رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. 15

فيتو

مازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية».. احتفاء واحتفالا بقرب قدوم ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...

 

 

الوجه الرابع: أن طرق أحاديث أنس تُبين المراد، ويصدق بعضها بعضاً، ولا تتناقض. وفي ((الصحيحين)) من حديث عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت، فقلت: كان قبلَ الركوع أو بعده؟ قال: قبله؟ قلتُ: وإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعدَه. قال: كذب، إنما قلت: قنتَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً.


 وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم، وسائر الرواة. عن أنس خالفوه، فقالوا: عاصم ثقة جداً، غيرَ أنه خالف أصحابَ أنس موضع القنوتين، والحافظ قد يهم، والجواد قد يعثُر، وحكوا عن الإِمام أحمد تعليله، فقال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: أيقول أحد في حديث أنس: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غيرَ عاصم الأحول؟ فقال: ما علمتُ أحداً يقوله غيرُه. قال أبو عبد اللّه: خالفهم عاصم كُلَّهم، هشام عن قتادة عن أنس، والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قنت بعد الركوع، وأيوبُ عن محمد بن سيرين قال: سألت أنسا. وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه. وأما عاصم فقال: قلت له؟ فقال: كذبوا، إنما قنتَ بعد الركوع شهراً. قيل له: من ذكره عن عاصم؟ قال: أبو معاوية وغيره، قيل لأبي عبد اللّه: وسائر الأحاديث أليس إنما هي الركوع؟ فقال: بلى كلها عن خُفاف بن إيماء بنِ رَحْضَة، وأبي هريرة.

         

قلت لأبي عبد الله: فلم ترخص إذاً في القنوت قبل الركوع، وإنما صح الحديثُ بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا بأس، لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واختلافهم، فأما في الفجر، فبعد الركوع.

         

فيقال: من العجب تعليلُ هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن أيوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقل من تحمَّل مذهباً، وانتصر له في كل شيء إلا اضطر إلى هذا المسلك.

         

فنقول وبالله التوفيق: أحاديث أنس كلها صحاح، يُصدِّق بعضُها بعضاً، ولا تتناقضُ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غيرُ القنوت الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالةُ القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَفْضلُ الصَّلاَةِ طُولُ القنُوتِ)) والذي ذكره بعده، هو إطالةُ القيام للدعاء، فعله شهراً يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرَّ يُطيل هذا الركنَ للدعاء والثناء، إلى أن فارق الدنيا، كما في ((الصحيحين)) عن ثابت، عن أنس قال: إني لا أزال أُصلي بكم كما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائلُ: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكُث، حتى يقول القائلُ: قد نسي. فهذا هو القنوتُ الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا.

         

ومعلوم أنه لم يكن يسكُت في مثل هذا الوقوف الطويل، بلَ كان يثني على ربه، ويُمجِّده، ويدعوه، وهذا غيرُ القنوتِ الموقَّت بشهر، فإن ذلك دعاء على رِعل وذَكوان وعُصيَّة وبني لِحيان، ودُعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة. وأما تخصيصُ هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه. وأيضاً، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة، وكان كما قال البراء بن عازب: ركُوعُه، واعتداله، وسجودُه، وقيامُه متقارباً. وكان يظهرُ مِن تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك. ومعلوم أنه كان يدعو ربه، ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا قنوتٌ منه لا ريبَ، فنحن لا نشكُّ ولا نرتابُ أنه يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.

 

                   

ولما صار القنوتُ في لِسان الفقهاء وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف: اللهم اهدني فيمن هديت... إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاءُ الراشدون وغيرهم من الصحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَن لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا مداومين عليه كلَّ غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهورُ العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبُت عنه أنه فعله.

         

وغاية ما رُوي عنه في هذا القنوت، أنه علمه للحسن بن علي، كما في ((المسند)) و ((السنن)) الأربع عنه قال: علَّمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهن في قُنوت الوترِ: ((اللَّهُمّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا أَعْطيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإنَكَ تَقْضِي، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّه لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ))) قال الترمذي: حديث حسن، ولا نعرف في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أحسنَ من هذا، وزاد البيهقي بعد ((وَلاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ))، ((وَلاَ يَعِزُّ مَن عَادَيْتَ)).

                 

 وممّا يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيامُ للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب: حدثنا أبو هلال، حدثنا حنظلة إمامُ مسجد قتادة، قلت: هو السدوسي، قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت، أنا: بعد الركوع، فأتينا أنس بن مالك، فذكرنا له ذلك، فقال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فكبر، وركع، ورفع رأسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبر، وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة ثم وقع ساجداً. وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، وهو يُبين مراد أنس بالقنوت، فإنه ذكره دليلاً لمن قال: إنه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو كان مرادَ أنس، فاتفقت أحاديثُه كلُها، وباللّه التوفيق. وأما المروي عن الصحابة، فنوعان:

         

أحدُهما: قنوت عند النوازل، كقنوتِ الصديق رضي اللّه عنه في محاربه الصحابة لمسيلِمة، وعِند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوتُ عمر، وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام.

         

الثاني: مطلَق، مرادُ من حكاه عنهم به تطويلُ هذا الركن للدعاء والثناء، واللّه أعلم.



◄هديه صلى الله عليه وسلم في سجود السهو


         

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُوني)).

        

وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة اللّه على أمته، وإكمالِ دينهم، ليقتدوا به فيما يشرعُه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في ((الموَطأ)): ((إِنَّمَا أنْسَى أوْ أنَسَّى لأَسُنَ)).

                 

وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فيترتب على سهوه أحكامٌ  شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة، فقام صلى الله عليه وسلم من اثنتين في الرُّباعية، ولم يجلس بينهما، فلما قض صلاته، سجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم، فأخذَ من هَذا قاعدة: أن من ترك شيئاً من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهواً، سَجد له قبل السلام، وأخذَ من بعض طرقه أنه: إذا ترك ذلك وشرع في ركن، لم يرجع إلى المتروك، لأَنه لما قام، سَبَّحُوا، فأشار إليهم: أن قوموا.

        

واختلف عنه في محل هذا السجود، ففي ((الصحيحين)) من حديث عبد اللّه بن بُحَيْنَة، أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثْنَتَيْنِ من الظهر، ولم يَجْلس بينهما، فلما قضى صلاته، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم سلًّم بعد ذلكَ.

        

وفي رواية متفق عليها: يكَبِّر في كل سجدة وهو جالِس قبل أن يُسَلِّمَ.

        

وفي ((المسند)) من حديث يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن زياد بن عِلاقة قال: صلَّى بنا المغيرةُ بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلِس، فسبَّح به مَن خلفه، فَأشار إليهم: أن قوموا، فلما فَرَغَ من صلاته، سلَّم، ثم سجد سجدتين، وسلَّم، ثم قال: هكذا صنع بنا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، وصححه الترمذي

        

وذكر البيهقي من حديث عبد الرحمن بن شمَاسَة المَضري قال: صلَّى بنا عقبة بن عامر الجُهني، فقام وعليه جلوسٌ، فقالَ الناس: سُبحانَ اللَّهِ، سبحان اللَّه، فلم يجلس، ومضى على قيامه، فلما كان في آخر صلاته، سجد سجدتي السَهو وهو جاَلس، فلما سلَّم، قال: إني سمعتكم آنفاً تقولون: سبحانَ اللَّهِ لكيما أجلس، لكِنَّ الَسُّنَّةَ الَّذِي صنَعْت وحديث عبد اللّه بن بُحينة أولى لثلاثة وجوه.

        

أحدها: أنه أصحُّ من حديث المغيرة.

        

الثاني: أنه أصرح منه، فإن قول المغيرة: وهكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجوز أن يرجع إلى جميع ما فعل المغيرة، ويكون قد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا،السهو مرة قبل السلام، ومرة بعده، فحكى ابن بُحينة ما شاهده، وحكى المغيرةُ ما شاهده، فيكون كِلا الأمرين جائزاً، ويجوز أن يُريد المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قام ولم يرجع، ثم سجد للسهو.

        

الثالث: أن المغيرة لعله نسي السجود قبل السلام وسجده بعده، وهذه صفة السهو، وهذا لا يمكن أن يقال في السجود قبل السلام، واللّه أعلم.

        

وسلّم صلى الله عليه وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العَشِيِّ، إما الظُّهرِ، وإما العَصْرِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ، ثُمَّ أتَمَّهَا، ثُمَّ سلَّم، ثمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بعد السَّلامِ والكلام، يُكبِّر حِين يسجدُ، ثمَّ يُكبِّر حين يرفع.

        

وذكر أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم، وقال الترمذي: حسن غريب.

        

وصلى يوماً فسلَّم وانصرف، وقد بقي مِن الصلاة ركعة، فأدركه طلحةُ بن عبيد اللّه، فقال: نسيتَ من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى للناس رَكْعَةً ذكره الإِمام أحمد رحمه اللّه.

        

وصلى الظهر خمساً، فقيل له: زِيدَ في الصلاة؟ قال: وما ذاكَ؟ قالوا: صليتَ خمساً، فسجَدَ سجدتين بعدما سلم. متفق عليه.

        

وصلى العصر ثلاثاً، ثم دخل منزله، فذكَّره الناس، فخرج فصلى بهم ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم.

        

فهذا مجموعُ مَا حُفِظَ عنه صلى الله عليه وسلم من سهوه في الصلاة، وهو خمسة مواضع، وقد تضمن سجودهُ في بعضه قبلَ السلام، وفي بعضه بعدَه.

        

فقال الشافعي رحمه اللّه: كُلُّه قبل السلام.

        

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: كُلُه بعد السلام.

        

وقال مالك رحمه اللّه: كُلُّ سهو كان نقصاناً في الصلاة، فإن سجوده قبل السلام، وكُلُّ سهو كان زيادة في الصلاة، فإن سجوده بعد السلام، وإذا اجتمع سهوانِ: زيادة ونقصان، فالسجودُ لهما قبل السلام.

        

قال أبو عمر بن عبد البر: هذا مذهبُه لا خلاف عنه فيه، ولو سجد أحد عنده لسهوه بخلاف ذلك، فجعل السجود كلَّه بعد السلام، أو كلَّه قبل السلام، لم يكن عليه شيء، لأنه عنده من باب قضاء القاضي باجتهاده، لاختلاف الآثار المرفوعةِ، والسلفِ من هذه الأمة في ذلك.

        

وأما الإِمام أحمد رحمه اللّه، فقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن سجود السهو: قبل السلام، أم بعده؟ فقال: في مواضع قبل السلام، وفي مواضع بعده، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين سلَّم من اثنتين، ثم سجد بعد السلام، على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين.

        

ومن سلم من ثلاث سجد أيضاً بعد السلام على حديث عمران بن حصين وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود، وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث ابن بُحينة وفي الشك يَبني على اليقين، ويسجدُ قبل السلام على حديثِ أبي سعيد الخدرى وحديثِ عبد الرحمن بن عوف.

        

قال الأثرم: فقلتُ لأحمد بن حنبل: فما كان سِوى هذه المواضع؟ قال يسجدُ فيها كلِّها قبل السلام، لأنه يتم ما نقص من صلاته، قال: ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، لرأيتُ السجودَ كلَّه قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة، فيقضيه فى السلام، ولكن أقولُ: كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام، يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام.

        

وقال داود بن علي: لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع سجد فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

                 

وأما الشكُّ، فلم يَعرِض له صلى الله عليه وسلم، بل أمر فيه بالبناء على اليقين، وإسقاط الشك، والسجود قبل السلام. فقال الإِمامُ أحمد: الشكُّ على وجهين: اليقين والتحري، فمن رجع إلى اليقين، ألغى الشك، وسجَد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري، وإذا رجع إلى التحرِّي وهو أكثرُ الوهم، سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور. انتهى.

         

وأما حديث أبي سعيد، فهو ((إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فلَمْ يَدْرِ كَمَْ صلى أَثَلاَثاً أَمْ أَرْبَعَاً، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَليَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أن يُسَلِّمَ))

        

 وأما حديثُ ابن مسعود، فهو ((إِذَا شَكَّ أَحَدُكُم فِي صَلاَتِهِ، فليتحر الصَّوَابَ، ثُمَّ لِيَسجُد سَجدَتَينِ)) متفق عليهما. وفي لفظ ((الصحيحين)): ((ثم يُسَلِّم، ثمَّ يَسْجدَ سَجدَتَينِ)) وهذا هو الذي قال الإِمامُ أحمد، وإذا رجع إلى التحري، سجد بعد السلام.

         

والفرق عنده بين التحري واليقين، أن المصلي إذا كان إماماً بنى على غالب ظنِّه وأكثرِ وهمه، وهذا هو التحري، فسجد له بعد السلام على حديثِ ابن مسعود، وإن كان منفرداً، بنى على اليقين، وسجد قبل السَّلام على حديثِ أبى سعيد، وهذه طريقةُ أكثر أصحابه في تحصيل ظاهر مذهبه. وعنه: روايتان.أخريان: إحداهما: أنه يبني على اليقين مطلقاً، وهو مذهبُ الشافعي ومالك، والأخرى: على غالب ظنه مطلقاً، وظاهر نصوصه إنما يدل على الفرق بين الشك، وبين الظن الغالب القوي، فمع الشكِّ يبني على اليقين، ومع أكثرِ الوهم أو الظنِّ الغالب يتحرَّى، وعلى هذا مدارُ أجوبته. وعلى الحالين حملُ الحديثين، واللّه أعلم. وقال أبو حنيفة رحمه اللّه في الشك: إذا كان أوّلَ مَا عَرَضَ له، استأنفَ الصلاة، فإن عرض له كثيراً، فإن كان له ظنٌّ غالب، بنى عليه، وإن لم يكن له ظن، بنى على اليقين.

 

         

ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميضُ عينيه في الصلاة، وقد تقدم أنه كان في التشهد يُومىء ببصره إلى أصبعه في الدعاء، ولا تجَاوِزُ بَصرهُ إشارتَه 

         

وذكر البخاري في ((صحيحه)) عن أنس رضي اللّه عنه قال: كان قِرَامٌ لعائشة، سترت به جانِبَ بيتها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَمِيطِي عَنِّي قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَة لاَ تَزَالَ تصاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي في صَلاَتِي)) ولو كان يُغمض عينيه في صلاته، لما عَرَضَتْ له في صلاته. وفي الاستدلال بهذا الحديث نظرٌ، لأن الذي كان يعرِض له في صلاته: هل تذكُّر تلك التصاوير بعد رؤيتها، أو نفس رؤيتها؟ هذا محتمل، وهذا محتمل، وأبينُ دلالةَ منه حديثُ عائشة رضي اللّه عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى في خَمِيصَةٍ لها أعلامٌ، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: ((اذْهَبُوا بِخَمِيصَتي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وأْتُونِي بِانْبِجانِيَّةِ أَبِي جَهمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنى آنفاً صَلاَتِي)).



وفي الاستدلال بهذا أيضاً ما فيه، إذ غايتُه أنه حانت منه التفاتة إليها فشغلته تلك الالتفاتةُ ولا يدُلُ حديثُ التفاته إلى الشِّعب لما أرسل إليه إليه الفارس طليعة، لأن ذلك النظرَ والالتفاتَ منه كان لِلحاجة، لاهتمامه بأمورِ الجيش، يدُلُ على ذلك مَدُّ يده في صلاة الكسوف ليتناولَ العُنقود لما رأى الجنة، وكذلك رؤيتهُ النَّارَ وصاحبةَ الهرة فيها، وصاحِبَ المِحْجَنِ وكذلك حديثُ مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمر بين يديه، وردُّه الغلامَ والجارية، وحجزُه الجاريتين، وكذلك أحاديثُ ردِّ السلام بالإِشارة على من سلم عليه و الصلاة، فإنه إنما كان يُشير إلى من يراه، وكذلك حديثُ تعرُّضِ الشيطان له فأخذه فخنفه، وكان ذلك رؤيةَ عين، فهذه الأحاديثُ وغيرُها يُستفاد مِن مجموعها العلم بأنه لم يكن يُغْمِضُ عينيه في الصلاة.

        


 وقد اختلف الفقهاء في كراهته، فكرِهه الإِمامُ أحمد وغيرُه، وقالوا:هو فعلُ اليهود، وأباحه جماعة ولم يكرهوه، وقالوا: قد يكونُ أقربَ إلى تحصيل الخشوع الذي هو روحُ الصلاة وسرُّها ومقصودها. والصواب أن يُقال: إن كان تفتيحُ العين لا يُخِلُ بالخشوع، فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يُشوش عليه قلبه، فهنالك لا يُكره التغميضُ قطعاً، والقولُ باستحبابه في هذا الحال أقربُ إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة، والله أعلم.

 

فيما كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة، وجلوسِه بعدَها، وسرعةِ الانتقال منها، وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها

        

كان إذا سلم، استغفر ثلاثاً، وقال: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، ومنكَ السلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ))

        

ولم يمكث مستقبِلَ القِبلة إلا مقدارَ ما يقولُ ذلك، بل يُسرع الانتقالَ إلى المأمومين.

وكان ينفتِل عن يمينه وعن يساره، وقال ابن مسعود: رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرِف عن يساره. 

        

وقال أنس: أكثرُ ما رأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه، والأول فى ((الصحيحين)) والثاني في ((مسلم)).

        

وقال عبد الله بن عمرو: رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفتِلُ عن يمينه وعن يساره في الصلاة.

       

ثم كان يُقبِل على المأمومين بوجهه، ولا يخصُّ ناحيةً منهم دون ناحية.

        

وكان إذا صلى الفجرَ، جلس في مصلاه حتى تَطْلُعَ الشمسُ.

                 

وكان يقولُ في دُبُر كلِّ صلاة مكتوبة: ((لاَ إله إِلاَّ اللّه وَحْدَه لاَ شَرِيكَ لَهُ،له المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانعَ لِمَا أَعْطَيْتَ،وَلا معْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ))

        

وكان يقول: ((لاَ إله إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلهُ الْحَمدُ، وَهوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَديرٌ، وَلاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّه، لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، وَلا نَعْبُدُ إلاَ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلًهُ الَفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لاَ إله إِلاًّ اللًّهُ، مُخْلصينَ لَهُ الدًّينَ وَلَو كَرِه الْكَافِرُونَ)) 

        

وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم من الصلاة قال: ((اللَّهُمَّ اغْفرْ لي مَا قَدًّمْتُ، وَمَا أخَّرْت، وَمَا أسْرَرْتُ، وَمَا أعْلَنْتُ، وَمَا أسْرَفتُ، وَمَا أنْتَ أَعْلَمُ به منِّي، أنْتَ المُقَدِّمُ، وَأنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إلهَ  إِلا اْنْتَ)).

        

هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاح الصلاة والسلام، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده. 

        

ولمسلم فيه لفظان:

        

أحدُهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم، وهذا هو الصواب

والثاني: كان يقوله بعد السلام، ولعله كان يقوله في الموضعين، واللّه أعلم.

الجريدة الرسمية