رئيس التحرير
عصام كامل

المواطن.. الإنسان الذي قتلناه !


لقد ارتأت الدولة المصرية بعد انتصارها على العدوان الإسرئيلى عام 1973م أن عدوها الوحيد هو اقتصادها الوطنى المتراجع، ولم تنتبه على الإطلاق إلى أن لها أعداءً آخرين.. ربما كانوا أشد شراسة.. ولم تفق من غفلتها إلا باغتيال رأس الدولة عام 1981م.. لتدرك أن ثمة عدو آخر اسمه الفكر المتطرف الذي حقق انتصارًا تاريخيًا لم تشهده الدولة المصرية ربما منذ عهد الدولة الفاطمية.. فكر لم يهتم أنصاره باقتصادهم الوطنى المتراجع حين ذلك، بقدر اهتمامهم رأس الدولة المتخاذل في تصورهم آنذاك!


وهنا فقد أعدت الدولة عدتها لمحاربة الإرهاب كعدوٍ استراتيجي جديد، لا يقل ضراوة عن اقتصادها المتراجع.. فإذا كان بعض الكتاب قد رأى أن الدولة نجحت آنذاك في دحض الإرهاب.. فإننى أرى أن الدولة قد نجحت في إبادة أشخاص مارسوا الإرهاب ضد الدولة.. لكنها لم تنجح مطلقًا في الانتصار على الفكر الإرهابى الذي صنع هؤلاء الأشخاص، والذي هو قادر على إنتاج المزيد منهم..

فربما تراجع "المتشددون" فكريًا عن أعمالهم العنيفة خوفًا من القمع، لكنه أبدًا لم يتراجع أكثرهم عن قناعة.. وإن ما حدث في السجون ليس "غسيل أمخاخ" كما يعتقد البعض.. لكنه تهذيب قسري لمظاهر السلوك.. حيث تغير السلوك ولم يمت الفكر، بل تَجّذَر في الخفاء لينتظر فرصة الانطلاق مجددًا.

وهنا كانت ثوررتا 25 يناير و30 يونيو نقطتان فاصلتان لانطلاق الفكر المتطرف، يسجل فيهما الواقع انتصار الثقافة على الاقتصاد.. ويكشف لنا أن الدولة حينما ركزت جهودها على الاقتصاد، دونما تركيز على الفكر؛ فقد كانت تسير في الطريق الغلط! وأن الدول حينما تقرر أن تقدم لشعوبها "برسيمًا".. فلا تتوقع أن تحكم سوى "بَقَر"!

لم يكن الاقتصاد وحده هو العدو الحقيقى للدولة المصرية، ولا الإرهاب الذي يستهدف رأس الدولة.. لكنى أعتقد أن الثقافة هي عدونا الحقيقى، الذي كان يجب على الدولة أن تؤسس لمحاربته فور الانتهاء من حرب أكتوبر، تلك الثقافة التي باتت في ظل سياسات الانفتاح تحكمها "النفعية" حتى وإن أضرت بالمصلحة العليا للوطن.

تلك الثقافة التي كرست الاستهلاك والاستسهال والاستهبال في العمل.. وجعلت المنتج الأجنبى ينتصر على المنتج المحلى، في أول طلعة اقتصادية لسياسات الانفتاح.. استشهدت فيها صناعتنا الوطنية، متمثلة في شركة النصر للسيارات وقَهَا وأخواتها، وأصيبت مصانع نسيج المحلة الكبرى في مقتل!

لم تفشل الدولة منذ السبعينيات فقط في وضع رؤية اقتصادية واضحة المعالم، للنهوض بالاقتصاد الوطنى، من خلال رفع معدلات الإنتاج والتصنيع، لكنها فشلت أيضا في وضع تصور للشخصية التي يجب أن يكون عليهاالإنسان المصرى. من خلال العمل على الارتقاء بفكره وتعليمه وصحته وسلوكياته العامة، وكما أهملت الدولة التطوير والارتقاء بالمنتج المحلى، أهملت أيضًا التطوير والارتقاء بثقافة المواطن المصري، وتركت الأمر برمته للإعلام غير الموجه والفوضوى أحيانًا، يتلاعب بعقول المواطنين وبأفكارهم، ويُشَكِل بشكل عشوائي سماتهم الشخصية؛ حتى صارت الفجوة بين كل مواطن وآخر تتسع يومًا بعد الآخر!

والكارثة ليست فقط في تجاهل الدولة لأهمية الثقافة في بناء الإنسان، بلى في أنها ترى أن هذه الفجوات بين الثقافات تمثل تنوعًا ثقافيًا محمودًا، دون أن يصيبها القلق بأن هذه الفجوات ربما تفضى إلى تعددية ثقافية قميئة؛ قد تصنع حربا داخلية ضروس بين تلك الثقافات، وهذا ما آلت إليه أعتقد الأوضاع إبان ثورة 30 يونيو، حينما كشفت تلك الثقافات عن وجهها القبيح، فخَوّن الكُل البعض، وكَفّرَ البعض الكُل، واستحل المتطرفون دماء المجندين، كما استحل الأغنياء عرق الفقراء، واستحل الفقراء الاحتيال على الأغنياء.. واستثمر المتآمرون عقول البسطاء.. واستغل أنصاف الموهبين بساطة الدهماء! لدرجة أننى أتصور أن التراجع الاقتصادي والسياسي الذي نعانيه الآن؛ مرجعيته بالأساس ثقافية!

لم تنتبه الدولة إلى أن قوتها الحقيقية في ثقافة شعبها.. وأن بقاءها مرتبط بتحضر مواطنيها وليس بانحطاطهم.. وأن الثقافة وحدها قادرة على أن تحول المجتمع إلى فردوس.. وهى وحدها القادرة على تحويله إلى جهنم.. فالثقافة ليست مفهومًا انعزاليًا ولا إقصائيًا، ولا يمكن أن يغرد أصحابها بشكل منفرد.. وإنما هي مفهوم "اشتباكي" يرتبط بثقافة العمل والإنتاج، والتعليم والتعلم، وتعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، وفى علاقته بالدولة التي تحكمه، وبالعالم الخارجى الذي يستهدف كلاهما التأثير في الآخر..

لن نخرج أبدا من كبواتنا الاقتصادية والاجتماعية دون أن نتفق هلى هُوِية ثقافية نهضوية واحدة.. نحدد جميعا مرجعيتها.. كما نحدد آليات نقلها إلى المجتمع، وتناقلها بين المواطنين.. ثقافة نحدد معالمها جميعًا.. في خطة استراتيجية وطنية فعالة، لإعادة إنتاج المواطن المصرى الصالح محليًا وإقليميًا ودوليًا.. المواطن القادر على تخطى الأزمات وليس المتخصص في إنتاجها.. المواطن الذي يعمل ليس بغرض البقاء على قيد الحياة فقط.. بل الذي يعمل من أجل المساهمة في بناء حضارة وطنية جديدة، تتناسب مع الحضارات الإنسانية المعاصرة، التي تقوم على التكنولوجيا وعالم الاتصالات والقدرة على التواصل اللامحدود، بل تتنافس معها!

ثقافة لا تجعل شيوخ الزوايا يحددون أيُنا يذهب إلى الجنة وأيُنا يذهب إلى الجحيم.. ثقافة تتجذر في مناهج التعليم بشتى مراحله، وفى خطب المساجد والكنائس، وفى مقالاتنا الصحفية، وفى آدابنا المختلفة من مسرح وسينما وتليفزيون.. وفي الرواية والقصة والشعر والرسم.. وما يُبَثَ على مسامع المواطنين من برامج مُوَجَهة نحو صناعة الإنسان المصرى الذي نستهدفه..

إن صناعة الثقافة التي نرجوها لا يجب أن تكون حكرًا على مؤسسة بعينها، ولا يجب أن يؤسس لها ويرسمها شخص واحد بعينه.. بل يجب أن تكون رؤية عامة للدولة المصرية، تلتزم بتنفيذها كل مؤسسات الدولة.. وتكون وزارة الثقافة هي المؤسسة المسئولة عن متابعة تنفيذ تلك الرؤية، مما يستوجب عليها التشبيك مع مؤسسات الدولة، والاشتباك مع كل السياسات والخطط والبرامج والمناهج؛ للتأكد من تجذر الثقافة التي نرجوها في كل أعمال تلك المؤسسات..

لا يجب على الدولة إذًا أن تترك الإعلام طليقًا، يشكل وعي المواطنين وثقافتهم، حسبما يرى كل إعلامي أو مالك فضائية أو حتى كل مسئول.. بل لابد أن تكون برامجنا موجهة نحو صناعة المواطن الذي نرجوه.. بدءًا من اختيار الكلمات التي تلقى على مسامعه، ومرورا بنوعية البرامج التي يشاهدها، وانتهاءً بجودة الأفكار التي تطرح عليه.. ليس ذلك فحسب، بل يجب على الإعلام أن يتكامل معًا لأسرة والمدرسة والمسجد والمنصنع والنادي، في رسم صورة وشخصية المواطن المصرى، من خلال تصويب اللهجة مع الاحتفاظ بحق التنوع، والاعتناء بطريقة المشى وأسلوب التعبير، وخصوصية الزى الذي يرتديه.. حتى نفخر يومًا بأننا لدينا مواطنون برتبة أمراء.. وربما أمراء برتبة مواطنين !
الجريدة الرسمية