«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. 23
مازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية».. احتفاء واحتفالا بقرب قدوم ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
وفي ((سنن أبي داود))، والترمذي، والنسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمس يَوْمُ الجُمُعَة، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أهْبِطَ، وفيه تِيبَ عليه، وفيه مات، وفيه تقومُ الساعة، وما مِن دابَّةِ إلا وهي مُصيخَةٌ يَومَ الجُمُعَة، من حين تُصبِحُ حتيَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقاً من السَّاعَة، إلا الجنَّ والإنسَ، وفيه ساعةٌ لا يُصادفها عَبْد مُسْلِمٌ وهو يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حاجةً إلا أعطاهُ إيَّاها)) قال كعب: ذلك في كلِّ سنةٍ يوم؟ فقلتُ: بل في كل جمُعَةٍ قال: فقرأ كعبٌ التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو هريرة: ثمَّ لَقِيْت عبدَ اللّه بنَ سلام، فحدثته بمجلِسي مَعَ كَعْب، فَقالَ عَبْدُ اللّه بنُ سلام: وقد علمتُ أيَّة سَاعَةٍ هِيَ. قال أبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَخْبِرني بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللّه بنُ سَلاَم: هي آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فقلت: كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِم وَهُوَ يُصَلِّي)) وتِلْكَ السَّاعَةُ لا يُصَلَّى فِيهَا؟ فقال عبدُ اللّه بن سلام: ألَم يَقُل رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من جَلَسَ مَجْلِساً يَنْتَظِرُ الصلاَةَ، فَهُوَ في صَلاَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ))؟ قال: فقلت: بلى. فقال: هُوَ ذَاكَ.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي ((الصحيحين)) بعضه.
وأما من قال إنَّها من حين يفتتح الإِمامُ الخطبة إلى فراغه من الصلاة، فاحتج بما رواه مسلم في ((صحيحه))، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: قال عبد اللّه بن عمر: أسمعتَ أباك يُحدِّث عن رسول صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة؟ قال: قُلت: نعم سمعتُه يقول: سمعتُ رسول الله يقول: ((هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجلِس الإِمامُ إلى أن يقضِيَ الإِمام الصلاة)).
وأما من قال: هي ساعة الصلاة، فاحتج بما رواه الترمذي، وابن ماجه، من حديث عمرو بن عوف المزني، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ في الجُمُعَة لَسَاعَةً لا يَسْأَلُ اللَّهَ العَبْدُ فِيهَا شَيْئاً إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ)). قالوا: يا رسولَ اللّه أيةُ ساعة هِيَ؟ قال: ((حِينَ تُقامُ الصَّلاة إلى الانصِرَافِ مِنْهَا)). ولكن هذا الحديث ضعيف، قال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثيرُ بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، وليس هو ممن يُحتجُّ بحديثه. وقد روى روحُ بن عبادة، عن عوف، عن معاوية بن قرة، عن أبي بردة عن أبي موسى، أنه قال لعبد اللّه بن عمر: هي الساعة التي يخرج فيها الإِمام إلى أن تقضَى الصلاةُ. فقال ابن عمر: أصابَ اللَّهُ بك.
وروى عبد الرحمن بن حُجَيْرَةَ، عن أبي ذر، أن امرأته سألته عن الساعة التي يُستجابُ فيها يومَ الجمعة للعبد المؤمن، فقال لها: هي مع رفع الشمس بيسير، فإن سألتنِي بعدها، فأنت طالق.
واحتج هؤلاء أيضاً بقوله في حديث أبي هريرة ((وهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي)) وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت، والأخذ بظاهر الحديث أولى. قال أبو عمر يحتج أيضاً من ذهب إلى هذا بحديث علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا زالت الشَّمْسُ، وفاءت الأَفياءُ، ورَاحَتِ الأَرْواح، فاطلبوا إلى اللّه حوائجكم، فإنَّها ساعة الأوابين، ثم تلا: {فَإِنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإِسراء: 25])).
وروى سعيدُ بن جُبير، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، قال: الساعة التي تُذكر يومَ الجمعة: ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وكان سعيد بن جُبير، إذا صلى العصر، لم يُكلّم أحدا حتى تغرب الشمس، وهذا هو قول أكثر السلف، وعليه أكثر الأحاديث. ويليه القول: بأنها ساعة الصلاة، وبقية الأقوال لا دليل عليها.
وعنديَ أن ساعة الصلاة ساعةٌ ترجى فيها الإِجابةُ أيضاً، فكلاهما ساعةُ إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخِرُ ساعة بعد العصر، فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر، وأما ساعةُ الصلاة، فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرُّعهم وابتهالِهم إلى اللّه تعالى تأثيراً في الإِجابة، فساعة اجتماعهم ساعةٌ تُرجي في الإجاِبةُ، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حضَّ أمته على الدعاء والابتهال إلى اللّه تعالى في هاتين الساعتين.
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذي أسّسَ على التقوى، فقال: ((هُوَ مَسجِدُكم هذا)) وأَشارَ إلى مَسْجِدِ المَدِينَة. وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذى نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى، بل كلٌّ منهما مؤسس على التقوى.
وكذلك قولُه في ساعة الجمعة ((هي ما بَيْنَ أن يجلس الإمامُ إلى أن تنقضي الصلاة)) لا يُنافي قوله في الحديث الآخر ((فالتَمسُوها آخرَ سَاعَة بَعْدَ العَصْرِ)).
ويشبه هذا في الأسماء قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تَعُدُّون الرَّقوبَ فيكم))؟ قالوا: مَن لَمْ يُولَد له، قال: ((الرَّقوبُ مَنْ لَمْ يُقَدِّم مِنْ وَلَدِه شَيْئاً)).
فأخبر أن هذا هو الرَّقوب، إذ لم يحصل له من ولده من الأجر ما حصل لمن قَدَّم منهم فرطاً، وهذا لا ينافي أن يُسمى من لم يولد له رقوباً.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم ((ما تعُدُّونَ المُفْلسَ فيكم))؟ قالوا: من لا درْهَمَ له ولا مَتَاع. قال: ((المُفْلسُ من يَأتي يَومَ القيامَة بحًسَنات أمْثَال الجبال، ويأَتي وقد لَطمَ هذا، وضَرَبَ هذَا، وسَفَكَ دَمَ هذَا،َ فَيَأخُذ هذا من حَسًناتَه، وَهَذَا منْ حَسَنَاته)) الحديث.
ومثلُه قولُه صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكينُ بهذا الطَوَّاف الَّذي تَرُدّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمتَان، والتَّمْرةُ والتَّمْرتَانِ، وَلكِنَّ المسْكينَ الَّذي لا يَسْاُلُ النَّاسَ، ولا يُتَفَطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عليه)).
وهذه الساعة هي آخِر ساعة بعد العصر، يعظِّمها جميع أهل الملل. وعند أهل الكتاب هي ساعة الإِجابة، وهذا مما لا غرض لهم في تبديله وتحريفه، وقد اعترف به مؤمنُهم.
وأما من قال بتنقلها، فرام الجمع بذلك بين الأحاديث، كما قيل ذلك في ليلة القدر، وهذا ليس بقوي، فإن ليلةَ القدر قد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((فالتَمِسُوها في خَامِسَةٍ تَبْقَى، في سَابِعَةٍ تَبقَى، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى)). ولم يجىء مثلُ ذلك في ساعة الجمعة.
وأيضاً فالأحاديث التي في ليلة القدر، ليس فيها حديثّ صريح بأنها ليلة كذا وكذا، بخلاف أحاديث ساعة الجمعة، فظهر الفرق بينهما.
وأما قول من قال: إنَها رُفعت، فهو نظيرُ قول مَن قال: إن ليلة القدر رُفِعَت، وهذا القائل، إنْ أراد أنَّها كانت معلومة، فرفع علمُها عن الأمة، فيقال له: لم يُرفع علمها عن كُلِّ الأمة، وإن رُفعَ عن بعضهم، وإن أراد أن حقيقتها وكونَها ساعة إجابة رفِعَتْ، فقولٌ باطل مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة، فلا يعول عليه. واللّه أعلم.
◄الحادية والعشرون: أن فيه صلاةَ الجمعة التي خُصَّت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإِقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة. وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأتِ نظيرُه إلا في صلاة العصر، ففي السنن الأربعة، من حديث أبي الجَعْدِ الضَّمْرِي - وكانت له صحبة - إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن تَرَكَ ثَلاثَ جُمَع تَهاوُناً، طَبعَ اللَّهُ عَلى قَلْبِهِ)). قال الترمذي: حديث حسن، وسألت محمد بن إسماعيل عن اسم أبي الجعد الضمري، فقال: لم يُعرف اسمه، وقال: لا أعرِفُ له عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث. وقد جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمرُ لمن تركها أن يتصدَّق بدينار، فإن لم يجد، فنصف دينار. رواه أبو داود، والنسائي من رواية قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب.
ولكن قال أحمد: قدامة بن وبرة لا يعرف. وقال يحيى بن معين: ثقة، وحُكي عن البخاري، أنه لا يصح سماعه من سمرة. وأجمع المسلمون على أن الجمعة فرضُ عين، إلا قولاً يُحكى عن الشافعي، أنها فرض كفاية، وهذا غلط عليه منشؤه أنه قال: وأما صلاة العيد، فتجب على كل من تجب عليه صلاةُ الجمعة، فظن هذا القائل أن العيد لما كانت فرضَ كفاية، كانت الجمعة كذلك. وهذا فاسد، بل هذا نص من الشافعي أن العيد واجب على الجميع، وهذا يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون فرضَ عين كالجُمُعَةِ، وأن يكون فرضَ كفاية، فإن فرض الكفاية يجبُ على الجميع، كفرض الأعيان سواء، وإنما يختلِفانِ بسقُوطه عن البعض بعد وجوبه بفعل الآخرين.
◄الثانية والعشرون: إن فيه الخطبةَ التي يُقصد بها الثناءُ على اللّه وتمجيدُه، والشهادةُ له بالوحدانية، ولرسولِه صلى الله عليه وسلم بالرسالةِ، وتذكيرُ العباد بأيامه، وتحذيرُهم من بأسه ونِقمته، ووصيتُهم بما يُقَرِّبُهم إليه، وإلى جِنَانه، ونهيُهم عما يقربهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها.
◄الثالثة والعشرون: أنه اليوم الذي يُستحب أن يُتفرَّغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزية بأنواع مِن العبادات واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كل مِلَّةٍ يوماً يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيومُ الجمعة يومُ عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعةُ الإِجابة فيه كليلة القدر في رمضان. ولهذا من صح له يومُ جمعته وسلِم، سلمت له سائرُ جمعته، ومن صح له رمضان وسلم، سَلِمت له سائرُ سَنَتِه، ومن صحت له حَجتُه وسلِمت له، صح له سائرُ عمره، فيومُ الجمعة ميزانُ الأسبوع، ورمضانُ ميزانُ العام، والحجُ ميزانُ العمر. وبالله التوفيق.
◄الرابعة والعشرون: أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيدُ مشتمِلاً على صلاة وقُربان، وكان يومُ الجمعة يومَ صلاة، جعل الله سبحانه التعجيلَ فيه إلى المسجد بدلاً من القربان، وقائماً مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاةُ، والقربان، كما في ((الصحيحين)) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((مَن رَاحَ في السَّاعَةِ الأُولى، فَكَأنما قَرَّبَ بَدَنَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَقَرَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاعة الثَّالِثَةِ، فَكأنَّما قَرَّبَ كَبْشَاً أَقرَنَ)).
وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين:
أحدهما: أنها من أول النهار، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
والثاني: أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال، وهذا هو المعروف في مذهب مالك، واختاره بعضُ الشافعية، واحتجوا عليه بحجتين:
إحداهما: أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، وهو مقابلُ الغُدوِّ الذي لا يكون إلا قبل الزوال، قال تعالى: {غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. قال الجوهري: ولا يكون إلا بعد الزوال.
الحجة الثانية: أن السلف كانوا أحرصَ شيء على الخير، ولم يكونوا يَغْدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس، وأنكر مالك التبكيرَ إليها في أول النهار، وقال: لم نُدرك عليه أهل المدينة.
واحتج أصحابُ القول الأول، بحديث جابر رضي اللله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَوْمُ الجُمُعَةِ ثِنْتَا عشرَة سَاعَةً)). قالوا: والساعات المعهودة، هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة، وهي نوعان: ساعات تعديلية، وساعات زمانية، قالوا: ويدل على هذا القول، أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بَلَغَ بالساعات إلى ست، ولم يزد عليها، ولو كانت الساعة أجزاء صغاراً مثل الساعة التي تُفعل فيها الجمعة، لم تنحصر في ستة أجزاء، بخلاف ما إذا كان المُرادُ بها الساعات المعهودة، فإن الساعة السادسة متى خرجت، ودخلت السابعة، خرج الإِمامُ، وطُويتِ الصحف، ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك، كما جاء مصرحاً به في ((سنن أبي داود)) من حديث علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، غَدَتِ الشَّياطِينُ بِرَايَاتِهَا إلى الأَسْوَاق، فَيَرْمُونَ النَّاسَ بالترابيثِ أَو الرَّبَائِثِ وَيُثَبِّطُونَهُم عَنِ الجُمُعَةِ، وَتَغْدُو المَلاَئِكَةُ، تَجْلِسُ عَلَى أبْوَاب المَسَاجِدِ، فَيَكتُبونَ الرَّجُلَ مِن سَاعَةٍ، والرَّجُلَ مِنْ سَاعَتَيْن حتَّى يَخْرُجَ الإِمَام)).
قال أبو عمر بن عبد البر: أختلف أهلُ العلم في تلك الساعات، فقالت طائفة منهم: أراد الساعاتِ مِن طلوع الشمس وصفائِها، والأفضلُ عندهم التبكيرُ في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة والشافعي، وأكثر العلماء، بل كلهم يستحب البكور إليها.
قال الشافعي رحمه اللّه: ولو بكر إليها بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، كان حسناً. وذكر الأثرم، قال: قيل لأحمد بن حنبل: كان مالك بن أنس يقول: لا ينبغي التهجير يومَ الجمعة باكراً، فقال: هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: سبحان اللّه إلى أي شيء ذهب في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كالمُهْدِي جَزُوراً)). قال: وأما مالك فذكر يحيى بن عمر، عن حرملة، أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات: أهو الغدُّو من أول ساعات النهار، أو إنما أراد بهذا القولِ ساعاتِ الرواح؟ فقال ابنُ وهب: سألتُ مالكاً عن هذا، فقال: أما الذي يقع بقلبي، فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكونُ فيها هذه الساعاتُ، من راح من أول تلك الساعة، أو الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، أو السادسة. ولو لم يكن كذلك، ما صُلِّيتِ الجُمُعَةُ حتَّى يكون النهارُ تسعَ ساعات في وقت العصر، أو قريباً من ذلك. وكان ابنُ حبيب، يُنكر مالك هذا، ويميل إلى القول الأول، وقال: قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث، ومحال من وجوه.
وقال: يدلُك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة: أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار، وهو وقت الأذان، وخروجِ الإِمام إلى الخطبة، فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات، فبدأ بأول ساعات النهار، فقال: من راح في الساعة الأولى، فكأنَّما قرب بدنة، ثم قال: في الساعة الخامسة بيضة، ثم انقطع التهجير، وحان وقت الأذان، فشرحُ الحديث بيِّن في لفظه، ولكنه حُرِّفَ عن موضعه، وشُرِحَ بالخُلْفِ مِن القول، وما لا يكون، وزهَّد شارحُه الناسَ فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير من أول النهار، وزعم أن ذلك كلَّه إنما يجتمع في ساعة واحدة قربَ زوالا الشمس، قال: وقد جاءت الآثارُ بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار، وقد سُقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية.
هذا كله قول عبد الملك بن حبيب، ثم رد عليه أبو عمر، وقال: هذا تحامل منه على مالك رحمه اللّه تعالى، فهو الذي قال القول الذىِ أنكره وجعله خُلفاً وتحريفاً من التأويل، والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة، ويشهد له أيضاً العملُ بالمدينة عنده، وهذا مما يصحُ فيه الاحتجاجُ بالعمل، لأنه أمر يتردَّد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء. فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، قَامَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكةٌ، يَكتُبُونَ النَّاسَ، الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، فالمُهَجِّرُ إلَى الجُمُعَةِ كَالمُهْدي بَدَنَةً، ثُمَ الَّذِي يَليهِ كالمُهْدِي بَقَرةً، ثُمَّ الَّذِي يَليهِ كَالمُهدِي كَبْشَاً، حَتَّى ذكَرَ الدَّجَاجَة وَالبَيْضةَ، فإذَا جَلَسَ الإِمَامُ، طُويَتِ الصّحُفُ، واسْتَمَعُوا الخُطْبَة)).
قال: ألا ترى إلى ما في هذا الحديث، فإنه قال: يكتبونَ الناس الأول فالأول، فالمهجِّرُ إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه فجعل الأول مهجراً، وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة، وليس ذلك وقتَ طلوع الشمس، لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير، وفي الحديث: ((ثمَّ الذي يليه، ثمَّ الذي يليه)). ولم يذكر الساعة. قال: والطرق بهذا اللفظ كثيرة، مذكورة في ((التمهيد))، وفي بعضها ((المتعجِّلُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً)).
وفي أكثرها: ((المهجِّرُ كالمُهْدِي جَزُورَا)) الحديث. وفي بعضها، ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمُهدي بدنة، وفي آخرها كذلك، وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة، وفي آخرها كذلك. وقال بعض أصحاب الشافعي: لم يُرد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((المهجِّرُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِيَ بَدَنَةً))، الناهض إليها في الهجير والهاجرة، وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة، كالمُهدي بدنة، وذلك مأخوذ من الهجرة وهو تركُ الوطن، والنهوضُ إلى غيره، ومنه سمِّي المهاجرون. وقال الشافعي رحمه الله: أحبُّ التبكير إلى الجمعة، ولا تُؤتى إلا مشياً. هذا كله كلامُ أبي عمر.
قلت: ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور، أحدها: على لفظة الرواح، وإنها لا تكون إلا بعد الزوال، والثاني: لفظة التهجير، وهي إنما تكون بالهاجرة وقت شدة الحر، والثالث: عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار.
فأما لفظة الرواح، فلا ريب أنها تُطلق على المضى بعد الزوال، وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قُرنت بالغُدوِّ، كقوله تعالى: {غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ غَدا إلى المَسجِد وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلاً في الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ)). وقول الشاعر:
نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لا تَنْقَضِي
وقد يُطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي، وهذا إنما يجيء، إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو.
وقال الأزهري في ((التهذيب)): سمعت بعضَ العرب يستعمِلُ الرواح في السير في كل وقت، يقال: راح القوم: إذا سارُوا، وغدَوْا كذلك، ويقول أحدهم لصاحبه: تروَّح، ويخاطب أصحابه، فيقول: رُوحوا أي: سيروا، ويقول الآخر: ألا تروحُونَ؟ ومِنْ ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة، وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخِفَّةِ إليها، لا بمعنى الرواح بالعشي.
وأما لفظ التهجير والمهجِّر، فمن الهجير، والهاجرة، قال الجوهري: هي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه: هجَّر النهارُ، قال امرؤ القيس:
فَدَعْها وَسَــلِّ الهَمَّ عنها بجَسْرةٍ إذَا صَامَ النَّهارُ وهَجَّرا
ويقال: أتينا أهلنا مهجِّرين، أي: في وقت الهاجرة، والتهجير والتهجّر: السير في الهاجرة، فهذا ما يقرِّر به قولُ أهل المدينة.
قال الآخرون: الكلام في لفظ التهجير، كالكلام في لفظ الرواح، فإنه يطلق ويُراد به التبكير.
قال الأزهري في ((التهذيب)): روى مالك، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما في التَهجير، لاستَبقوا إليه)).