وإن هلكنا فهو العدل !
يجعل أبي الأمر مستفزًا حين أحدثه عن تشاؤمي من المستقبل فيحول الأمر إلى «مبارك» الذي لا يزال يؤمن به ويراه رئيسًا قديرًا، يكمل في لعبته التي تشعلني غضبًا «ربنا مطول في عمره علشان يشوفكم بعد اللي عملتوه»، أهاجمه بدلًا من شرح كيف أفسد المخلوع كل شيء، لقد أوضحت له ذلك مرات كثيرة ويظل هو على حاله.
تلك المرة هاجمته «المسئولين عن البلد أنتم اللى جبتوهم لما نزلتوا انتخبتوهم وهما ميصلحوش»، قلتها بغضب جم ليكف عن تلك الأسطوانة التي يسمعني إياها في كل مرة نتحدث عن أحوال البلاد، لكنه فاجأني تلك المرة بمقولة لم أستطع تبريرها «طب إحنا ناس جهلة ومنعرفش حاجة واضّحك علينا فين العلماء والصحفيين والكتاب والشباب المتنورين ليه منزلوش اختاروا اللى عاوزينه».
سرحت لدقائق أبتلع مر الكلمات التي قذفني بها، استجمعت قواي وعاودت الكرة «قاطعنا الانتخابات ولم نشارك فيما رأيناه مهزلة بكل المقاييس هل كنت تريدني أن أنتخب هؤلاء، تظاهرنا فتم حبسنا ومات من مات ونزلتم ترقصون أمام اللجان»، ما زال أبي يملك هدوءه بشكل غير معتــاد «طب وبعد الثورة أصلا عملتوا إيه، انتوا دايمًا شايفين إننا اللى غلط لكن السؤال انتوا عملتوا إيه صح غير إنكوا بتشتموا فينا»، بدا واضحًا أن متابعة أبي لموقع «فيس بوك» الذي لا يمتلك حسابًا عليه لكنه يتابع من خلال حسابات أصدقائه قد عرفته الكثير.
أعود بالذاكرة إلى ما بعد الثورة مباشرة، الحديث عن تشكيل مجلس رئاسي مدني برئاسة البرادعي، فشلت الفكرة بعد ذلك، ثم تم إنشاء حزب الدستور ليكون نواة ثورية مؤمنة بالمبادئ الديمقراطية، فشل هو الآخر، البرادعي لم يستطع أن يقود حزبًا، لاحقًا لن يستطع أن يلعب دورًا فاعلًا سوى كتابة التدوينات الصغيرة وهو خارج البلاد.
الانتخابات الرئاسية 2012، حمدين صباحي وعبدالمنعم أبو الفتوح، لماذا لم يتنازل أحدهما للآخر فقط من أجل تخطى المرحلة، كان يبدو الخيار مقبولًا، فشلنا في ذلك بعد سفسطة وتنظير ورفض وكبرياء وغرور من كل طرف، غلّبنا المصلحة الخاصة على العامة، في النهاية تولى الإخوان الحكم وهو أسوأ شيء حدث لمصر بعد وفاة جمال عبدالناصر.
نعم أين العلماء الذين يحملون على عاتقهم مهمة إنقاذ البلاد من حالة الغيبوبة التي دخلت فيها، ليعيدوها إلى الحياة بعد طرد الدم الفاسد واستئصال الجزء غير المفيد من أجل بقية الجسد، لماذا استكثروا أن تكون هناك إجراءات استثنائية تمامًا كمشرط الجراح من أجل التعافي !
نعم أين الكتاب والصحفيون الذين يقع على عاتقهم مهمة التنوير، ترك البعض منهم المهمة، أكل على بعض الموائد، غامر بدور سياسي وتربح على كل المستويات، دفعوا المواطن إلى السكة التي يريدوها، وصمتوا أمام كل شيء يحدث.
شباب الثورة أنفسهم انقسموا وتقّسموا واختلفوا وتخلّفوا ولقي كل منهم مصيره فمنهم من سجن ومنهم من «هبر»، بعضهم خلف القضبان وآخرون في شرم الشيخ بعد أن أصبحوا شباب مصر الذين تفضلهم السلطة شريطة خلع «الاسكارف» وارتداء «البدلة» وترتيل «تحيا مصر» حتى مطلع الفجر.
هل أخطأنا حين أصبح طريق التعبير الوحيد عن غضبنا هو الصمت والاستنكار والمقاطعة، قاطعنا الانتخابات الرئاسية في 2012 لأنها بين السيئ والأسوأ، رفضنا المشاركة في 26 يوليو لأنه تفويض يكرس حكم الفرد، اعترضنا على دستور 2014 لأن من وضعوه لا يعجبونا، أبينا الاشتراك في الانتخابات الرئاسية 2013 لم نبد أي أسباب منطقية، ثم تكرر الأمر مع الانتخابات البرلمانية لأنه مجلس الدولة وليس الشعب وجميع من سيجيئوا هم في الأصل موظفون لدى الحكومة.
كل ذلك نفعله ونحن نظن أننا على صواب، الأهم من رفضنا هو عدم تفكيرنا في أي بديل، وتطور الأمر بعد ذلك إلى حالة حنق على الجميع، لا نحن نفعنا أنفسنا ككتاب وعلماء ونخبة بعضها سافر وآخرون لم نعد نسمع صوتهم، ولا المواطنون نفعوا أنفسهم باختيار هؤلاء المسئولين... إن نجونا فهي الرحمة وإن هلكنا فهو العدل.