رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. 2

فيتو

مازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية».. احتفاء واحتفالا بقرب قدوم ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، التي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون..... 


يقول ابن قيم الجوزية في كتابه القيم:

وإذا تأملت أحوالَ هذا الخلقِ، رأيتَ هذا الاختيار والتخصيص فيه دالاً على ربوبيته تعالى ووحدانيته، وكمالِ حكمته وعلمه وقدرته، وأنه اللَّهُ الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلُق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبِّر كتدبيره، فهذا الاختيارُ والتدبير، والتخصيص المشهود أثرُه في هذا العالم مِنْ أعظم آيات ربوبيته، وأكبرِ شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدقِ رسله، فنشيرُ منه إلى يسير يكونُ منبهاً على ما وراءه، دالاً على ما سواه.

         

فخلق اللّه السماواتِ سبعاً، فاختار العُليا منها، فجعلها مستقر المقربين مِن ملائكته، واختصها بالقرب مِن كرسيه ومِن عرشه، وأسكنها مَن شاءَ مِن خلقه، فلها مزيةٌ وفضلٌ على سائر السماوات، ولو لم يكن إلا قربُها منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيلُ والتخصيصُ مع تساوي مادة السماوات مِن أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار.

         

وَمِن هذا تفضيلُه سبحانه جنّةَ الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصُها بأن جعل عرشه سقفَها، وفي بعض الآثار: ((إن اللّه سبحانه غرسها بيده، واختارها لِخيرته مِن خلقه)). وَمِن هذا اختيارُه مِن الملائكة المصطفيْنَ مِنهم على سائرهم،كجبريلَ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ،فَاطِرَ السَّماوات وَالأرضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).

         

فذكر هؤلاء الثلاثة مِن الملائكة لكمال اختصاصهم، واصطفائهم، وقربهم من اللّه، وكم مِن مَلَك غيرهِم في السماوات، فلم يُسم إلا هؤلاء الثلاثة. فجبريل: صاحبُ الوحي الذي به حياةُ القلوب والأرواح، وميكائيلُ: صاحب القَطْرِ الذي به حياةُ الأرض والحيوان والنبات، وإسرافيل: صاحب الصُور الذي إذا نفخ فيه، أحيت نفختُه بإذن اللّه الأموات، وأخرجتهم مِن قبورهم.

                  

وكذلك اختيارُه سبحانه للأنبياء مِن ولد آدم عليه وعليهم الصلاةُ والسلام، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، واختياره الرسل منهم، وهم ثَلاثُمائة وثلاثة عشر، على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد، وابن حبان في ((صحيحه))، واختيارُه أولي العزم منهم، وهم خمسة المذكورون في سورة (الأحزاب) و(الشورى) في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13]، واختار منهم الخليلينِ: إبراهيمَ ومحمداً صلى اللّه عليهما وآلهما وسلم.

         

وَمِنْ هذا اختيارُه سبحانه ولدَ إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كِنانة مِن خُزيمة، ثم اختار مِن ولد كِنانة قُريشاً، ثم اختار مِن قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سَيِّدَ ولدِ آدم محمَّداً صلى الله عليه وسلم.

         

وكذلك اختار أصحابه مِن جملة العَالَمِينَ، واختار منهم السابقينَ الأولين، واختار منهم أهلَ بدر، وأهلَ بيعة الرِّضوان، واختار لهم مِن الدِّين أكملَه، ومِن الشرائع أفضلَها، ومن الأخلاق أزكَاها وأطيبها وأطهَرها.

                  

واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، كما في ((مسند الإِمام أحمد)) وغيره من حديث بهَزِ بن حكيم بن معاوية بن حيْدَةَ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسُولُ صلى الله عليه وسلم ((أَنْتمْ مُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّة أَنْتمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللّه)). قال علي بن المْديني وأحمد: حديثُ بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه صحيح.

        

 وظهر أثرُ هذا الاختيار في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدِهم ومنازلهم في الجنَة ومقاماتهم في الموقف، فإنهم أعلى من النَّاس على تلٍّ فوقهم يشرفون عليهم، وفي الترمذي من حديث بُريدة بن الحُصَيْبِ الأسلمي قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: ((أَهلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ)) قال الترمذي: هذا حديث حسن. والذي في ((الصحيح)) من حديث أبي سعيد الخُدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث النار: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَده إنِّى لأَطْمَعُ أَنْ تكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ))، ولم يزد على ذلك. فَإِمَّا أن يقال: هذا أصح، وإمَّا أن يُقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمتُه شطرَ أهل الجنة، فأعلمه ربُّه فقال: ((إنهم ثمانون صفاً من مائة وعشرين صفاً))، فلا تنافي بين الحديثين، واللّه أعلم.

         

وَمِن تفضيل اللّه لأمته واختيارِه لها أنه وهبها مِن العلم والحلم ما لم يَهَبْهُ لأُمَّة سواها، وفي ((مسند البزار)) وغيره من حديث أبي الدرداء قال: سمعتُ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِعيسَى ابْنِ مَريَمَ: ((إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَعْدِكَ آمةً إِنْ أَصَابَهُم مَا يُحِبُّونَ، حَمِدُوا وَشَكَرُوا، وَإنْ أَصَابَهمْ مَا يَكْرَهُونَ، احْتَسَبُوا وَصبَرُوا، وَلاَ حِلْمَ وَلاَ عِلْمَ، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ؟ قَالَ: أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِي وَعِلْمِي)).

                  

وَمِن هذا اختيارُه سبحانه وتعالى مِن الأماكن والبلاد خيرَهَا وأشرفهَا، وهي البلد الحرامُ، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإِتيانَ إليه من القُرْب والبُعْد مِن كلِّ فَجٍّ عميقٍ، فلا يَدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لِباس أهل الدنيا، وجعلَه حَرَماً آمِناً، لا يُسفك فيه دمٌ، ولا تُعَضَدُ به شجرة،ولا يُنَفَّر له صيدٌ، ولا يُختلى خلاه، ولا تُلتقط لُقَطَتُه للتمليك بل للتعريف ليس إلا، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، ماحياً للأوزار، حاطاً للخطايا، كما في ((الصحيحين)) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((مَن أَتَى هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))، ولم يرض لقاصده مِنَ الثواب دون الجنَّة، ففي ((السنن)) من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحدِيدِ والذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الجنَّةِ)).


 وفي ((الصحيحين)) عن أبي هريرة أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: ((العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ))، فلو لم يكن البلدُ الأمين خيرَ بلاده، وَأحبَّها إليه، ومختارَه من البلاد، لما جعل عرصَاتِها مناسِكَ لعباده، فَرَضَ عليهم قصدَها، وجعل ذلك من آكدِ فروض الإِسلام، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال تعالى؟ {وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} [التين: 3]، وقال تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1]، وليس على وجه الأرض بقعةٌ يجب على كل قادرٍ السعيُ إليها والطوافُ بالبيت الذي فيها غيرَها، وليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيلُه واستلامُه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه غيرَ الحجر الأسود، والركن اليماني.


 وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ففي ((سنن النسائي)) و((المسند)) بإسناد صحيح عن عبد اللّه بن الزبير،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صَلاَةٌ في مَسجدي هَذَا أفْضَلُ مِن ألفِ صلاَة فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجدَ الْحَرَامَ، وصَلاَةٌ في المًسجِدِ الحَرَامِ أفْضَل مِنْ صَلاَةً في مَسْجدي هَذَا بمَائَة صَلاَة)) ورواه ابن حبان في ((صحيحه)) وهذا صَرًيح في أنَ اَلمسجد الَحَراَمَ أفضلُ بقاعِ الأرض على الإطلاق، ولذلك كان شدُّ الرحال إليه فرضاً، ولِغيره مما يُستحب ولا يجب، وَفي ((المسند))، والترمذي والنسائي، عن عبد اللّه بن عدي بن الحصراء أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة مِنْ مَكَّةَ يَقُول: ((وَاللَّه إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللَّهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللَّهِ إِلًى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكَِ مَاَ خَرَجْتُ)) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

         

بل وَمِن خصائصها كونُها قبلةً لأهل الأرض كلِّهم، فليس على وجه الأرض قبلةٌ غيرُها.

                  

ومِن خواصها أيضاً أنه يحرم استقبالُها واستدبارُها عند قضاء الحاجة دون سائر بِقاع الأرض.

         

وأصح المذاهب في هذه المسألة: أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان، لبضعة عشر دليلاً قد ذُكِرت في غير هذا الموضع، وليس مع المفرق ما يُقاومها البتة، مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان، وليس هذا موضعَ استيفاء الحِجَاج من الطرفين.


             

ومن خواصها أيضاً أن المسجدَ الحرامَ أولُ مسجد وضع في الأرض، كما في ((الصحيحين)) عن أبي ذر قال: سألتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنْ أوّل مَسجد وُضِعَ في الأرض؟ فقال: ((المَسْجد الحَرَامُ)) قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: ((المَسْجَدُ الأِّقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أرْبَعُونَ عَامَاً)) وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرفِ المرادَ به، فقال: معلوم أن سليمان بنَ داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام، وهذا من جهل هذا القائلِ، فإن سليمان إنما كان له مِن المسجَد الأقصى تجديدُه، لا تأسيسُه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى اللّه عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار.

         

ومما يدل على تفضيلها أن اللّه تعالى أخبر أنها أمُّ القرى، فالقرى كلُها تبع لها، وفرعٌ عليها، وهي أصلُ القرى، فيجب ألاَّ يكون لها في القُرى عَدِيل، فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن (الفاتحة) أنها أمُّ القرآن ولهذا لم يكن لها في الكتب الإِلهية عديلٌ.

                  

ومن خصائصها أنها لا يجوزُ دخولُها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام، وهذه خاصية لا يُشاركها فيها شيءٌ من البلاد، وهذه المسألةُ تلقاها الناسُ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وقد روي عن ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعاً ((لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ بِإحْرَامٍ، مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ غَيرِ أَهْلِهَا)) ذكره أبو أحمد بن عدي، ولكن الحجاج بن أرطاة في الطريق، وآخر قبله من الضعفاء.

         

وللفقهاء في المسألة ثلاثةُ أقوال: النَّفْيُ، والإِثباتُ، والفرقُ بين من هو داخلُ المواقيتِ ومن هو قبلَها، فمن قبلها لا يُجَاوزها إلا بإحرام، ومن هو داخلها، فحكمُه حكمُ أهل مكَّة، وهو قول أبي حنيفة، والقولان الأولان للشافعي وأحمد.

                  

ومِن خواصِّه أنه يُعاقب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فتأمل. كيف عدى فعل الإِرادة هاهنا بالباء، ولا يقال: أردتُ بكذا إلا لما ضمِنَّ معنى فعل ((هم)) فإنه يقال: هممت بكذا، فتوعدَ من هم بأن يَظلم فيه بأن يُذيقه العذَابَ الألِيم.

                           

وَمِن هذا تضاعفُ مقادير السيئات فيه، لا كمياتُها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة، وجزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حَرَمِ اللّه وبلده وعلى بساطه آكدُ وأعظمُ منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملكَ على بساط مُلكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبِساطه، فهذا فصلُ النزاع في تضعيف السيئات، واللّه أعلم.

                                    

وقد ظهر سرُّ هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلدِ الأمين، فجذبُه للقلوب أعظمُ من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل:

مَحَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ                  وَمَغْنَاطِيسُ أفْئدَةِ الرِّجَالِ

         

ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابةٌ للناس، أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يَقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقا. 

لاَ يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُها                  حَتَّى يَعُود إلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقاً

         

فلله كم لها مِن قتيل وسليبٍ وجريح، وكم أُنفِقَ في حبها من الأموال والأرواح، وَرَضِيَ المحب بمفارقةِ فِلَذِ الأكباد والأهل، والأحباب والأوطان، مقدِّماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف، والمعاطف والمشاق، وهو يستلِذُ ذلك كلَّه ويستطيبُه، ويراه - لو ظهر سلطانُ المحبة في قلبه -أطيب من نِعَمِ المتحلية وترفهم ولذاتهم. 

وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُ شَقَاءَه                  عَذَابَاً إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبيبُهُ

         

وهذا كلُّه سرُّ إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله: { أَن طَهّرَا بَيْتِيَ } [الحج: 26] فاقتضت هذه الإِضافة الخاصة من هذا الإِجلال والتعظيم والمحبة مَا اقتضته، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك، وكذلك إضافته عبادَه المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم، فكلُّ ما أضافه الرَّبُّ تعالى إلى نفسه، فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاءَ والاجتباءَ، ثم يكسوه بهذه الإِضافة تفضيلاً آخر، وتخصيصاً وجلالة زائداً على ما كان له قبل الإِضافة، ولم يُوفق لفهم هذا المعنى من سوَّى بين الأعيان والأفعال، والأزمان والأماكن، وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء، وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح، وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجهاً قد ذكرت في غير هذا الموضع، ويكفي تصوُرُ هذا المذهب الباطلِ في فساده، فإن مذهباً يقتضي أن تكون ذواتُ الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة، وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها، وكذلك نفسُ البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بُقعة مزية البتة، وإنما هو لما يَقع فيها من الأعمال الصالحة، فلا مزية لبقعة البيت، والمسجد الحرام، ومِنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض، وإنما التفضيلُ باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعودُ إليها، ولا إلى وصف قائم بها..


 واللّه سبحانه وتعالى قد رد هذا القولَ الباطلَ بقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124] أي: لَيس كلُّ أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمُّل رسالته، بل لها محالٌّ مخصوصة لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، واللّه أعلم بهذه المحالِّ منكم. ولو كانت الذواتُ متساوية كما قال هؤلاء، لم يكن في ذلك ردٌ عليهم، وكذلك قولُه تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] أي: هو سبحانه أعلمُ بمن يشكره على نعمته، فيختصه بفضله، وَيَمُنُّ عليه ممن لا يشكره،فليس كلُّ محلٍ يصلح لشكره، واحتمال منته، والتخصيص بكرامته.

         

فذواتُ ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتَمِلَة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها، ولأجلها اصطفاها اللَّهُ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفاتِ، وخصها بالاختيار، فهذا خلقُه، وهذا اختياره {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص: 67]، وما أبين بطلانَ رأْيَ يقضي بأن مكان البيت الحرام مساوٍ لسائر الأمكنة، وذاتَ الحجر الأسود مسَاويةٌ لسائر حجارة الأرض، وذاتَ رسول اللّه. مساويةٌ لذات غيره، وإنما التفضيلُ في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها..


 وهذه الأقاويل وأمثالُها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة، ونسبوها إليها وهي بريئة منها، وليس معهم أكثرُ من اشتراك الذوات في أمر عام، وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة، لأن المختلفاتِ قد تشترِك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية، وما سوَّى اللَّهُ تعالى بين ذات المِسك وذاتِ البول أبداً، ولا بين ذات الماء وذات النَّار أبداً، والتفاوتُ البَيِّنُ بَيْنَ الأمكنة الشريفة وأضدادها،والذواتِ الفاضلة وأضدادها أعظمُ من هذا التفاوت بكثير، فبين ذاتِ موسى عليه السلام وذاتِ فرعون من التفاوت أعظمُ مما بين المسك والرجيع،وكذلك التفاوتُ بين نفس الكعبة، وبين بيت السلطان أعظمُ من هذا التفاوت أيضاً بكثير، فكيف تُجْعَلُ البقعتان سواءً في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات؟!

         

ولم نقصِدِ استيفاءَ الردِّ على هذا المذهب المردودِ المرذول، وإنما قصدنا تصويرَه، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكُم، ولا يَعبأ اللّه وعبادُه بغيره شيئاً، واللّه سبحانه لا يُخصصُ شيئاً، ولا يُفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصَه وتفضيله، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبُه، فهو الذي خلقه، ثم اختاره بعد خلقه، وربُّك يخلق ما يشاءُ ويختار....

الجريدة الرسمية