توفيق الحكيم يكتب: الحكمة النادرة
كتب الأديب توفيق الحكيم مقالا في جريدة أخبار اليوم عام 1949 قال فيه:
يروى الفيلسوف الصينى "لى هتز" هذه الأسطورة المملوءة بالحكمة: فوق تل من تلال غابة نائية كان يعيش رجل شيخ مع ابنه وجواده، وذات صباح هرب الجواد، فأقبل الجيران على الشيخ يعزونه في نكبته فقال لهم الشيخ: وما أدراكم أنها نكبة ؟
لم تمض أيام حتى عاد الجواد إلى صاحبه من تلقاء نفسه ومصطحبا معها العديد من الخيول البرية، عاد الجيران إلى الشيخ فرحين مهنئين بهذا الغنم الوفير والحظ السعيد، نظر اليهم الشيخ وقال: وما أدراكم أنه حظ سعيد ؟
مرت الأيام وعمل ابن الشيخ على ترويض الخيول البرية فامتطى جوادا عنيدا فسقط من فوقه على الأرض فكسرت ساقه، فرجع الجيران إلى الشيخ محزونين يعزونه في هذا الحظ العاثر، فقال لهم الشيخ: وما أدراكم أنه حظ عاثر ؟
مضى عام وإذا بحرب تقوم وجند الشباب وأرسلوا إلى الميدان، فلقي أغلبهم حتفه إلا ابن الشيخ بسبب كسر قدمه.
إلى هنا تنتهى قصة الفيلسوف الصينى ولو أنه استرسل فيها لما فرغنا من تعاقب السعد والنحس على الحادث الواحد، فلكل شيء نهاره وليله يدوران حوله بغير انقطاع، لكن الإنسان في نظرته القصيرة وذاكرته الضعيفة لايرى الحادث إلا في حلقاته المنفصلة ونتائجه المؤقتة.
لو استطاع الإنسان أن يشمل بنظرته الأمس واليوم وغدا، وأن يتتبع حادثا واحدا أو رجلا بالذات لرأى العجب، فهذا الغنى الذي يملك الملايين سيرى أمواله وقد بددها وريث، وهذا الوريث سيكون له أولاد فقراء، ومن هؤلاء الفقراء يخرج واحد ينشئ ثروة.. وهكذا يأتى المال من العدم ويذهب إلى العدم، ويولد من السعد نحس، ومن النحس سعد.. في حقيقة الأمر لاحظ زاهر ولا حظ عاثر لأن الساقية الدوارة لا تبقى أحدا في موقعه ولا شيئا في مكانه، وأن ما نسميه الحظ ليس إلا وقوف نظرنا المحدود على وضع من الأوضاع في وقت من الأوقات.
إن فرحنا أو بكاءنا لهذا الحظ ليس سوى قلة صبرنا على انتظار البقية، شأننا في ذلك شأن المشاهد لقصة تمثيلية، ونحن نأخذ كل حادث يمر على أنه البداية والنهاية.. لا أنه الحلقة في سلسلة طويلة.
إن الإنسان الذي أعطى الحكمة ليس في حقيقة الأمر إلا ذلك الذي أعطى العين التي ترى الأشياء في جملته لا في جزء منها وفى تعاقبها لا في وقوفها، تلك العين التي تبصر الساقية في دورانها، وهذا ليس بالأمر الهين، إنه للبشر من أصعب الأمور.
من أجل هذا كانت الحكمة في الأرض نادرة، لأن الحكمة وحدها هي التي ترى الساقية وهى تدور.