رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. 21


مازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية».. احتفاء واحتفالا بقرب قدوم ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...


  ◄هديه صلى الله عليه وسلم في الجمعة وذكر خصائص يومها


ثبت في ((الصحيحين)) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نَحْنُ الآخرُونَ الأَوّلُونَ السَّابِقونَ يَوْمَ القِيامَة، بَيْدَ أنَّهم أوتُوا الكتاب مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرضَ اللَّهُ عَلَيْهِم، فاخْتَلَفوا فِيهِ، فهَدانَا اللَّهُ له، والنَّاسُ لَنا فيه تَبَع، اليَهُودُ غداً، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ)).

         

وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة، وحُذيفة رضي اللّه عنهما قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ((أَضَلَّ اللَّهُ عَن الجُمُعة مَنْ كان قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ السَّبْتِ، وكَانَ لِلنَّصارى يَوْمُ الأَحَدِ، فجاء اللَّهُ بِنَا، فَهَدَانَا ليومِ الجمعة فَجَعَلَ الجُمُعَةَ والسّبْتَ والأَحَدَ، وكَذلِكَ هُم تَبَعٌ لَنَا يَومَ القِيَامَةِ، نحن الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنيا، والأَوَّلونَ يَوْمَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لهم قبل الخلائِق)).

                  

وفي ((المسند)) والسنن، من حديث أوس بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَفْضل أَيَّامِكُم يَومُ الجمعَةِ، فيه خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وفيه قُبضَ، وفيه النَّفخَةُ، الصعْقَةُ، فأكثِرُوا عليَّ مِنَ الصَّلاةِ فيه، فإِنَّ صَلاَتَكُم مَعرُوضةٌ عليَّ)) قالوا: يا رسولَ اللّه وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاتنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ (يعني: قدْ بَلِيتَ). ((إنَّ اللّه حَرَّمَ على الأَرضِ أَنْ تأْكُلَ أَجْسَادَ الأنبياءِ)). ورواه الحاكم، في((المستدرك)) وابن حبان في ((صحيحه)).

         

وفي ((جامع الترمذي))، من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فيه خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وفيه أدْخِلَ الجَنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تَقومُ السَّاعَةُ إِلاَّ في يَوْمِ الجُمُعَةِ)). قال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم.

         

وفي ((المستدرك)) أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً ((سَيِّدُ الأيَّام يَوْمُ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُدْخِلَ الجَنَّة، وفيه أُخْرِجَ مِنْهَا، ولا تَقومُ السَّاعَةُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ)).

         

وروى مالك في ((الموطأ))، عن أبي هريرة مرفوعاً ((خيْر يَوْمٍ طَلَعَت عليه الشَّمْس يومُ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُهْبِطَ، وفيه تِيبَ عَليه، وفيه مَاتَ، وفيه تقومُ السَّاعةُ، وما منْ دابَّةٍ إلا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الجُمُعةِ مِنْ حِينَ تصبِحُ حتَّى تَطْلعَ الشّمْسُ شَفَقاً مِنَ السَّاعَةِ إِلاَّ الجِنَّ والإِنسَ، وفِيهِ سَاعَةٌ لا يُصادِفُهَا عَبدٌ مُسْلِمِّ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللّه شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاه)). قال كعب: ذلك في كلِّ سنَةٍ يَوْمٌ، فقلتُ: بَلْ في كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَرأَ كَعْبّ التَّوْراةَ، فَقَال: صدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ، فحَدَّثْتهُ بِمَجْلِسي مَعَ كَعبٍ، قَالَ: قَدْ عَلِمتُ أَيَّة سَاعَةٍ هي، قُلت: فأَخبِرْنِي بِهَا، قال: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ في يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَقُلتُ: كَيفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لا يصَادِفُهَا عَبدٌ مسلِمّ وَهوَ يصَلِّي وَتِلْكَ السَّاعَةُ لاَ يُصَلَّى فيها؟ فَقَالَ ابن سلام: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللّه ((مَن جَلَسَ مَجلِساً يَنْتَظِرُ الصلاَةَ، فَهُوَ في صًلاةٍ حَتَّى يُصلِّيَ))؟ 

         

وفي ((صحيح ابن حبان)) مرفوعاً: ((لا تطلع الشمس على يوم خير من يَوْمِ الجُمُعة)).

                  

وفي ((مسند الشافعي)) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه، قال: أتى جبريلُ عليه السلام رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم. بمرْآة بَيْضَاءَ، فِيها نُكتةٌ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما هذِهِ؟ فقال: ((هذِهِ يَومُ الجُمُعةِ، فُضِّلْتَ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، والنَّاسُ لَكُمْ فيها تَبَعٌ، اليهودُ والنَّصارى، ولكم فيها خَيْرٌ، وفيها سَاعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يدعو اللّه بِخَيْرٍ إلا اسْتُجِيبَ لَهُ وهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ المزيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جِبْريلُ ! ما يومُ المزيدِ؟ قال: إِنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الفِرْدَوْسِ وَادِياً أفيحَ فِيهِ كُثُبٌ مِنْ مِسْكٍ، فإذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ أنزلَ اللّه سُبحَانَهُ ما شَاءَ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَليها مَقَاعِدُ النَّبيِّينَ، وحَفَّ تِلكَ المنابِرَ بِمنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ  مُكَلَّلَةٍ بالياقوت وَالزَّبَرجَدِ، عليها الشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ، فجلسوا مِنْ وَرَائهم على تِلْكَ الكُثُبِ))، فيقولُ اللَّهُ عزّ وجَلَّ: ((أَنا رَبّكم قَدْ صَدَقتكم وعدي، فسَلُوني أُعْطِكُم، فيقولون: ربَّنا نسألك رضوانَك، فيقول: قَدْ رَضِيتُ عنْكُم وَلَكُم مَا تَمَنيْتُم وَلَدَيَّ مَزيد، فهم يُحِبُّونَ يَوْمَ الجُمُعةِ لِما يُعطيهم فيه ربُّهم مِنَ الخَيْرِ، وهُوَ اليومُ الَّذي اسْتوى فيه ربُّك تَبَارَكَ وتَعالى على العرش، وفيه خَلَقَ آدم، وفيه تقوم السَّاعة)).

         

رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد، حدثني موسى بن عُبيدة، قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد اللّه بن عبيد، عن عمير بن أنس.

         

ثم قال: وأخبرنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد، عن أنس شبيهاً به.

         

وكان الشافعي حسنَ الرأي في شيخه إبراهيم هذا، لكن قال فيه الإِمام أحمد رحمه للّه: معتزلي جهمي قدري كُلُّ بلاء فيه.

         

ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان: قال: قال أنس: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ((أتاني جِبْريلُ فذكره)) ورواه محمد بن شعيب، عن عمر مولى غُفرة، عن أنس ورواهُ أبو ظبية، عن عثمان بن عُمير، عن أنس. وجمع أبو بكر بن أبي داود طرقه.

         

وفي ((مسند أحمد)) من حديث علي بن أبي طلحة، عن أبي هريرة، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لأي شيء سُمِّيَ يَوْم الجمعة؟ قال ((لأَنَّ فيه طُبِعَت طِينَةُ أَبيكَ آدَمَ، وفيه الصَّعْقَةُ، والبعْثَةُ، وفيه البَطْشَةُ، وفي آخِرِهِ ثَلاثُ سَاعاتٍ، منها سَاعَةٌ مَنْ دعا الله فيها اسْتُجِيبَ له)).

          

وقال الحسن بن سفيان النَّسوي في ((مسنده)) حدثنا أبومروان هشام بن خالد الأزرق، حدثنا الحسن بن يحيى الخُشني، حدثنا عمر بن عبد اللّه مولى غُفرة، حدثني أنس بن مالك، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((أتاني جِبريلُ وفي يَده كَهَيْئَة المِرْآة البيضاء، فيها نكْتَةٌ سَوْداءُ، فقلت: ما هذه يا جِبريلُ؟ فقال: هذه الجُمُعَة بُعِثْتُ بها إِلَيْكَ تكُونُ عيداً لكَ وَلأُمَّتِكَ مِنْ بعدِك. فقلت: وما لَنا فيها يا جِبْريل؟ قال: لَكمْ فيها خَيْرٌ كَثير، أَنْتُمُ الآخِرُون السَابقونَ يَوْمَ القِيَامَة، وفيها سَاعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ  يصلِّي يَسْألُ اللَّهَ شَيئاً إِلاَّ أَعْطاه.



 قلتُ: فما هذه النّكْتَةُ السَّوداء يا جِبرِيلُ؟ قال: هذه السَّاعة تكون في يوم الجُمُعة وهو سَيِّد الأَيَّام، ونحنُ نسميه عندنا يومَ المَزيد. قلت: وما يومُ المَزيد يا جِبْريل؟ قال: ذلك بِأَنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ في الجَنَّة وادياً أفيحَ مِنْ مِسْكٍ أبْيض، فإذا كان يَوْمُ الجُمُعة مِنْ أَيَّام الآَخرة، هَبَطَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِن عَرْشِهِ إِلى كُرسِيِّه، ويُحَفُّ الكُرْسيّ بِمنابِرَ مِنَ النُّورِ فيجلسُ عليها النَّبِيُّونَ وتُحَفُّ المنابِرُ بِكَراسِي مِنْ ذَهَب، فيجلِسُ عليها الصِّدِّيقون والشُّهداء، ويَهْبِطُ أهلُ الغُرَفِ من غُرَفهم، فيجلسون على كُثبانِ المِسكِ لا يرون لأهلِ المنابِر والكراسي فَضلاً في المجلِس، ثمَّ يَتَبدَّى لهم ذو الجَلال والإِكرام تبارك وتعالى، فيقول: سلوني، فيقولون بِأَجْمَعِهم: نَسْأَلُك الرِّضى يا ربُّ، فيَشْهَدُ لَهم عَلى الرِّضى..



ثم يقول: سَلوني، فيسألونَه حَتَّى تَنتَهِيَ نَهْمَةُ كُلِّ عَبْدٍ مِنْهُم، قال: ثُمَّ يُسْعى عَلَيْهِم بِما لا عَيْنٌ رَأت، ولا أُذنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قَلب بَشَر، ثُمَّ يَرتَفع الجَبَّار مِنْ كُرْسيِّه إِلى عَرشِهِ، وَيَرْتَفعُ أهْلُ الغُرَف إلى غُرَفِهم، وهي غُرفَةٌ مِنْ لُؤلُؤَةٍ بَيْضاء، أو ياقُوتَةٍ حَمراء، أو زُمرُّدةٍ خضراء، ليس فيها فَصْمٌ وَلاَ وَصمٌ مُنَوَّرة، فيها أنهارُها، أو قال: مُطَّرِدةٌ مُتَدَليَةٌ فيها ثِمَارُها، فيها أزواجُها وَخَدمُها وَمَساكِنُها قال: فأهلُ الجَنَّة يَتباشَرون في الجنَّة بِيَومِ الجُمُعة، كما يَتبَاشَرُ أهل الدُّنيا في الدُّنيا بالمطر)).

         


وقال ابن أبي الدنيا في كتاب ((صفة الجنة)): حدثني أزهر بن مروان الرقاشي، حدثني عبد اللّه بن عَرَادة الشيباني، حدثنا القاسم بن مُطيِّب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حُذيفة، قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: ((أَتاني جِبْرِيل وفي كَفّه مِرْآةٌ كأحْسَنِ المرَائي وأضْوَئِها، وإذا في وَسَطِها لَمْعَةٌ سوداءُ، فقلت: ما هذه اللَّمْعَةُ التي أرى فيها؟ قال: هذه الجُمُعَةُ، قلت: وما الجُمعَةُ؟ قال: يَوْمٌ مِنْ أَيَّام رَبِّكَ عظيم، وَسَأخْبِرُكَ بِشَرَفِهِ وفَضْلِهِ في الدّنيا، وما يرجى فيه لأهله، وأُخْبِرُك باسْمه في الآخِرة، فأما شَرَفه وَفَضْلُهُ في الدنيا، فإن الله عزَّ وجَلَّ جَمَعَ فيه أمر الخلق، وأمَّا ما يُرجَى فيه لأهله، فإنَّ فيه سَاعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ يَسْأَلانِ اللّه تعالى فيها خَيْراً إلا أعطاهما إياه، وأمَّا شَرَفُهُ وَفضْلُهُ في الآخِرَة واسْمه، فإنَّ اللّه تباركَ وتَعَالى إذا صَيَّرَ أهْلَ الجنَة إلى الجَنَّة، وأهْل النار إلى الناَّر، جَرَتْ عليهم هذه الأّيَام وهذه اللَّيالي، ليس فيها لَيلٌ وَلاَ نَهَارّ إِلاَّ قَدْ علم اللَّهُ عزَ وَجَلَّ مِقدَارَ ذَلِكَ وَسَاعَاتِه..



فإذا كان يَوْمُ الجمُعَة حين يخرج أهل الجُمُعَةِ إلى جُمُعَتِهم، نادى أَهْلَ الجنَّة مُنَادٍ، يا أهْل الجَنَّة اخرجوا إلى وادي المَزيد، ووَادي المَزيد لا يعلم سعَة طوله وعرضه إلاَّ اللَّهُ، فيه كُثبَانُ المِسك، رؤوسها في السَّمَاء قال: فَيخْرُج غِلْمَانُ الأنْبِياء بمنابرَ مِنْ نور، ويخرج غِلْمَانُ المؤمنين بِكَراسي مِنْ يَاقوتٍ، فإذا وُضِعَتْ لَهم، وَأَخَذَ القَوْمُ مَجَالِسَهم، بَعَثَ اللَّهُ عليهم ريحاً تدعى المُثيرة، تُثيرُ ذلك المِسكَ، وتُدْخِله مِن تَحتِ ثِيابِهِم، وتُخْرِجهُ في وجوهِهِم وأشْعارِهِم، تِلْك الرِّيح أَعْلَم كَيفَ تَصْنَع بِذلِكَ المِسكِ مِن امرأةِ أحَدِكُم، لو دُفعَ إليها كُلُّ طِيب على وَجْه الأرض. 



قال: ُثم يُوحي الله تبارك وتعالى إلى حَمَلَة عَرْشِهِ: ضَعُوه بَين أَظهُرِهِم، فيكون أوّلَ ما يَسمَعونَهُ منه: إليَّ يا عبادي الذين أطاعُوني بِالغَيب وَلم يَروني، وصَدَّقوا رُسُلِي، واتَّبَعوا أمْري، سَلُوني فهذا يَومُ المَزيد، فيجَتَمِعُونَ على كَلِمَةٍ واحِدَةٍ: رضِيْنا عَنْك فَارْضَ عَنَّا، فيرْجِعُ اللَّهُ إلَيهم: أَنْ يَا أَهلَ الجَنَّة إِنِّي لَوْ لم أَرْضَ عَنْكُم لم أُسْكِنْكُم داري، فَسَلُوني فهذا يَوْمُ المَزيد، فَيَجْتَمِعُونَ على كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: يا رَبَّنَا وَجْهَكَ نَنْظُرْ إليه، فيَكْشِفُ تلْكَ الحُجُبَ، فَيَتجَلَّى لهم عَزَّ وجَلَّ، فَيَغْشَاهُم مِنْ نُوره شَيءٌ لَوْلا أَنّه قَضَى ألا يَحْتَرِقُوا، لاحْترَقوا لِما يَغْشَاهُم مِنْ نُورِهِ..



 ثُمَّ يُقالُ لَهُم: ارْجعوا إلى مَنازِلِكم، فيَرْجِعون إلى مَنَازِلِهِم وَقَدْ أَعْطَى. كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ الضِّعْفَ عَلَى مَا كانوا فيه، فَيَرْجِعُون إلى أَزْوَاجِهِم وقد خَفُوا عَلَيْهِنَّ وَخَفِينَ عليهم ممَّا غَشِيَهمْ مِن نُورِهِ، فإذا رَجعُوا تَرادَّ النُّورُ حَتَّى يَرْجِعُوا إلى صُوَرِهم الّتي كانوا عَلَيْها، فَتَقول لَهُم أَزْوَاجُهُم: لَقَدْ خَرَجْتُم مِنْ عِنْدِنَا على صورة ورَجَعْتُم عَلى غَيْرِها، فيقولون: ذلك لأنَّ اللَّهَ عَزّ وجَلُّ تَجَلَّى لنا، فَنَظَرْنا مِنْه قال: وإِنَّهُ وَاللَّهِ ما أحاطَ به خَلْقٌ، وَلكنَّهُ قَد أراهم مِنْ، عظَمَتِهِ وَجَلالِهِ ما شَاءَ أَنْ يُرِيَهُم قال: فَذلِكَ قولهم فَنَظَرْنا مِنْه، قال: فَهُم يَتَقَلَّبُون في مِسْكِ الجَنَّة ونَعيمِها في كلِّ سَبعَةِ أَيَّام الضعفَ عَلى مَا كَانوا فيه. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: فَذَلِكَ قَوْلُه تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَةِ أَعْينٍ  جَزاءً بِمَا كَانوا يَعمَلون} [السجدة: 17].

         


ورواه أبو نُعيم في ((صفة الجنة)) من حديث عِصمة بن محمد حدثنا، موسى بن عقبة، عن أبي صالح، عن أنس شبيهاً به.

          

وذكر أبو نعيم في ((صفة الجنة)) من حديث المسعودي، عن المِنهال، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه قال: سارعوا إلى الجُمُعة في الدنيا، فإن اللّه تبَارك وتعالى يَبْرُزُ لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه سبحانه بالقرب على قدر سُرعتهم إلى الجمعة، ويُحدِثُ لهم من الكرامة شيئاً لم يكونوا رأوه قبل ذلك، فيرجِعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم.


          

◄ يوم وصلاة الجمعة


      

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائدَ أبي حين كُفَّ بصرُه، فإذا خرجتُ به إلى الجمعة، فسمع الأذانَ بها، استغفر لأبي أمامة أسعد بنِ زُرارة، فمكث حيناً على ذلك فقلت: إن هذا لعجز ألا أسأله عَنْ هذا، فخرجتُ به كما كنتُ أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة، استغفرَ له، فقلت: يا أبتاه ! أرأيتَ استغفارَك لأسعد بنِ زُرارة كلما سمعتَ الأذان يومَ الجمعة؟ قال: أي بُنَيَّ ! كان أسعدُ أولَ من جمَّع بنا بالمدينة قبل مَقْدَمِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في هَزْم النَّبيتِ مِن حَرَّة بني بَياضة في نقيع يُقال له: نقيع الخَضَماتِ. قلتُ: فكم كُنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً.

 

 قال البيهقي، ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه من الراوي، وكان الراوي ثقة، استقام الإِسنادُ، وهذا حديث حسن صحيح الإِسناد انتهى.

         

قلت: وهذا كان مبدأ الجمعة. ثم قَدم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقام بقُباء في بني عمرو بن عوف، كما قاله ابنُ إسحاَق يوم الاثنين، ويومَ الثلاثاء، ويومَ الأربعاء، ويومَ الخميس، وأسسَّ مسجدَهم، ثم خرج يومَ الجمعة، فأدركته الجمعةُ في بني سالم بن عوف، فصلاَّها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أوَّل جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيسِ مسجده.

         

قال ابن إسحاق: وكانت أوَّل خطبة خطبها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن -ونعوذ باللّه أن نقول على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما لم يقُلْ - أنه قام فِيهم خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((أمَّا بَعْدُ أيُها النَّاسُ، فَقَدِّموا لأَنْفُسكمَ تَعْلَمُنَّ وَاللَّه لَيُصْعَقَنَّ أحَدُكم، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَه لَيس لها رَاع، ثُمَّ ليقولَنَّ لَهُ ربُّه ولَيْس لَة تُرْجُمان، ولا حاجبٌ  يَحْجبُه دُونه اْلَمْ يَاْتكَ رَسولي، فَبَلَّغَك، وآتَيْتك مَالاً، وأفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفسِك، فَلَيَنْظرنَّ يَميناً وشِمالاً، فلا يَرى شَيئاً، ثُمَّ لَيَنْظرَنَّ قدَّامَه فَلاَ يَرَى غَيْرَ جَهنَّم، فَمَنِ اسْتَطاعَ أنْ يَقِيَ وَجْهَهُ منَ النَّارِ ولو بشقٍّ منْ تَمْرة، فَلْيَفْعَل، ومن لَمْ يَجد، فَبكَلمَةٍ طيِّبةٍ، فَإنَّ بِهَا تُجْزى اَلحَسنةُ بعَشْرَ أَمْثَالهَا إلى سًبعمائة ضعف، والسلام علَيكَم ورحمة اللّه وبركاته)).

          

قال ابن إسحاق: ثم خطب رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: ((إن الحمد للّه أَحمَدُهُ وأَسْتَعِينُه، نَعوذُ باللّه مِنْ شرور أنْفُسِنا، وسَيِّئاتِ أعْمالِنا مَنْ يَهْدِه اللّه، فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل، فلا هادِيَ له، وأشْهَدُ أن لا إله إلاَّ اللَّهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، إنَّ أحسَن الحَديث كِتابُ اللّه، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَيَّنَه اللّه في قلبه، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر، فاختارَه على ما سواه مِنْ أحاديث النَّاس، إنَّه أَحْسَنُ الحديثِ وأبْلغُه، أَحِبُّوا ما أَحَبَّ اللَّهُ، أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلوبِكُم، ولا تَمَلوا كَلامَ اللَّهِ وذِكْرَه، ولا تَقسُ قُلوبُكم، فإنَّه مِنْ كُلِّ مَا يَخْلُقُ اللّه يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قد سمَّاه اللّه خِيرَته مِنَ الأعمال، ومُصطفَاهُ من العِبَادِ والصَّالح مِنَ الحديث، ومِنْ كُلِّ مَا أُوتيَ النَّاسُ من الحَلالِ وَالحَرَامِ، فاعْبُدوا اللّه ولا تُشْرِكوا به شَيْئاً، واتَّقوه حَقَّ تُقَاتِه، واصْدُقُوا اللَّهَ صالحَ ما تقولون بأفْواهِكم، وَتَحابُّوا بِرُوح اللَّهِ بَيْنكم، إنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنكَثَ عَهْدُه، والسَّلامُ عَلَيكم وَرَحْمَة اللّه وبركاته)).

         

وقد تقدم طرف من خطبته عليه السلام عند ذكر هديه في الخطب.

        

         

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيمُ هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقد اختلف العلماء: هل هو أفضلُ، أم يومُ عرفة؟ على قولين: هما وجهان لأصحاب الشافعي.

                  

وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره بسورتي (الم تنزيل) و (هل أتى على الإِنسان). ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيصُ هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدُهم هذه السورة، استحبَّ قراءة سورة أخرى فيها سجدة، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة، دفعاً لتوهم الجاهلين، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة، لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يَومِها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذِكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يومَ الجمعة، وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرٌ للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصدَ المصلي قراءتها حيثُ اتفقت. فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة.

         

الخاصة الثانية: استحبابُ كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته، لقوله صلى الله عليه وسلم ((أكثِروا مِنَ الصلاة عَلَّي يوم الجُمُعة وَلَيْلَة الجُمُعة)). ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيدُ الأنام، ويوم الجمعة سيدُ الأيام، فللصلاةِ عليه في هذا اليوم مزيةٌ ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أن كل خير نالته أمتُه في الدنيا والآخرة، فإنما نالته على يده، فجمع اللّه لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامة تحصل لهم، فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثَهم إلى منازلهم وقصورِهم في الجنَّة، وهو يومُ المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم فيه يُسعفهم اللّه تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يَرُدُّ سائلهم، وهذا كلُ إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكرِه وحمده، وأداءِ القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن نكثر الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته.

         

الخاصة الثالثة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإِسلام، ومِن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظمُ مِن كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضُه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاوناً بها، طبع اللهُ على قلبه، وقُربُ أهل الجنة يومَ القيامة، وسبقُهم إلى الزيارة يومَ المزيد بحسب قُربهم من الإِمام يومَ الجمعة وتبكيرهم.

         

الخاصة الرابعة: الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمرٌ مؤكد جداً، ووجوبه أقوى مِن وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من مس النساء، ووجوب الوضوءِ مِن مرِّ الذكر، ووجوب الوضوءِ من القهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من الرُّعاف، والحِجامة، والقيء، ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، ووجوب القراءة على المأموم.

         

وللناس في وجوبه ثلاثةُ أقوال: النفيُ والإِثبات، والتفصيلُ بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها، فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه، فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد.

        

 الخاصة الخامسة: التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع.

الخاصة السادسة: السِّواك فيه، وله مزية على السواك في غيره.

الخاصة السابعة: التبكير للصلاة.

الخاصة الثامنة: أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتى يخرج الإِمام.

الخاصة التاسعة: الإِنصات للخطبة إذا سمعها وجوباً في أصح القولين، فإن تركه، كان لاغياً، ومن لغا، فلا جمعة له، وفي ((المسند))، مرفوعاً ((والذي يقول لِصاحِبِه أنصِتْ، فَلا جُمُعَةَ لَهُ)).

         

الخاصة العاشرة: قراءة سورة الكهف في يومها، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَرأَ سُورَةَ الكَهْفِ يَوْمَ الجمُعَةِ، سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِن تَحتِ قَدَمِهِ إلى عَنَانِ السَّمَاء يُضىء بِه يَوْمَ القِيامَةِ، وغُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ)). وذكره سعيد بن منصور مِن قول أبي سعيد الخُدري وهو أشبه.

الجريدة الرسمية