«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. 20
مازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية».. احتفاء واحتفالا بقرب قدوم ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
وفي الباب أحاديث سوى هذه، لكم هذه أمثلها قال الحاكم: صحبتُ جماعةً من أئمة الحديث، فوجدتهم يختارون هذا العددَ، يعني أربعَ ركعات، ويُصلون هذه الصلاة أربعاً، لتواتر الأخبار الصحيحة فيه، وإليه أذهب، وإليه أدعو اتِّباعاَ للأخبار المأثورة، واقتداء بمشايخ الحديث فيه..
قال ابن جرير الطبري وقد ذكر الأخبارَ المرفوعةَ في صلاة الضحى، واختلاف عددها: وليس في هذه الأحاديث حديثّ يدفع صاحبه، وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعاً جائز أن يكون رآه في حال فعلِه ذلك، ورآه غيرُه في حالٍ أخرى صلى ركعتين، ورآه آخرُ في حال أخرى صلاها ثمانياً، وسمعه آخر يحثّ على أن يُصلي ستاً، وآخر يحثُّ على أن يُصلي ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على ثنتي عشرة، فأخبر كلُّ واحد منهم عما رأى وسمع. قال: والدليل على صحة قولنا، ما روِيَ عن زيد بن أسلم قال. سمعتُ عبد اللّه بن عمر يقول لأبي ذر: أوصني يا عم، قال: سألتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال؟ ((مَنْ صَلَّى الضّحَى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يكْتَبْ مِن الغَافِلِينَ، وَمَنْ صَلًى أربَعاً، كتِبَ مِنَ العَابِدين، ومَن صَلَّى سِتّاً، لَمْ يَلْحَقْةُ ذَلِكَ اليَوْمَ ذَنْبٌ، وَمَنْ صَلَّى ثَمانِياَ، كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ صَلَّى عَشْراً بَنى اللَّه لَهُ بَيْتا في الجَنَّة)).
وقال مجاهد: صلَّى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً الضحى ركعتين، ثم يوماً أربعاً، ثم يوماً سِتّاً، ثم يوماً ثمانياً ثم تركَ. فأبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من احتمال خبر كل مُخْبِرٍ ممن تقدم أن يكون إخبارُه لِما أخبر عنه في صلاة الضُّحى على قدر ما شاهده وعاينه.
والصواب: إذا كان الأمر كذلك: أن يُصلّيها من أراد على ما شاء من العدد. وقد روِيَ هذا عن قوم من السلف حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن إبراهيم، سأل رجل الأسود، كم أصلي الضحى؟ قال: كم شئت.
وطائفة ثانية، ذهبت إلى أحاديث الترك، ورجَّحتها من جهة صحة إسنادها، وعمل الصحابة بموجبها، فروى البخاري عن ابن عمر، أنه لم يكن يُصليها، ولا أبو بكر، ولا عمر. قلت: فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: لا إخاله. وقال وكيع: حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الضحى إلا يوماً واحداً. وقال علي بن المديني: حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا شعبة، حدثنا فضيل بن فَضالة، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: رأى أبو بكرة ناساً يُصلون الضحى، قال: إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامَةُ أصحابه.
وفي ((الموطأ)):
عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُروة، عن عائشة قالت: ما سبَّح رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم سُبحةَ الضّحى قطُّ، وإني لأسبِّحُها، وإن كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ليَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشيةَ أن يعمل به الناس، فَيُفرض عليهم.
وقال أبو الحسن علي بن بطَّال: فأخذ قوم من السَّلف بحديث عائشة، ولم يَرَوا صلاةَ الضحى، وقال قوم: إنها بدعة، روى الشعبي، عن قيس بن عُبيد، قال: كنت أختلِف إلى ابن مسعود السَّنَةَ كلَّها، فما رأيتُه مصلياً الضحى. وروى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف، كان لا يصلي الضحى. وعن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجدَ، فإذا ابنُ عمر جالس عند حُجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يُصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة،. وقال مرة: ونِعمَتِ البِدْعةُ.
وقال الشعبي: سمعتُ ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة مِن الضحى، وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى، فقال: الصلوات خمس.
وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غِبّاً، فتُصلى في بعض الأيام دون بعض، وهذا أحدُ الروايتين عن أحمد، وحكاه الطبري عن جماعة، قال: واحتجوا بما روى الجُريري، عن عبد اللّه بن شَقيق، قال: قلتُ لعائشة أكانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يَجيءَ مِن مغيبه ثم ذكر حديث أبي سعيد: كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى، حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها، وقد تقدم. ثم قال كذا ذكر من كان يفعل ذلك مِن السلف وروى شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن عكرمة قال: كان ابنُ عباس يُصليها يوماً، ويدعها عشرة أيام يعني صلاةَ الضحى وروى شعبة، عن عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان لا يُصلي الضحى.
فإذا أتى مسجد قُباء، صلَّى، وكان يأتيه كلَّ سبت. وروى سفيان، عن منصور، قال كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويُصلون ويدعون يعني صلاة الضحى. وعن سعيد بن جبير: إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتماً علي وقال مسروق: كنا نقرأ في المسجد، فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم، فنصلي الضحى، فبلغ ابن مسعود ذلك فقال: لِم تُحمِّلون عبادَ الله ما لم يُحمِّلهم اللَّه؟! إن كنتم لا بُدَّ فاعلين، ففي بيوتكم وكان أبو مِجْلَز يصلي الضحى في منزله.
قال هؤلاء: وهذا أولى لئلا يتوهم متوهمٌ وجوبَها بالمحافظة عليها، أو كونَها سنةَ راتبةً ولهذا قالت عائشة: لو نُشِرَ لي أَبَواي ما تَرَكتها. فإنها كانت تُصليها في البيت حتى لا يراها الناس.
وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تُفعل بسبب من الأسباب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما فعلها بسبب، قالوا: وصلاته صلى الله عليه وسلم يومَ الفتح ثمان ركعات ضحى، إنما كانت مِن أجل الفتح، وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات، وكان الأمراء يُسمونها صلاة الفتح وذكر الطبريَ في ((تاريخه)) عن الشعبي قال: لما فتح خالد بن الوليد الحِجرة، صلَى صلاة الفتح ثمانَ ركعات لم يُسلم فيهن، ثم انصرف. قالوا: وقول أم هانىء: ((وذلك ضحى)). تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى، لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة.
قالوا: وأما صلاته في بيت عِتبان بن مالك، فإنما كانت لسبب أيضاَ، فإن عِتْبان قال له: إنِّي أنكرتَ بصري، وإنَّ السيول تحولُ بيني وبين مسجد قومي، فَودِدتُ أنك جئت، فصليتَ في بيتي مكاناً أتخذه مسجداَ، فقال: ((أفعل إن شاء الله تعالى)) قال: فغدا عليَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه بعدما أشتدَّ النهارُ فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلِس حتى قال: ((أين تحِبّ أَن أصَلِّيَ مِن بَيتِكَ))،؟ فأشرت إليه من المكان الذي أُحب أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، وصلى، ثم سلم، وسلمنا حين سلم. متفق عليه.
فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها، ولفظ البخاري فيها، فاختصره بعض الرواة عن عِتبان، فقال: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صلَّى في بيتي سُبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلَّوْا.
وأما قولُ عائشة: لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى إلا أن يَقْدَمَ مِنْ مغيبه، فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب، فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا. قَدِمَ من سفر، بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين.
فهذا كان هديَه، وعائشةُ أخبرت بهذا وهذا، وهي القائلةُ: ((ما صلَّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاةَ الضحى قطّ)).
فالذي أثبتته فعلها بسبب، كقدومه من سفر، وفتحه، وزيارتِه لقوم ونحوه، وكذلك إتيانُه مسجد قباء للصلاة فيه، وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن أبي بكر، حدَّثنا سلمة بن رجاء، حدَّثتنا الشعثاء، قالت: رأيتُ ابنَ أبي أوفى صلى الضُّحى ركعتين يوم بُشِّر برأس أبي جهل. فهذا إن صحَّ فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشُكر الفتح والذيَ نفته، هو ما كان يفعله الناس، تصلونها لغير سبب، وهي لم تقل: إن ذلك مكروه، ولا مخالفٌ لسنته، ولكن لم يكن مِن هديه فعلُها لغير سبب. وقد أوصى بها وندب إليها، وحضَّ عليها، وكان يَستغني عنها بقيام الليل، فإن فيه غُنية عنها وهي كالبدل منه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذي جَعَلَ اللَيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَن أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرادَ شُكورَاً} [الفرقان: 62] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: عوضاً وخلفاً يقوم أحدُهما مقامَ صاحبه، فمن فاته عمل في أحدهما، قضاه في الآخر.
قال قتادة: فأدوا للّه من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيَّتان يُقحِمَان الناسَ إلى آجالهم، ويُقرِّبان كلَّ بعيد، ويبليان كلَّ جديد، ويَجيئان بكلَّ موعود إلى يوم القيامة.
وقال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاةُ الليلة، فقال: أدرك ما فاتك مِن ليلتك في نهارك، فإن اللّه عزّ وجل جعل الليلَ والنهار خِلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شُكورا.
قالوا: وفِعل الصحابة رضي اللّه عنهم يدل على هذا، فإن ابن عباس كان يُصليها يوماً، ويدعها عشرة، وكان ابنُ عمر لا يصليها، فإذا أتى مسجد قُباء، صلاها، وكان يأتيه كلَّ سبت وقال سفيان، عن منصور: كانوا يكرهون أن يُحافظوا عليها، كالمكتوبة، ويصلون ويَدعون، قالوا: ومِن هذا الحديثُ الصحيح عن أنس، أن رجلاً من الأنصار كان ضخماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أستطيع أن أُصليَ معك، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، ودعاه إلى بيته، ونضح له طرفَ حصير بماء، فصلى عليه ركعتين قال أنس ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم رواه البخاري.
ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثارَ الصحابة، وجدها لا تدل إلا على هذا القول، وأما أحاديثُ الترغيب فيها، والوصيةُ بها، فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لايدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، وإنما أوصى أبا هريرة بذلك، لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل، ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة.
وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، وبعضها منقطع، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به، كحديث يروى عن أنس مرفوعاً ((مَنْ دَاوَمَ على صَلاَةِ الضُّحَى ولمْ يَقطَعْهَا إلا عَنْ عِلّة، كنتُ أَنَا وَهُو في زَوْرَقٍ مِنْ نُورٍ في بَحرٍ مِنْ نورٍ)) وضعه زكريا بن دُويد الكِندي، عن حميد.
وأما حديث يعلى بن أشدق، عن عبد الله بن جراد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صَلَّى مِنْكُم صلاَةَ الضُحى، فَلْيصلها مُتَعَبِّداً، فإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّيها السَّنَةَِ من الدَّهْرِ ثمَّ يَنسَاهَا وَيَدَعهَا، فَتَحِنُّ إليهِ كَمَا تَحِنُّ النَّاقَة إلى وَلَدِهَا إذا فَقَدَته)) فيا عجباً للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله، فإنه يروي هذا الحديثُ في كتاب أفرده للضحى، وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى نسخة يعلى بن الأشدق. وقال ابن عدى: روى يعلى بن الأشدق، عن عمه عبد اللّه بن جراد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمُّه غيرُ معروفين، وبلغي عن أبي مسهر، قال: قلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمُّك من حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جامعَ سفيان، وموطأ مالك، وشيئاً من الفوائد. وقال أبو حاتم بن حبان: لقي يعلى عبد اللّه بن جراد، فلما كَبِر، اجتمع عليه من لا دِين له، فوضعوا له شهباً بمائتي حديث، فجعل يحدِّث بها وهو لا يدري، وهو الذي قال له بعضُ مشايخ أصحابنا: أيُّ شيء سمعته من عبد اللّه بن جراد؟ فقال: هذه النسخة، وجامعُ سفيان لا تحِلُ الرواية عنه بحال.
وكذلك حديثُ عمر بن صُبح عن مقاتل بن حيان حديث عائشة المتقدم: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة، وهو حديث طويل ذكره الحاكم في ((صلاة الضحى)) وهو حديث موضوع، المتهم به عمر بن صبح قال البخاري: حدَثني يحيى، عن علي بن جرير، قال سمعت عمر بن صبح يقول: أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عدى منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يَحِلّ كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه، وقال الدارقطني: متروك، وقال الأزدي كذاب.
وكذلك حديثُ عبد العزيز بن أبان، عن الثوري، عن حجاج بن فُرَافِصة، عن مكحول، عن أبي هريرة مرفوعاً ((مَن حَافظَ عَلَى سبحَةِ الضّحى، غُفِرَتْ ذُنوبه، وإن كانت مثل عَدَدِ الجَرَادِ، وَأَكثر مِنْ زبَدِ البَحرِ)) ذكره الحاكم أيضاً. وعبد العزيز هذا، قال ابن نمير: هو كذّاب، وقال يحيى: ليس بشيء، كذاب خبيث يضع الحديث، وقال البخاري، والنسائي، والدارقطني: متروكُ الحديث.
وكذلك حديث النهاس بن قهم، عن شداد، عن أبي هريرة يرفعه ((من حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُحَى، غُفِرَتْ ذُنُوبُه وَإنْ كَانَتْ أَكْثَر مِن زَبَدِ البحر)). والنهاس، قال يحيى: ليس بشيء ضعيف كان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: لايساوى شيئاً، وقال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، وقال الدارقطني: مضطرب الحديث، تركه يحيى القطان.
وأما حديث حُميد بن صخر، عن المقبري، عن أبي هريرة: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بعثاً الحديثَ، وقد تقدم. فحميد هذا ضعفه النسائي، ويحيى بن معين، ووثقه آخرون، وأُنكِرَ عليه بعض حديثه، وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد واللّه أعلم.
وأما حديث محمد بن إسحاق، عن موسى، عن عبد الله بن المثنى، عن أنس، عن عمه ثُمامة، عن أنس يرفعه ((مَنْ صَلَّى الضُّحَى، بنى الله له قَصْراً في الجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ))، فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذيَ: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وأما حديث نعيم بن همَّار: ((ابن آدَمَ لاَ تَعْجِزْ لي عَنْ أرْبَعِ ركَعَات فى أوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ))، وكذلك حديث أبي الدرداء، وأبي ذر، فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها.
وكان مِن هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجودُ الشكر عند تجدُّد نِعمة تسُرُ أو اندفاع نِقمة، كما في ((المسند)) عن أبي بكرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه، خرَّ لله سَاجِداً شُكْراً لله تَعَالى.
وذكر ابنُ ماجه، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم بُشِّرَ بحَاجَةٍ، فخَرَّ للّه سَاجِداً.
وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري، أن علياً رضي الله عنه، لما كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همْدَان، خرَّ ساجداً ثم رفع رأسه، فقال: ((السَّلاَم عَلَى هَمْدَانَ، السَّلاَمَ عَلى هَمْدان)) وصدر الحديث في صحيح البخاري وهذا تمامه بإسناده عند البيهقي.
وفي ((المسند)) من حديث عبد الرحمن بن عوف، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، سجد شكراً لما جاءته البُشرى من ربه، أنه من صلَّى عليك، صلَّيْت عليه، ومن سلَّم عليك، سلمتُ عليه.
وفي سنن أبي داود من حديث سعد بن أبي وقاص، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رفع يديه فسأل اللّه ساعة، ثم خرّ ساجداً ثلاثَ مرات، ثم قال: ((إنِّي سَأَلْتُ رَبي وشَفَعْتُ لأمَّتي، فَأَعْطَاني ثلُثَ أُمَّتي، فَخرَرْت سَاجِداً شُكْرَاً لِرَبِّي، ثُمَّ رَفعت رأسْي، فَسَألتُ رَبِّي لأمَّتي، فَأَعْطَاني الثُّلثَ الثاني، فَخَرَرَت سَاجداً شكْراً لِرَبي ثمّ رَفَعت رَأسي، فَسَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتي، فأعطَاني الثُّلثَ الآخَرَ، فَخَررَتُ ساجداً لربِّي)).
وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة اللّه عليه، ذكره البخاري.
وذكر أحمد عن علي رضي اللّه عنه، أنه سجد حين وجد ذا الثُّدَيَّة في قتلى الخوارج.
وذكر سعيد بن منصور، أن أبا بكر الصِّديق رضي اللّه عنه، سجد حين جاءه قتلُ مسيلِمة.
هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن
كان صلى الله عليه وسلم، إذا مرَّ بسجدة، كبَّر وسجد، وربما قال في سجوده ((سَجَدَ وَجهي لِلّذي خَلَقَهُ وَصوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصرَهُ بِحَولِهِ وَقُوَّتِهِ)).
وربما قال: ((اللَّهم احطط عَنِّي بها وِزرا، واكْتُب لي بها أَجْرَاً، واجْعَلْهَا لي عِنْدَكَ ذُخْرَاً، وَتَقبَّلها مِنِّي كَمَا تَقَبَّلتَها مِن عَبْدِكَ داودَ)). ذكرهما أهل السنن.
ولم يُذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود، ولذلك لم يذكره الخِرقي ومتقدمو الأصحاب، ولا نُقِلَ فيه عنه تشهد ولا سلام البتة وأنكر أحمد والشافعي السلامَ فيه، فالمنصوص عن الشافعي: إنه لا تشهدَ فيه ولا تسليم، وقال أحمد: أما التسليمُ، فلا أدري ما هو، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد في (الم تنزيل)، وفي (ص)، وفي (النجم) وفي؟ (إذا السَماء انشقَّت)، وفي (اقرأ باسْم رَبِّكَ الذي خَلَق).
وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أقرأه خمسَ عشرة، سجدة، منها ثلاث في المفصّل، وفي سورة الحج سجدتان.
وأما حديث أبي الدرداء، سجدت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة، ليس فيها من المفصَّل شيء: (الأعراف)، و(الرعد)، و(النحل)، و(بني إسرائيل)، و(مريم)، و(الحج)، و(سجدة الفرقان)، و(النمل)، و(السجدة)، وصلى الله عليه وسلم، و(سجدة الحواميم)، فقال أبو داود: روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة، وإسناده واهٍ.
وأما حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة. رواه أبو داود فهو حديث ضعيف، في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد، لا يحتج بحديثه. قال الإِمام أحمد: أبو قدامة مضطرِب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال النسائي: صدوق عنده مناكير، وقال أبو حاتم البستي: كان شيخاً صالحاً ممن كثر وهمه وعلَّله ابن القطان بمطر الوراق، وقال: كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراجُ حديثه انتهى كلامه.
ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلِط فيه، فغلِط في هذا المقام من استدرك عليه إخراجَ جميع حديث الثقة، ومن ضعَّف جميع حديث سيىء الحفظ، فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن واللّه المستعان.
وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في (اقرأ باسْم رَبِّكَ الَذي خَلَق)، وفي (إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت)، وهو إنما أسلم بعد مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدَينة بست سنين أو سبع، فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لتعين تقديمُ حديث أبي هريرة، لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس، فكيف وحديثُ أبي هريرة في غاية الصحَة متفق على صحته، وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه. واللّه أعلم.