رئيس التحرير
عصام كامل

سيدة صنعت أكبر مؤسسة صحفية في مصر


"وراء كل عظيم امرأة".. لكننا لم نسمع أن "وراء كل مؤسسة عظيمة امرأة".. حدث هذا بالفعل في "أخبار اليوم".. قالت عنها "أم كلثوم": "إنها أعظم امرأة رأيتها في حياتي".


كانت تكره الصحافة، ثم أعطت الصحافة كل ما تملك.. أحب والداها الصحافة منذ أيام التلمذة، وكانت هي تراهما يقرءان الصحف والمجلات أكثر مما يقرءان الكتب، فتخشى أن تلهيهما الصحافة عن الدراسة، وفعلا حدث هذا.. حصل مصطفى على شهادة الماجستير في العلوم السياسية، ولم يخطر بباله أن يعمل بالسلك الدبلوماسي، فقط حصل على الشهادة لإرضاء أمه، وكذلك فعل على، ونال البكالوريوس في الهندسة، وهو يكره الهندسة والميكانيكا بالذات.

كان كل منهما يكتب في الصحف من خلف ظهر الأم، بتوقيعات مستعارة، ولم يظهر اسمه إلا بعد 10 سنوات من ممارسة هوايته.. ولم يستطع على أمين أن يوقع باسمه إلا بعد ذلك بـ 6 سنوات، في "أخبار اليوم".. ومع ذلك فقد كانت الأم تعرف ما يجري وراء ظهرها، لكنها عجزت عن إثنائهما عن حب الصحافة.

وكانت تعيش في "بيت الأمة"، منزل الزعيم سعد زغلول، فترى نهايات الصحف، وسجن الصحفيين.. وكانت تخشى على ولديها من المصير المظلم، فقد فصلا من مدرسة الأوقاف الملكية عام 1928، ويتعرضان للسجن.. وفي سنة 1930 فوجئت بفصلهما من كل مدارس مصر، وحرمانهما من الامتحانات.. واقتنعت أن السبب هو ممارسة الصحافة والسياسة.. وقد اكتوت بنار السياسة طويلا، عندما رأت خالها سعد زغلول يسجن وينفى ويشرد، وزوجها يسجن وتصادر أمواله عام 1919.

واضطرت لقبول هواية ابنيها على مضض، وجاء يوم قرر فيه الابنان إصدار "أخبار اليوم"، وعندها دخلت على مصطفى، وقدمت له شيكا بمبلغ 18 ألف جنيه، ليبدأ به المشروع، ثم مدت يدها بصندوق المجوهرات، قائلة: "هذه كل مجوهراتي التي ورثتها أو اشتريتها، يمكنك أن تبيعها وتضم ثمنها لرأس المال".. قدمت حتى مكتبها الخاص ومكتب زوجها الراحل أرسلتهما إلى الدار، والسجاجيد، ومكتبة سعد زغلول، وفتحي زغلول، وحولت رخصة سيارتها الخاصة من اسمها إلى "أخبار اليوم"، وأيضا الأطباق والشوك والملاعق.

لم تزر المؤسسة التي كانت وراء إنشائها ولا مرة.. بل لم تشاهدها إلا مرة واحدة.. تلك المرة كانت قد أصبحت مقعدة، فلم تقدر على صعود سلالمها.

حدث ذلك في أحد أيام يوليو عام 1947.. جاءت في سيارة أقلتها من المستشفى الإيطالي، حيث كانت تعالج من "السرطان"، إلى منزلها في "الروضة"، بعد أن يئس الأطباء من شفائها، ورأوا أن تنتقل إلى بيتها لتموت هناك، في الطريق باحت بأمنيتها الأخيرة.. طلبت أن تمر بدار "أخبار اليوم" بشارع الصحافة.. وفعلا حضرت السيارة، وبداخلها ابناها؛ مصطفى وعلي أمين.

توقفت السيارة أمام المؤسسة، وأطلت الأم منها، ولوحت للصحفيين والعاملين، مبتسمة، رغم آلامها المبرحة.. تطلعت إلى الصرح الذي كان الفضل الأكبر لها في إنشائه، شاهدته للمرة الأولى.. ولم يكن أحد سواها يدري أنها الأخيرة.

قبل أن تصاب بالمرض الخطير، "حفظت" أعراضه؛ فقد مات ابن خالتها "عاطف بركات باشا" به.. ثم خالتها.. وخالها فتحي زغلول.

وشاء القدر أن تشعر بأعراض المرض عقب صدور العدد الأول من "أخْبار اليوْم"، فما كان منها إلا أن أخفت الخبر السيئ عن ابنيها.. خشيت أن تشتت تركيزهما لو أخبرتهما، في الوقت الذي كانا فيه يخطوان الخطوات الأولى لمشروعهما الضخم.. فضلت أن تكتم سرها، وأن تحبس آلامها، وأن تداري عذابها.

استمرت تكتم تأوّهاتها لمدة عامين، وذات يوم استدعت الدكتور أحمد شفيق باشا ليقوم بفحص حالتها في منزلها، واكتشف الطبيب أن آثار المرض قد استفحلتْ، وأخذت تنخر في عظامها.. وسألها: أتعرفين المرض الذي أصبتِ به؟ أجابت في بساطة: "سرطان".. تعجب: متى شعرْتِ به؟.. قالت: "منذ عامين.. وأخفيت الخبر عن علي ومصطفى؛ حتى لا ينصرفا عن عملهما بسببي".. وتساءل د. شفيق: "كيف احتملتِ كلَّ هذا العذاب.. إنه لا يحتمله بشر؟!".. قالت: "الحب هو الذي جعلني أحتمل هذا".
يوم السبت 26 يوليو، دق جرس التليفون في "أخبار اليوم".. استدعى مصطفى أمين.. بعد لحظات، أشار لأخيه بأصبعه.. خرجا من الدار برأسين منكسين.

فوجئ الجميع بالشقيقين يعودان من المقابر إلى الدار مباشرة... أراد المحررون أن يعزوهما، لكنهما وجدوهما يجلسان في مكتب علي أمين، يشرحان أفكار الكاريكاتير للعدد القادم، لصاروخان ورخا.

وكان من رأي المحررين أن يصدر العدد التالي من "أخبار اليوم" بصورة هذه السيدة، وأن يجلل العدد بالسواد، ولكنهما رفضا، وقال على أمين: بكاؤنا على أمنا مسألة تخصنا وحدنا، ولا داعي أن نضايق القراء.

وقرر الجميع أن يتآمروا على صاحبي الدار، وأن يكتب كل منهما كلمة وإخفائها عنهما، فلا يقرآها إلا في اليوم التالي، مثل القراء.
وعندما ماتت وجدت مصلحة الضرائب أن رصيدها في البنوك صار، في شهر نوفمبر 1944، تاريخ صدور "أخبار اليوم"، "صفرا" بعد أن كانت من أثرياء مصر.

وفي يوم 21 مارس 1956، أول "يوم للأم"، استقل على أمين، صاحب فكرة الاحتفال سيارته ومعه شقيقه مصطفى، وتوجها إلى مقابر "الإمام الشافعي"، ليزورا قبر الأم، التي أوحى حبها بفكرة "عيد الأم".
الجريدة الرسمية