زمن حكومة الأسطى سليم النجار.. خدنا على زِنْده وطار!
تنويه هام.. ما سأرويه الآن ليس على سبيل سرد حدوتة للتسلية والتسرية، وإنما قصدت توجيه الانتباه إلى أنك مهما بلغت من العمر والعلم والحنكة والمهارة، فلا مناص من الاستشارة حتى لو كانت في شأن تَحْسَبُهُ سهلا يسيرا، ظنا منك أن في الاستشارة ضعف وقلة حيلة.. فقد صدق من قال ما خاب من استشار.
والأهم أن يكون من اخترته للاستشارة على درجة كافية من الخبرة والوعي والأمانة بما يضمن سداد الرأي وسلامة النتائج.
تلك هواجس راودتني وتراودني من حين لآخر، عند اصطدامي بقرارات من كل المستويات، أراها دون المستوى المطلوب لحجم وأهمية وخطورة الموضوع، بل أحيانا لا أجد فيها سوى مزيد من الضبابية وغياب البوصلة، الأمر الذي يذهب بالموضوع إلى الخسران المبين والتلبيس في الحائط.. ودعوني أقرب الصورة من خلال حكاية من الشأن الخاص.
أهيم عشقًا إلى حد الذوبان في فترة أربعينيات القرن المنصرم.. كل شيء فيها كان جميلا مثيرا جذابا مدهشا متجددا، كان الفن الأصيل والثقافة الرفيعة والدفء الإنساني والاجتماعي عناوينها البراقة، حتى الحراك السياسي كان عفيًا فائرًا واعيًا واعدًا.
أعيش مع العظيمة أم كلثوم معظم الوقت.. الأربعينيات كان الميلاد الثاني للست على يد الموسيقار العبقري محمد القصبجي، وأحاط بها عمنا بيرم التونسي والموسيقار المذهل زكريا أحمد، ثم الرائعَان أحمد رامي ورياض السنباطي.
أرَصِّعُ صفحات حوائطي بصورهم جميعا، فيما يشبه الهروب لأحضان ذلك الزمن البديع، بعيدا عن عاهات الفن والغناء.
وحتى تكتمل المعايشة، بحثت عن جرامافون قديم كان في منزل عائلة جدي لأمي قبل أن يضربها السلك وتعصف بثروتها صراعات الحريم منهن لله.. لم أجد الجرامافون، قالوا لي أخذه كهربائي تخليص حق منذ عدة سنوات، لكني كنت قد عقدت العزم على اقتناء جرامافون منظر وليس بالضرورة حقيقيا.
أفصحت لصديق لي عن رغبتي في اقتناء جرامافون قديم.. فقال من الصعب العثور عليه، واصطحبني للأسطى سليم النجار شيخ النجارين وصاحب الخبرة النادرة، وعرضت عليه طلبي بصنع جرامافون منظر بتفاصيله وهيئته ولكن بخشب الأبلكاش الخفيف، فأبدى ترحيبا وسعادة بالغين لأنه سيعود للطواف بخياله عبر سماوات الأيام الجميلة على حد تعبيره، ووعدني باستلامه بعد أسبوعين كي يصنعه على رواقة.. وأخبرني أنه سوف يستعين ببعض أصدقائه على سبيل الاستشارة.. فقلت أحسنت يا أسطى سليم، وما خاب من استشار.
كنت عنده في الموعد المحدد.. طفت ببصري في الورشة ولم أجد أثرا للجرامافون.. فسألته مستنكرا: هل هذه مواعيد؟.. أين الجرامافون؟.. قال الرجل: عيب.. أنا مواعيدي مقدسة.. ثم أشار إلى ركن بالورشة قائلًا: الجرامافون هناك أهو يا أستاذ.. شوفه وقل لي رأيك.. اقتربت من الجرامافون وكدت أسقط مغشيا عليَّ من الضحك.. لقد صنع الرجل طبلية كبيرة ودهنها بطبقة لامعة.. فسألته بدهشة ما هذا يا أسطى؟!.. قال دا لأنك عزيز عليَّا بس.. وأشار إلى منتصف الجرامافون أو الطبلية وقال دي بقى إضافات من عندي محبة لوجه الله ومش هاخد حسابها.. تحسست بيدي موضع ما أشار إليه فوجدتها مفصلات فسألته عن سبب تركيبها، فقال عشان تطبق الجرامافون إذا حبيت تاخده معاك الشغل.
سألته: أنت شفت صورة للجرامافون أم صنعته من دماغك؟.. قال: وليه الصورة؟!.. أنا استشرت الأسطى عبده الأستورجي والحاج سيد السباك وعم جابر بتاع الفول ودول أعز أصحابي، وبعدين أخدت رأي جوز بنتي معاه دبلوم.
أخيرًا.. عليَّا كذا بالثلاثة، هكذا تخرج قرارات البلد.