رئيس التحرير
عصام كامل

الأخضر أبيض التأثير أسود القلب!


لم يكُن مُتاحًا لى أن أضيف في العنوان اللون الأحمر كذلك ولا الأزرق؛ الأول هو لون الدماء التي تنتُج عن الصراع في كُل أنحاء العالم حول ذلك الأخضر، سواء لرفع قيمته من جانب الدولة صاحبته، أو للحاق بركبه من جانب مُريديه العارفين يقينًا أن مستقبلهم أو على الأقل أيامهم القليلة المُقبلة معه ستكون ناصعة البياض، كونه الأقوى على مستوى العالم أو نصير الناس الغلابة على رأى فيلم البيه البواب!


أما الأزرق فهو لون الأيام التي يرتفع فيها سعر حضرته، فترتفع أسعار السلع لحد ما تلهلب وتولَّع نار، لدرجة إن الفول المدمس بيغلى، والطعمية بتتجنن، والعدس بيتبغدد، والجبنة القديمة "المش" بيركبها عفريت كأننا بنستوردهم من الدنمارك، تخيَّل لو أضفت كُل ذلك للعنوان ستكون كارثة مهنية تفوق في تأثيرها السلبى كارثة الاستماع لـ(محمد البرادعى) وهو بيتكلم لمُدة دقيقة كاملة!

الأخضر كما تعلم حضرتك أكثر منى هو الدولار الأمريكى، سيد العملات على مستوى العالم بالذوق أو بالعافية، الفتوة الذي يتحكم في مصائر الشعوب الكسولة اللى زى شعبنا، والتي قررت أن تهجر المصنع والمدرسة والمستشفى، وتقعد على القهوة أو في التوكتوك علشان تتاجر في الدولار الذي ارتفع سعره بجنون في الأيام الأخيرة، لدرجة أن السؤال عن السعر ينطبق عليه حال النُكتة القديمة: عاوز تعرف سعره وصل كام قبل ما تسأل سؤالك ده واللا بعد ما سألت؟!

والحقيقة أن الحرب الاقتصادية التي تتعرَّض لها مصر خاصةً مع قفل باب السياحة، وأيضًا مُحاصرة الوطن ومنع تحويلات المصريين في الخارج من الوصول لبلدهم بحيلة قذرة جديدة، وهى إتمام عملية استبدال النقد الأجنبى في موطن العمل خارج الحدود، لتصل الفلوس بالجنيه المصرى المسكين للداخل قال يعنى إحنا ناقصين مساكين، هي حرب حقيقية لا ينكر وجودها إلا جاحد، كما أن هذا الجاحد إن أنكر فقد لا يستطيع إنكار غياب مورد مُهم جدًا للدولار كذلك وهو التمويل الأجنبى لنشطاء الغبرة وجمعيات حقوق الإنسان المشبوهة، تخيَّل رغم إضرار هؤلاء الخونة بالوطن سياسيًا واجتماعيًا وأمنيًا وبالتالى اقتصاديًا، لكنهم كانوا بينفعوه بالتحويلات التي تصل إليهم بملايين الدولارات أيضًا؟ شوفت بذمتك مُفارقة ألعن من هذه قبل الآن؟!

إنها نفس المُفارقة التي تدفع (بقلة) الجزار و(سوكا) الميكانيكى و(توتا) الرقاصة للتجارة في الدولار مؤخرًا، حتى أصبحنا تقريبًا 90 مليون تاجر دولار، البعض يلعب في عشرات الملايين من الأخضر، والبعض يلعب في عدة سنتات حالمًا بأن يصل للدولار الكامل، ومن ثم الورقة أم عشرين دولار، ويتطوَّر حتى يملك الحتة اللى بميَّة اللى عليها توقيع محافظ البنك المركزى الأمريكى بذات نفسه وبالإنجليزى كمان يا حلاوة!

والواقع أن الانهيار الأخير في أسعار الدولار قد يكون خيرًا نتمنى من ورائه أن نرى ترجمته عمليًا بأن تنخفض أسعار الفول والعدس والطعمية والمش لتعود كما كانت قبل موجة الارتفاع الجنونية الأخيرة، واللا إحنا كشعب في الحزن مدعوون وفى الفرح منسيين؟ وقد يكون ذلك الانهيار شرًّا يبغى من ورائه التُجار الكبار ـ اللى مش زى اسمهم إيه الجزار والميكانيكى والرقاصة الغلبانة بتاعة الأفراح الشعبية ـ تجميع مبالغ ضخمة من العُملة الخضراء أم قلب أسود بسعر مُنخفض، قبل أن يتم رفع السعر مُجددًا من أجل عملية بيع تحصُد المليارات لهؤلاء الأباطرة الذين لا يستغنى مُعظمهم عن وسائل مساعدة أو أذرع إعلامية تساعده على إيصال رسالته!

الإعلام يقول إن الدولار سعره ارتفع ـ وهو لم يحدُث ـ فيتجنن الأخضر ويقفز عدة جنيهات للأمام، لأن كُل واحد معاه دولارين تلاتة رافض يبيعهم إلا بالسعر اللى جه في التليفزيون، على طريقة الزواج الشهيرة "بنتى مش أقل من بنت خالتها" ولازم ييجى لها زيَّها في الجهاز 12 طقم شاى، و15 جردل مسح، وثلاث ثلاجات 24 قدم، ومائة وأربعين بطانية، الإعلام يقول إن الدولار سعره انخفض ـ وقد يكون لم يحدُث برضه ـ فيعقل الأخضر ويقتنع إنه ملوش غير بيته وعياله فيرجع في كلامه ويتباع بأسعار مهاودة من جانب الراغبين في تقليل الخسائر، قبل ما يرخص أكتر، فيشتريه التُجار الكبار المُحركون للإعلام ثم يعاودون الكرَّة بالرفع تارة وبالخفض تارة، والدولة تلعب فقط على رد الفعل المُتأخر، بعد خراب مالطة وغرق رأس غارب!

وبعيدًا عن موضوع تعويم الجنيه المسكين اللى لا هو عارف يعوم ولا يغرق ولا يمسك في قشاية ليكون بمقدوره النجاة، لماذا يتم التعامُل بالدولار أصلًا خارج نطاق البنوك؟ إن فكرة شركات الصرافة هي أساس المُضاربة على أسعار الورقة الخضراء وغيرها من النقد الأجنبى خارج النطاق الرسمى للدولة، وهى سوق سوداء تم منحها شرعية شاذة وعجيبة، وحتى بعد أن تم إغلاق مُعظمها في الفترة الأخيرة فقد نتج عن تلك الشركات مئات من التُجار المُحترفين للعُملة وانتهى الأمر، يُمارس الواحد منهم عمله في التاكسى والميكروباص والقهوة ومحل البقالة، والعمل؟!

منع تداول العملة الأجنبية خارج نطاق البنوك تمامًا إلا بقيود صارمة، المُفترض أن يلجأ كُل جامع للدولارات للبنك في النهاية لاستخدامها في التحويل للخارج عن طريقه، هنا لابُد أن يظهر سؤال من أين لك هذا، لا للاتهام أو للمُصادرة، لكن لإجبار كُل المُتعاملين على خلق مستندات رسمية وصادقة، والمستندات الرسمية لن تصدر إلا عن جهة تخضع لرقابة(شركات الصرافة مثلًا يتم إجبارها على التعامُل بسعر مُحدد نظير منحها حق إصدار المستندات المُعترف بها، وكذلك منحها نسبة تصاعدية عن كُل مبلغ يتم تجميعه من خلالها وإيصاله للبنك، ويا حبذا لو صنعنا نظام إليكترونى شبكى يمنع طباعة الإيصال إلا بعد تسجيل نسخة منه في البنك المركزى لحصد المبالغ في نهاية اليوم أو الأسبوع) فالأمر يتعلَّق بأمن قومى ولا يقبل التهريج أو التهاون، ولا يناسبه إلا إجراءات استثنائية، وخانقة إذا لزم الأمر!

كان لى تجربة شخصية مع إحدى شركات الصرافة قبل أكثر من عام، ولم يكُن الأمر قد استفحل بهذا الشكل، منحت الشركة مبلغًا بالدولار فمنحونى المُقابل بالمصرى ـ بسعر السوق السوداء ـ ومعه إيصال بأرقام أخرى مُختلفة تمامًا تحمل حسبة بالسعر الرسمى الأقل، يعنى الأمر كان خداعًا، ومَن يضمن عدم تكرار تلك التجربة للتحايل على الفقرة السابقة فقرة الحل؟ بسيطة، الحل يكمُن (مع النظام الإلكترونى) في إجبار شركات الصرافة على البيع للبنك فقط وبالسعر الرسمى المُضاف إليه نسبة التشجيع التصاعدية، يعنى شركة الصرافة تشترى فقط من المواطنين العاديين مُتلقى الحوالات من الخارج أو مُدخرى الأخضر اللى خلى سنينا زرقاء، ومع كُل إيصال يتم طباعته سيكون رصيد الشركة من العملة الخضراء معروفًا، وسيكون ربحها معروفا عندما تبيع للبنك (بربح يناسب مصروفاتها وأجور العاملين والربح المطلوب) دون المُبالغة في أسعار البيع (لأنها لن تبيع لغير البنك) التي يسبقها بالتأكيد مُبالغة في أسعار الشراء (من تحت الترابيزة الإيصال مكتوب فيه 10 وهو بيشترى بـ15 مثلًا)، فلو عمل الحركة الأخيرة دى يلبس براحته!
الجريدة الرسمية