الاعتداءات على الأطباء (2)
بدأنا في الأسبوع الماضى في مناقشة ما يتعرض له الأطباء خاصة والأطقم الطبية عامة من اعتداءات تتفاوت من لفظية إلى بدنية وألمحنا إلى دور الإعلام السلبى في التشهير بالأطباء بسبب أو دون سبب.. فأي مشكلة تحدث لأى مريض في أي مكان بمصر نتيجة تدهور مستوى الخدمات الصحية أو عدم توافرها من الأساس يتلقفها الإعلام الباحث عن الإثارة لا الإصلاح ويصفها بأنها امتداد لما سماها ظلمًا وعدوانًا "مسلسل إهمال الأطباء"..
حتى انتشرت في المجتمع ثقافة التشكيك في الأداء الطبى كله وأصبح كل مريض لا يرضى عن نتائج الخدمة الطبية أو حتى جودتها أو توافرها، ويظن أن الأطباء هم السبب.. وانتقلت تلك العدوى إلى مؤسسات المجتمع فأصبحنا نرى النيابة العامة تلعب دورًا سلبيًا فيقوم بعض المنتمين إليها بإصدار قرارات ضبط وإحضار للأطباء في أي شكوى ضدهم تتهمهم بالإهمال وفى معظم الأحيان يتم حبس الأطباء على ذمة التحقيق أو صرفهم بكفالة كبيرة قد تبلغ عشرات الآلاف من أضعاف قيمة الكشف الذي يدفعه المريض في المستشفى العامة ولا يتقاضى منه الطبيب شيئًا.
وبدأت مؤسسة أخرى كالطب الشرعى -ورغم أن جل العاملين فيها من الأطباء- بدأت في الخروج عن مهمة توصيف أسباب التغير في الأنسجة أو السوائل البشرية والأسباب الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية المحتملة إلى إصدار أحكام بعيدة تمامًا عن ذلك وربما دون أي فحص حقيقى نظرًا لرفض المريض أو أهله الخضوع للفحوصات المطلوبة حيث يتم الإكتفاء بفحص الأوراق وإصدار تقارير دون خبرات كافية أو مناقشة الأطقم الطبية في الموضوع وهو ما قد يؤدى إلى نتائج كارثية في كثير من الأحيان.
ولا أستطيع أن أبرئ المسئولين السياسيين من كل ذلك فضربة البداية في تلك الحملة المدمرة كانت ولا شك سياسية بدءًا بوعد مستحيل بتوفير الخدمات الطبية بأفضل جودة لكل المواطنين ودون مقابل، وهو ما لم تستطع فعله أغنى دول العالم وتمادى بعضهم في غيهم وعبثهم ليصف وضع الخدمات الصحية المتردى بأنه على خير ما يرام وأن مستوى المستشفيات المصرىة أفضل من مستشفيات دول متقدمة كبريطانيا ثم أتم هؤلاء تنصلهم من واجبهم ومسئوليتهم بتمثيلية مفضوحة ومكررة وهى زيارات متكررة مفاجئة لمؤسسات ووحدات صحية وإعلان توقيع جزاءات على الأطباء بدعوى التقصير في رسالة مبطنة أن الأطباء هم المسئولون عن أي من مشكلات سوء مستوى الخدمات الصحية أو عدم توافرها..
ويزداد الطين بلة بقيام بعض النقابيين بالتسويق لهذا الوهم أي وهم المجانية على خلفية أيديولوجية أقرب إلى الشيوعية منها إلى الواقعية معطين السياسيين صك البراءة مما يدعونه من مجانية وهمية.
ثم تنتقل تلك العدوى سريعًا إلى بعض أعضاء البرلمان الذين شاءت الأقدار أن يصلوا إلى البرلمان دون امتلاك الحد الأدنى من الثقافة أو الوعي أو سابقة عمل عام تساعدهم على فهم المشكلات وأبعادها وبدلا من أن يكون هؤلاء جزءًا من الحل يبحثون عن الأسباب الحقيقية للمشكلة ويقترحون تشريعات تعمل على حلها ويراقبون سياسات الحكومة في علاجها أصبحوا جزءًا من المشكلة فتحولوا إلى ما يشبه المشرفين الميدانيين الذين يجتهدون في نسب ما يرصدون من مشكلات إلى الأطباء متأثرين بتلك الثقافة المدمرة.
ثم يأتى غياب تطبيق القانون فيما يحدث من اعتداءات ليكون سببًا رئيسيًا في استمرار تلك الظاهرة اللعينة فمن بين آلاف وربما عشرات الآلاف من الاعتداءات على الأطقم الطبية سواء كانت لفظية أو بدنية أو نفسية بالاحتجاز والتهديد وغير ذلك لا يصل إلى أروقة النيابة سوى بضع عشرات من تلك الوقائع ولا يصل منها إلى المحكمة إلا بضع حالات تصدر فيها أحكام في أول درجة لتلغى معظمها في الاستئناف، مما أرسل رسالة خطيرة إلى المجتمع هو أن القانون لا يعيد حقًا أو يحاسب مخطئًا ناهيك عن تحقيق الردع المطلوب لمنع تكرار الجرائم والمخالفات.
ثم بدأت ظاهرة أشد خطورة وهى قيام بعض القائمين على تنفيذ القانون من المنتسبين إلى جهاز الشرطة بالاعتداء على أطقم طبية لتصل الكارثة إلى ذروتها، وفى كل مرة نسمع عن اعتداء على مستشفى أو وحدة صحية تتعالى أصوات بتغليظ العقوبات وشخصيًا لا أدرى ما فائدة تغليظ عقوبات على جرائم لا تصل في غالبيتها العظمى إلى المحاكمة وإن وصلت فلا حكم قبل شهور طوال مع ندرة التنفيذ ؟!
ولا يهتم البعض بأثر تلك الظاهرة على المجتمع ككل في نشر ثقافة البلطجة حتى بدأ بعض شباب الأطباء في الدعوة إلى رد الاعتداءات بالمثل نظرًا لغياب القانون مما يهدد بتحول المستشفيات إلى ساحات لمعارك لا يعلم مداها ونتائجها إلا الله لتقضى على ما تبقى من خدمات في لك الوحدات ويتعرض الأطباء إلى مزيد من العنف.
ومما أسهبنا من الأسباب تبدو الحلول واضحة، فالمشكلة الثقافية حلها توقف السياسيين عن المزايدات والوعود الزائفة وتحمل مسئوليتهم في إصلاح النظام الصحى بطريقة واقعية تهدف إلى تحسين جوهر الخدمة وانتشارها وليس شكلها في بعض المؤسسات التي تستخدم في التسويق الدعائى ثم التزام كل أطراف المنظومة بدورهم الحقيقى النقابيون بتقديم مقترحات واقعية وموضوعية للإصلاح والإعلاميون برصد وتحليل المشكلات بحثًا عن حلول ناجعة لها والبرلمانيون في رقابة السياسات واقتراح التشريعات التي تضمن تغطية تكلفة المستوى المستهدف من الخدمة وانتشارها وتوافرها للمواطنين..
ثم يأتى دور الأطباء في ضرورة سلوك المسار القانونى في كل حالة وعدم التنازل أو الرضوخ لأى ضغوط أو إغراءات والتواصل مع النقابات الفرعية لمعرفة الخطوات القانونية السليمة الواجب اتخاذها في حالة وقوع أي اعتداء ولو لفظى وتحمل كل المصاعب في فترة انتقالية نستهدف فيها تحقيق الردع المطلوب ونشر ثقافة أنه لن يفلت خارج على القانون من العقاب في حالة الاعتداء على طبيب، ثم تأتى ضرورة تغيير قوانين المساءلة الطبية لتحديد مسئولية الطبيب في المنومة الصحية وتحميل كل عناصر المنظومة من مسئوليتها التي تلقى الآن على الأطباء ولتوعية المرضى بحقوقهم وأنها ليست مطلقة وإنما في حدود القانون وقواعد الممارسة الطبية، ثم ضرورة تطبيق القانون الحاسم وتنفيذ العقوبات على كل من يدنس حرمة المستشفيات ويقوم بأعمال البلطجة داخلها.