلفة حتمًا عن فطرة عموم الناس.. عموم الناس ميزهم الله أيضًا بما يخدمون به بعضهم بعضًا في مجالات الطب والهندسة والحركة والإنتاج والنظافة والتأمين والحرب، وهي مجالات خص الخالق فيها جماعات منهم بتميز وتفرد، يجعلهم في الصدارة الاجتماعية.. نحن إذن، كلنا في خدمة بعضنا البعض، والاحتياج هو عملة المقايضة الرئيسية.. ولو تأملنا الموقف جيدًا لسلمنا بإنصاف بأن القوة الناعمة هي ملاذ القوة الخشنة عند الحاجة إلى الترويح وإلى التأمل وإلى التوحد مع عزف الكون موسيقى السماء.


الأديب والفنان فيهما من قدرة الله على الإبداع، هو المانح، وهي منحة لم تخلق سدى أو زائدة دودية بالعقل ! من هنا كان صعبًا جدًا على نائب الأمة من دمياط أبوالمعاطى الذي طالب بمحاكمة عملاق الرواية المصري العربي العالمى نجيب محفوظ، أن يفهم أن عطاء الفن والأدب، هو فيض مقدور، ومنسوج ومكتوب، وهو مقدور لأن الله قيض الموهبة وهيأها لإفراز الفن الممتع الجميل، ترقى به الروح، وتتوسع مدارك العقل، وتتوحد الأمة في عاطفة وجدانية واحدة.

جمعنا فن أم كلثوم والسنباطي وأحمد رامي وعبد الوهاب وحليم وفايزة وفريد ونجاة حول الراديو، وشاشات القناة الأولى أيام لم يكن هناك سوى قناة أولى وقناة ثانية. وبحجة خدش الحياء العام اعتبر أبو المعاطى بجهل فاضح بالأدب ومراميه وضروراته في السرد والحوار وبناء الشخصيات أن رواية الثلاثية، بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، عمل يخدش الحياء، ولابد من محاكمة نجيب نوبل !

زمن الجهلة المجترئين، وزمن المنقلبين على فطرة الخالق في خلقه، فهل كان نجيب وغيره من الأدباء الذين أنطقوا الشخصيات ببعض الألفاظ الملائمة لطبيعة دورهم في الحياة، يريد خدش حياء الناس وإثارة غرائزهم ؟

قرأنا ليوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وأمين يوسف غراب والحكيم ومحمد عبد الحليم عبد الله وطه حسين، فقصة دعاء الكروان كلها مبنية على الغواية والعقاب والانتقام، ولم يشعر أحدنا قط أن دماء سالت من جلد حيائه المزعوم.. بالعكس، كنا نتطهر ونتدفق حبًا وحياة ورغبة في الكتابة والتقليد لأسلوب ومعاني هؤلاء العظماء، إلى أن أصبح لكل منا أسلوبه وفكره ورؤيته.

يشعر الناس بالصدمة تلو الصدمة من أداء لنواب في المجلس، لا يرقى إلى مستوى تطلعاتهم، وما كان يخطر على قلب أحد أن نعاقب المبدعين والكتاب والصحفيين والرسامين والنحاتين والمصورين بالحبس، لو اعتبر شخص ما أن المطبوع أو المرسوم أو المنقوش أو المعروض، خادش للحياء.. وهو ما أقرته للأسف تشريعية نواب الصدفة التاريخية.. اختيار الأزمة!

الحياء قيمة عليا حقيقة، لكن ما يجوز وصفه بالحياء في بحري، غير ما يجوز اعتباره حياءً في جوف الصعيد، والحياء في الريف غير الحياء في المدينة، والحياء في أربعينيات القرن الماضي مختلف كل الاختلاف عن حياء الناس الآن.. فأين الحياء في جينز تشتريه الفتاة ممزقًا، خطوطا وخيوطا، ليكشف عن لحم فخذها أو ركبتها، وتذهب إلى الجامعة وسط أقرانها المراهقين، ولا أحد ينظر !

وأين الحياء في جينز أو بوكسر انزلق عن ظهر شاب وكشف عن عورته الخلفية !

لا حياء. انعدم عمليًا، وهناك أب وهناك أم، خرج الولد وخرجت البنت بهذه الملابس الكاشفة، وهما يدعوان لهما بالنجاح والتوفيق!
ثم ما الخدش وما الهتك ؟
وهل تعد رسومات الإخوة الفراعنة على الجدران، وفيها ما فيها من أعضاء الذكورة، خدشًا لحياء المصريين على مدى سبعة آلاف عام، ومن ثم وجبت محاكمة الفرعون الوقح، قليل الأدب، والرسام والنحات الإباحي ؟!
عقول سلفية عفنة، وقلوب مجمدة على الفطريات، وأفكار زرنيخ، وبطون مملوءة بماء البطيخ الفاسد.. مليتوا البلد جاتكم القرف.
الجريدة الرسمية