مصنع الرجال
عبارة تشيع في مصر لاسيما بالأوساط الشعبية، وبين أولاد البلد، عبارة توجه تفسيرا لحالة الشخص الذي لا يستطيع الاعتماد على نفسه، أو الرجل الذي لا يتسم بالخشونة، والقوة.. كثيرا ما نصف أمثال هؤلاء، قائلين: "أصله مادخلش الجيش".. طبعا نعني الجيش المصري.
غرض العبارة واضح، وهو أنه لو أن هذا الشخص دخل الجيش، والتحق بالخدمة العسكرية، لكان ظهر عليه أثر القوة والشدة، والخشونة، التي تتسم بها المعيشة والحياة في تلك الفترة المهمة.
فترة الجندية في الجيش المصري ليست طويلة.. فهي لا تتجاوز السنوات الثلاث في حالة ما إذا كان المجند غير حاصل على أي مؤهل.. وتصل إلى سنة واحدة لخريجي المؤهلات العليا.. ومع ذلك فالمجند يعايش ظروفا مغايرة تماما لما كان عليه أيام "الملكي" كما يقولون؛ الاستيقاظ مبكرا.. التدريبات الرياضية والعسكرية.. طاعة الأوامر.. الأكل بمواعيد شديدة الانضباط.. النوم المبكر.. المواظبة على النظافة الشخصية، وحلق الشعر والذقن.. السرعة في إنجاز المهام.. تعلم مهارات جديدة ومتنوعة.
أيضا تشيع عبارة "الجيش بيقول لك اتصرف"، أي يجب ألا يقف أي أمر عائقا بينك وبين تحقيق هدفك.. تعلمنا تلك العبارة في الجيش، وما زلنا نرددها في حياتنا المدنية، وتعاملاتنا اليومية، فقد أفادتنا كثيرا في اكتساب سرعة التفكير والحركة، والتصرف.
تعلمنا خلال فترة التجنيد الخشونة، ورسولنا الكريم، صلوات ربي وتسليماته عليه، وآله، يقول: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم".. ولأن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة من الرغد والراحة، فعلينا أن نتعلم الخشونة، ومتطلبات الحياة الصعبة.. ونعلم أولادنا تلك المبادئ.
الجيش مصنع الرجال فعلا.. تعلمنا منه ما أعاننا على تحمل صعوبات الحياة، وشظف المعيشة بدون شكوى أو تبرم أو تطلع لما في أيدي غيرنا.
والتصوف وحياة الجندية صنوان.. أو بين تعليمهما أوجه شبه كثيرة.. مثل القناعة، وعدم التذمر، والطاعة في الخير، والصبر على المكاره، ومقاومة نوازع النفس الأمارة بالسوء، والعمل الجماعي، والحرص على الصالح العام، وإنكار الذات، وعدم الاستسلام للشهوات، ومقاومة الرغبة في الخلود إلى الراحة، والتدريب على السهر والعمل الشاق.. إنها تربية روحية فريدة، وتدريب للبدن ليكون في خدمة العقل.
تعودنا أيضا على مبدأ "الحسنة تخص والسيئة تعم"، أي أن الحساب على الخطأ يكون من نصيب المجموع، لأنه شذوذ وخروج عن المألوف، وخرق للقواعد، أما التصرف الصحيح فهو القاعدة، ولذا يثاب فاعله فقط؛ حتى نحافظ على استقرار الوطن، ولنتعلم الإيجابية، وعدم الركون إلى السلبية.. مصداقا للحديث النبوي الشريف عن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) رواه البخاري.. باختصار تفاديا لمحاولات إغراق السفينة.
الجيش مصنع الرجال، ومعمل الرجولة، وهبة الفروسية، وموئل النبل والشجاعة والإقدام، ومفرخ الأبطال، وصانع البطولة.
من بين ذكرياتي في فترة الجندية، أنني كنت أخلد إلى النوم، عقب صلاة العشاء مباشرة، وأستيقظ قبل أذان الفجر بأقل من الساعة قليلا.. فأسرع لأخذ "دش بارد"، حتى في "عز" البرد.. ثم أتوجه للمسجد لأداء ركيعات قبل الفجر، ثم أصلي الفريضة في جماعة.. بعدها أرتدي "التريننج سوت" لخوض التدريب الرياضي... إلى آخر اليوم.
أياما ما أجملها.. ألا ليت الشباب يعود يوما.