رئيس التحرير
عصام كامل

الجنازة حارَّة والمرحوم فار !


في اليابان، خليك متوقع دايمًا أنك على موعد مع موقف جديد ميخطرش في يوم على بالك.. ومن كيوتو، عاصمة اليابان الثقافية الخضراء، نواصل نقل مشاهداتنا للقارئ المصري خاصة والعربي عامًا، لأخلاق شعب وتصرفات مجتمع فريدة جدًا من نوعها..


في يوم دخلت عليا صديقتي اليابانية وأنا بشتغل بتقولي الساعة تلاتة عندنا حفل تأبين مهم، حاولي تضبطي شغلك عليه.. سألتها تأبين مين؟ قالتلي معلش معنديش وقت أشرحلك دلوقتي، بس كلنا أساتذه وطلبة لازم نحضر.. قلتلها حاضر مفيش مشكلة.. جات الساعة تلاتة ونزلنا كلنا ساحة الجامعة- جامعة كيوتو للدراسات الدوائية- لقيت تَندة كبيرة قاعد تحتها رئيس الجامعة ومعاه جميع الوكلاء نحو ٨ أشخاص أمام قبر موجود كنت دايمًا بسأل نفسي بتاع مين؟ وفي كاهن قاعد قصادهم، بيتلوا صلاوات كتير وكلنا واقفين طابور بنعدي على القبر نولع بخور ونحيِّي الكاهن ورئيس الجامعة وبعدين نمشي..

سألتها واحنا واقفين في الطابور، هو النهاردة ذكرى وفاة أحد مؤسسي الجامعة وده تأبين ذكراه؟ قالتلي لا ده صلاة من أجل "حيوانات التجارب" !

قلتلها حيوانات إيه قصدك الفئران اللي بنشتغل عليها كل يوم ده؟ قالتلي "أيوه، كل سنة في اليوم ده لازم بنقيم الصلاة عشان نترحم عليهم ونطلب من ربنا العفو والسماع عن الآلام اللي شعروا بيها ويسامحنا إننا أنهينا حياتهم في سبيل العلم.. كل معمل له معاد ١٥ دقيقة بينزل فيه كل الأساتذة والطلبة يشاركون في الصلاة اللي بتبدأ من بعد استراحة الغدا لمدة ٣ ساعات تقريبًا". 

مركز الأبحاث العلمية في الجامعة -المسئول عن فئران التجارب- على درجة عالية جدًا من النظافة والنظام.. بتتعقم تعقيم كامل قبل ما تدخل وبتلبس لبس مخصوص متعقم كإنك داخل غرفة عمليات.. قوانينه صارمة جدًا لدرجة أن بعض الأخطاء عقوبتها الحرمان من استخدام أي حيوانات لمدة ٣ شهور والعقوبة ده مش بس تخص صاحبها، لا هو وكل أفراد المعمل بتاعه.. كل ده عادي وممكن استيعابه وقبوله من منطلق تطور المنظومة ودقتها.. لكن اللي مش مستوعباه هو اهتمامهم بالمعنى الأخلاقي.. أي قيم وأي رحمة بيزرعوها في الأجيال الجاية؟ 

أي احترام بيقدموه لكل كائن حي تعرض للأذى بسببنا؟ أي إخلاص ووفاء لأرواح كائنات صغيرة لا تتعدى الـــ ٢٥ جراما بتنساها بمجرد ما تتخلص منها؟ أي تقدير معنوي بيربوا عليه أبناءهم لما يلاقوا رئيس الجامعة وجميع الوكلاء والأساتذة وقَّفوا شغلهم لحضور الصلاة ده..

التطور والتقدم التكنولوجي مُبهر وده كانت نظرتي عن اليابان المشهورة ببلاد الروبوت والاختراعات الغريبة.. بس ده ممكن تتعود عليه والانبهار بيه يقل مع الوقت.. لكن أقدر أوعدك أنك هتفضل في حالة انبهار و"دهشة" دائمين من أخلاقهم واحترامهم.. أبسطها اندهاشك من شخص خبطته بالغلط وانت ماشي وتلاقيه بيقولك "آسف" مع أنك انت الغلطان، ويتكرر معاك نفس الاعتذار مع تكرار الموقف..

البلاد المتقدمة المتطورة كلها نفس الإمكانيات المادية والأفكار العبقرية.. لكن مفيش غير بلد واحد بس قِدر بأخلاقه ياخد لقب "كوكب اليابان الشقيق".. 

إنما الأُمَمُ الأخلاق ما بقيت.. فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
الجريدة الرسمية