«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. 13
مازالت القراءة مستمرة في
كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام
العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم
الجوزية».. احتفاء واحتفالا بقرب قدوم ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير
الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة،
والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة
بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم،
ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
وقال الخلال: أخبرني الميموني أن أبا عبد اللّه قيل له: إن بعض الناس أسند أن النبي صلى الله عليه وسلم. كان يلاحظ في الصلاة. فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، حتى تغير وجهُه، وتغير لونُه، وتحرك بدنُه، ورأيتُه في حال ما رأيتُه في حالٍ قطُّ أسوأ منها، وقال. النبي صلى الله عليه وسلم. كان يُلاحظ في الصلاة؟! يعني أنه أنكر ذلك، وأحسبه قال: ليس له إسناد، وقال: من روى هذا؟! إنما هذا من سعيد بن المسيب، ثم قال لي بعض أصحابنا: إن أبا عبد اللّه وَهَّنَ حديثَ سعيد هذا، وضعف إسناده..
وقال: إنما هو عن رجل عن سعيد، وقال عبد اللّه بن أحمد: حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبد الملك الكوفي قال: سمعت العلاء قال: سمعت مكحولاً يحدِّث عن أبي أمامة وواثلة: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يميناً ولا شمالاً، ورَمَى ببصره في موضع سجوده، فأنكره جداً، وقال: اضِرب عليه. فأحمد رحمه اللّه أنكر هذا وهذا، وكان إنكارُه للأول أشد، لأنه باطل سنداً ومتناً.
والثاني: إنما أنكر سنده،
وإلا فمتنه غير منكر، واللّه أعلم.
ولو ثبت الأول، لكان
حكاية فعل فَعَلَهُ، لعله كان لمصلحة تتعلق بالصلاة ككلامه عليه السلام هو وأبو
بكر وعمر، وذو اليدين في الصلاة لمصلحتها، أو لمصلحة المسلمين، كالحديث الذي رواه
أبو داود عن أبي كبشة السَّلُولي عن سَهْلِ بن الحنظلية قال: ثُوبَ بالصلاة يعني صلاةَ
الصبح، فجعل رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، يصلي وهو يلتفِتُ إلى الشِّعبِ. قال
أبو داود: يعني وكان أرسل فارساً إلى الشِّعب من الليل يَحْرُسُ فهذا
الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة وهو يدخل في مداخل العبادات، كصلاة الخوف،
وقريبٌ منه قولُ عمر: إني لأجهِّز جيشي وأنا في الصلاة. فهذا جمع بين الجهاد
والصلاة. ونظيره التفكر في معاني القرآن، واستخراجُ كنوز العلم منه في الصلاة،
فهذا جمعٌ بين الصلاة والعلم، فهذا لون، والتفاتُ الغافلين الَّلاهين
وأفكارهم لون آَخر.
فهديه الراتب صلى الله
عليه وسلم إطالةُ الركعتين الأوليين من الرُّباعية على الأُخريين، وإطالة الأولى
من الأوليين على الثانية، ولهذا قال سعد لعمر: أما أنا فأطيلُ في الأوليين، وأحذف
في الأُخريين، ولا آلُو أن أقتديَ بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كان هديُه صلى الله
عليه وسلم. إطالَة صلاة الفجر على سائر الصلوات، كما تقدم. قالت عائشة رضي اللّه
عنها: فرض اللَّهُ الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم،زِيد في صلاة الحضر، إلا الفجر، فإنها أُقِرَّت على حالها من أجل طول
القراءة، والمغرب، لأنها وتر النهار. رواه أبو حاتم بن حبان في ((صحيحه)) وأصله في
((صحيح البخاري))، وهذا كان هديَه صلى الله عليه وسلم في سائر صلاته إطالةُ أولها
على آخرها، كما فعل في الكسوف، وفي قيام الليل لما صلَّى ركعتين طويلتين، ثم
ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، حتى أتم صلاته.
ولا يُناقض هذا افتتاحَه صلى الله عليه وسلم صلاة الليل بركعتين خفيفتين، وأمره
بذلك، لأن هاتين الركعتين مفتاحُ قيام الليل، فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها.
وكذلك الركعتان اللتان
كان يُصليهما أحياناً بعد وتره، تارة جالِساً، وتارة قائماً، مع قوله: ((اجْعَلُوا
آخرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْراً)) فإن هاتين الركعتين لا تُنافيان هذا
الأمر، كما أن المغرب وترُ للنهار، وصلاةُ السنة شفعاً بعدها لا يُخرجها عن كونها وتراً
للنهار، وكذلك الوترُ لمَا كان عبادة مستقلة، وهو وتر الليل، كانت الركعتان بعده
جاريتين مجرى سنة المغرب، من المغرب، ولما كان المغرب فرضاً، كانت محافظته عليه
السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر، وهذا على أصل من يقول بوجوب
الوتر ظاهرٌ جداً، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء اللّه تعالى، وهي
مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف، وباللّه التوفيق.
وكان صلى الله عليه وسلم
إذا جلس في التشهد الأخيرِ، جلس متورِّكاً، وكان يُفضي بوركه إلى الأرض، ويُخرج
قدمه من ناحية واحدة.
فهذا أحد الوجوه الثلاثة
التي رُويت عنه صلى الله عليه وسلم في التورُّكِ. ذكره أبو داود في حديث أبي حُميد
الساعدي من طريق عبد اللّه بن لهيعة وقد ذكر أبو حاتم في ((صحيحه)) هذه الصفة من
حديث أبي حميد الساعدي من غير طريق ابن لهيعة، وقد تقدم حديثه.
الوجه الثاني: ذكره
البخاري في ((صحيحه)) من حديث أبي حميد أيضاً قال: وإذا جلس في الرَّكعة الآخرة،
قَدَّم رجله اليُسرى ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته فهذا هو الموافق الأول في
الجلوس على الوَرِك، وفيه زيادة وصف في هيئة القَدَمَين لم تتعرض الرواية الأولى
لها.
الوجه الثالث: ما ذكره
مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبد اللّه بن الزبير: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل
قدمه اليُسرى بين فخذه وساقه، ويفرشُ قدمه اليمنى، وهذه هي الصفة التي اختارها أبو
القاسم الخِرَقِي في ((مختصره)) وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه
الأيمن، وفي نصب اليُمنى، ولعله كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا أظهر.
ويحتمِل أن يكون من
اختلاف الرواة، ولم يُذكر عنه عليه السلام هذا التوركُ إلا في التشهد الذي يليه
السلام. قال الإِمام أحمد ومن وافقه: هذا مخصوصٌ بالصلاة التي فيها تشهدان، وهذا
التورك فيها جُعِل فرقاً بين الجلوس في التشهد الأول الذي يُسن تخفيفه، فيكون
الجالس فيه متهيئاً للقيام، وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه
مُطمئناً.
وأيضاً فتكونُ هيئة
الجلوسين فارقة بين التشهدين،مذكرة للمصلي حاله. فيهما.
وأيضاً فإن أبا حُميد
إنما ذكر هذه الصفة عنه في الجلسة التي في التشهد الثاني، فإنه ذكر صفة جلوسه في
التشهد الأول، وأنه كان يجلس مفترشاً، ثم قال: ((وإذا جلس في الركعة الآخرة)) وفي
لفظ: ((فإذا جلس في الركعة الرابعة)).
وأما قوله في بعض ألفاظه: حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليمُ، أخرج رجله اليُسرى، وجلس على شقه متورِّكاً، فهذا قد يحتج به من يرى التورك يُشرع في كل تشهد يليه السلام، فيتورك في الثانية، وهو قول الشافعي رحمه الله، وليس بصريح في الدِّلالة، بل سياقُ الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد،الذي يليه السلام من الرباعية والثلاثية، فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه، ثم قال: ((حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليمُ، جلس متورِّكاً)) فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جَلَس في التشهُد، وضع يدَه اليمنى على فخذِه اليمنى، وضمَ أصابعه الثلاث، ونصَب السبابة. وفي لفظ: وقبض أصابعه الثلاث، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى. ذكره مسلم عن ابن عمر.
وقال وائِل بن حُجر:
((جعل حَدَّ مِرْفَقِه الأيمن على فَخذِه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلَّق
حلقة، ثم رفع أصبعه فرأيته يُحركها يدعُو بها)) وهو في ((السنن)).
وفي حديث ابن عمر في
((صحيح مسلم)) ((عَقَدَ ثَلاثَةَ وَخَمسِينَ)).
وهذه الرواياتُ كلُّها
واحدة، فإن من قال: قبض أصابعه الثلاث، أراد به: أن الوسطى كانت مضمومة لم تكن
منشورة كالسبابة، ومن قال: قبض ثنتين من أصابعه، أراد: أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع
البنصر، بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى، وقد صرَّح بذلك من قال:
وعقد ثلاثة وخمسين، فإن الوسطى في هذا العقد تكونُ مضمومة، ولا تكون مقبوضة مع
البنصر.
وقد استشكل كثير من
الفضلاء هذا، إذ عقدُ ثلاث وخمسين لا يُلائِم واحدة من الصفتين المذكورتين، فإن
الخنصر لا بد أن تركب البنصر في هذا العقد.
وقد أجاب عن هذا بعضُ
الفضلاء، بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد: قديمة، وهي التي ذكرت في حديث ابن
عمر: تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإِبهام مع الوسطى، وحديثة، وهي
المعروفة اليوم بين أهل الحساب، واللّه أعلم.
وكان يبسُط ذراعه على
فخذه ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، وأما اليُسرى، فممدودة الأصابع
على الفخذ اليُسرى.
وكان يستقبل بأصابعه
القبلة في رفع يديه، في ركوعه، وفي سجوده، وفي تشهده، ويستقبل أيضاً بأصابع رجليه
القبلة في سجوده. وكان يقول في كل ركعتين: التحيات.
وأما المواضع التي كان
يدعو فيها في الصلاة، فسبعة مواطن.
أحدُها: بعد تكبيرة الإِحرام في محل الاستفتاح.
الثاني: قبل الركوع وبعد
الفراغ من القراءة في الوتر والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك، فإن
فيه نظراً.
الثالث: بعد
الاعتدال من الركوع، كما ثبت ذلك في ((صحيح مسلم)) من حديث عبد اللّه بن أبي أوفى:
كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((سَمعَ اللَّه
لمِنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ،
وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيءٍ بَعْدُ، اللَّهُمَّ طَهِّرنِي
بِالثَّلجِ وَالبَرَدِ، وَالمَاءِ البَارِدِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ
الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ)).
الرَّابع: في ركوعه كان
يقول: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهمَّ اغْفِرْ لِي)).
الخامس: في سجوده، وكان فيه غالب دعائه.
السادس: بين السجدتين.
السابع: بعد التشهد وقبل
السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة، وحديث فَضَالة بن عبيد وأمر أيضاً بالدعاء
في السجود.
وأما الدعاء بعد السلام
من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك مِن هديه صلى الله عليه وسلم
أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن.
وأما تخصيص ذلك بصلاتي
الفجر والعصر، فلم يفعل ذلك هو ولا أحدٌ من خلفائه، ولا أرشد إليه أُمّته، وإنما
هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنَّة بعدهما، واللّه أعلم. وعامة الأدعية
المتعلقة بالصلاة إنما فعلَها فيها، وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي،
فإنه مقبل على ربه، يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلَّم منها، انقطعت تلك
المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته
والقرب منه، والإِقبال عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه؟! ولا ريب أن عكس هذا الحال
هو الأولى بالمصلي، إلا أن ها هنا نكتة لطيفة، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته،
وذكر اللّه وهلَّله وسبَّحه وَحَمِدَه وكبَّره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة،
استحب له أن يُصلي على النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ويدعو بما شاء، ويكون
دعاؤه عقيبَ هذه العبادة الثانية، لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر اللّه،
وَحَمِدَه، وأثنى عليه، وصلى على، رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاءُ
عقيبَ ذلك، كما في حديث فَضالة بن عبيد ((إِذا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبدأْ
بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيصلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم، ثُمَّ لِيَدْعُ بِمَا شَاءَ)) قال الترمذي: حديث صحيح.
ثم كان صلى الله عليه
وسلم يُسلم عن يمينه: السلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللّه، وَعَنْ يساره
كذلك. هذا كَانَ فِعله الراتب رواه عنه خمسةَ عشر صحابياً، وهم: عبد اللّه بن
مسعود، وسعدُ بن أبي وقاص، وسهلُ بن سعد الساعدي، ووائل بن حُجر، وأبو موسى
الأشعري، وحُذيفة بن اليمان، وعمَّار بن ياسر، وعبد اللّه بن عمر، وجابر بن سمرة،
والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس،وأبو رمثة، وعدي بن
عميرة،رضي اللّه عنهم.
وقد روى عنه صلى
الله عليه وسلم أنه كان يُسلِّم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولكن لم يثبت عنه
ذلك مِن وجه صحيح، وأجودُ ما فيه حديثُ عائشة رضي اللّه عنها أنه صلى الله عليه
وسلم: كان يُسلم تسليمةً واحدة: السلامُ عليكم يرفع بها صوته حتى يُوقِظَنا، هو
حديث معلول، وهو في السنن، لكنه كان في قيام الليل والذين رَوَوا عنه التسليمتين
رَوَوْا ما شاهدوه في الفرض والنفل، على أن حديثَ عائشة ليس صريحاً في الاقتصار على
التسليمة الواحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يُوقظهم بها، ولم تنف
الأخرى، بل سكتت عنها، وليس سكوتُها عنها مقدماً على رواية من حفظها وضبطها، وهم
أكثر عدداً، وأحاديثهم أصحُّ، وكثير من أحاديثهم صحيح، والباقي حسان.
قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسلم تسليمة واحدة مِن حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث عائشة، ومن حديث أنس، إلا أنها معلولة، ولا يصححها أهلُ العلم بالحديث، ثم ذكر علة حديث سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسلم في الصلاة تسليمة واحدة. قال: وهذا وهم وغلط، وإنما الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلم عن يمينه وعنْ يساره، ثم ساق الحديثَ مِن طريق ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يُسلم عن يمينه وعن شِماله حتى كأَنِّي أنظر إلى صفحة خده، فقال الزهريُّ: ما سمِعنا هذا من حديثِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم...
فقال له إسماعيل بن محمد: أكُلَّ حديثِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد سمعتَه؟ قال: لا، قال: فنِصفَه؟ قال: لا، قال: فاجْعَلَ هذا مِن النصف الذي لم تَسْمَعْ. قال: وأما حديثُ عائشة رضي اللّه عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم،: كانِّ يسلم تسليمةً واحدة، فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره، وزهير بن محمد عند الجميع، كثير الخطأ لا يحتج به، وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث، فقال: حديثا عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان، لا حجة فيهما..
قال: وأما حديث أنس، فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن
أنس، ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئاً، قال: وقد روي مرسلاً عن الحسن أن النبي
صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما كانوا يُسلمون تسلمية واحدة،
وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة، قالوا: وهو عمل قد توارثوه
كابراً عن كابر، ومثله يصح الاحتجاجُ به، لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مراراً،
وهذه طريقةٌ قد خالفهم فيها سائرُ الفقهاءِ، والصوابُ معهم، والسننُ الثابتة عن
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا تُدفع ولا تُرد بعمل أهل بلد كائناً من كان، وقد
أحدث الأُمراءُ بالمدينة وغيرِها في الصلاة أموراً استمر عليها العملُ، ولم
يُلْتَفَتْ إلى استمراره وعملُ أهل المدينة الذي يحتج به مَا كان في زمن الخلفاء
الراشدين، وأما عملُهم بعد موتهم، وبعد انقراض عصر مَنْ كان بها في الصحابة، فلا
فرق بينهم وبين عمل غيرهم، والسنة تحكُم بين الناسِ، لا عملُ أحد بعد رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وباللّه التوفيق.
وكان صلى الله عليه وسلم
يدعو في صلاته فيقول: ((اللَّهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ،
وَأَعُوذُ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْةَ
المَحْيَا وَالمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ)).
وكان يقول في
صلاتِه أيضاً: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي،
وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي)).
وكان يقول: ((اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمرِ، وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ،
وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْباً
سَلِيماً، وَلِسَاناً صَادِقاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعلَمُ، وَأَعُوذُ
بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ)).
وكان يقول في سجوده
((رَبِّ أعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا،
أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا)).وقد تقدم ذِكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده
وجلوسه واعتداله في الركوع.
والمحفوظ في أدعيته صلى
الله عليه وسلم في الصلاة كلِّها بلفظ الإِفراد، كقوله: ((رَبِّ اغْفِر لِي
وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي))، وسائر الأدعية المحفوظة عنه، ومنها قولُه في دعاء
الاستفتاح: ((اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالماءِ
وَالبَرَدِ، اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ
بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)) الحديث.
وروى الإِمام أحمد رحمه
اللّه وأهل ((السنن)) من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَؤُمُّ
عَبْدٌ قَوْماً فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دونهم، فَإِنْ فَعَل، فَقَدْ
خَانَهُم)) قال ابن خزيمة في ((صحيحه)): وقد ذكر حديث ((اللَّهُمَّ بَاعِدْ
بَيْنِي وَبين. خَطَايَايَ)) ... الحديث قال: في هذا دليلٌ على رد الحديث الموضوع
((لاَ يؤم عَبْدٌ قَوْماً فَيَخصُّ نَفْسَه بِدَعْوَةٍ دُونَهُم، فَإنْ فَعَلَ
فَقَد خَانَهُمْ)) وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديثُ عندي في
الدعاء الذي يدعو به الإِمامُ وللمأمومين، ويشترِكون فيه كدعاء القنوت ونحوه
واللّه أعلم.
وكان صلى الله عليه وسلم
إذا قام في الصلاة، طأطأ رأسَه، ذكره الإِمام أحمد رحمه الله وكان في التشهد لا
يُجاوز بَصَرُهُ إشارتَه، وقد تقدم. وكان قد جعل اللّه تعالى عينه ونعيمَه وسرورَه
وروحَه في الصلاة. وكان يقول: ((يا بِلاَلُ أرحناِْ بِالصلاَةِ)). وكان يقول:
((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)). ومع هذا لم يكن يشغَلُه ما هو فيه
من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله. وقربه من اللّه تعالى
وحضورِ قلبه بين يديه واجتماعِه عليه.
وكان يدخل في الصلاة وهو
يُريد إطالتها، فيسمع بكاءَ الصبي، فيخففها مخافةَ أن يَشُقَّ على أمِّه، وأرسل
مرة فارساً طَليعةً له، فقام يصلي، وجعل يلتفِت إلى الشِّعب الذي يجيء منه الفارس،
ولم يشْغَلْه ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه.
وكذلك كان يُصلي الفرض
وهو حاملٌ أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنةَ بنته زينب على عاتقه، إذا قام،
حملها، وإذا ركع وسجد، وضعها.
وكان يصلي فيجيء الحسنُ
أو الحسين فيركبُ ظهره فيُطيل السجدة، كَراهية أن يُلقيَه عن ظهره.وكان يُصلي،
فتجيء عائشةُ مِن حاجتها والبابُ مُغلَق، فيمشي، فيفتح لها البابَ، ثمَّ يرجِعُ
إلى الصلاة.