أصدقه الآن أكثر
كان يعرف المرض قبل أن يقرر ارتداء الجوارب.. ويمسك بمشرط الجراح ليجري تلك العملية الجراحية التي لو فشلت.. مات المريض.. وضاع الطبيب.. ولكنه بالفعل كان واضحا وصريحا بل وفجا.. في عرض الحالة على الجميع.. لم يدع أنه نبي الله عيسى فيبرئ الأكمه.. ويحيي الموتى.. ولم يدع أنه موسى.. يدعو الله فينزل على قومه المن والسلوى.. ويشق البحر بعصاه فينجو القوم من الظالمين.. ولم يقل إنه سليمان.. يسخر الجن ويأمر الطير فيطاع قبل أن يرتد إليه بصره.. لم يدع النبوة.. ولم يحمله الله برسالة.. ويدعمه بآية أو معجزة.. بل قال أنا ابن هذه الأرض.. وضعتم في ثقتكم.. وهي غالية.. ولكن يدي بيدكم فنبني ونعلو.. لم يقل سأشق السماء فآتيكم بالذهب والفضة.. لم يعد بالغنى والجاه لكل من خرج يوم انتخابه ليدلي بصوته ناخبا إياه.
أفقت فتذكرت كل ذلك وأنا أقرأ حواره الأخير في جريدة الأهرام.. الحوار الثاني للصحف القومية الكبرى الثلاث.. الحوار الذي مؤكد أنه أعد له مسبقا.. لكنه جاء في توقيت رسمه القدر بعناية لكي يثبر أغوار المهاترات.. والفتن.. جاء ليحنو على أم ثكلى.. اتشحت بالسواد.. وفاضت دموعها على ابن العشرين.. حامي الحما.. ساكن الفؤاد.. حي في قبره.. عصي على الذوبان بين ذرات ترابه.. جاء ليمسح جبين رجال.. كسرت المحن ظهورهم.. وغاصت الهموم بين حنايا الوجه وعلامات العجز والعوز..
كنت بالأمس القريب جدا ألوم عليه لوما شديدا.. سرا وعلانية.. وأقول ليس هو من كنت آمل..وأطالبه أن ينزع عن عينيه عصابته السوداء التي حجبت عنه الرؤيا بكامل إرادته.. وأن ينظر إلى المواطن الذي يغلي على أنقاض معيشته الصعبة.. لم أنكر حاجة البلاد لكل المشروعات الكبرى التي تبنى.. وسيأتي اليوم لنتباهى بها.. ولكني استنكرت حاجة الناس.. وحالة العوز وعدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة الأساسية..
استنكرت الغلاء.. وانفلات الأسعار وجنون الدولار وجشع التجار.. وثبات.. بل انحناء الأجور وانسحاقها تحت أقدام كل ما فات.. ولكن السؤال الذي لم يرد بخاطري.. هل كان وحده مسئولا؟ حين كنت أكيل اللوم لم يراودني هذا السؤال..
الآن فقط راودني بعد أن اكتشفت أن هناك من يتعمدون صنع تلك الأزمات.. التي ستكون وقودا للثورة التي يعدون لها.. الحقيقة أن حوار الرئيس الذي أتمنى أن يقرأه المصريون جميعا يقول إنه يعرف ماذا يفعل.. وإنه قرر أن يقتلع الورم من جذوره مهما كلفه من تضحيات.. وإنه لن يكتفي بمسكنات تهدئ الألم.. وتترك وراءها ورما خبيثا لا علاج له.. مصر تحتاج التنمية.. تحتاج الأمل.. تحتاج أن تتعافى بعد مرض طويل ربما لن نطال ثمارها فنحن ذاهبون.. ولكن سيطالها أبناؤنا وأحفادنا.. ولنقرأ جميعا كتب الثورات.. لنعرف أن الهدم عمره دقائق.. والبناء سنواته طويلة وشاقة.
كثيرون منا.. وخاصة من ينتمون للطبقة الوسطى.. احتملوا الحاجة والألم.. وكانوا عمادا لبناء بلدهم في عز الأزمات والمحن.. ربما لم يعش جيلي محنة النكسة.. وروعة الانتصار.. ولكننا عشنا خفقان القلب رعبا في البيوت خوفا على العمر.. وشقاه.. عشنا أياما نترقب مفردات جديدة ظهرت على سطح أكوام المفردات التي سحقتها كلمات مثل السلب والنهب والحرق والقتل والسحل.. وسمعنا تركيبات غريبة من الصياغات الحديثة مثل الانفلات الأمني والأخلاقي.. وثورة فجرت من شعب أسوأ ما فيه.. ومواطن يتباهى بخرق القانون.. وموظف يسرق علنا دون خجل أو حياء.. وطفل يخرج ولا يعود.. وسيارة يتم سرقتها وابتزاز صاحبها كي تعود فيدفع ثمنها مرة أخرى أو تقطع وتباع خردة.. ومخدرات تباع على النواصي دون خوف أو خجل..
فيثور حزب الكنبة الذي أخذ موقع المشاهد في مسرحية هزلية سخيفة.. وبعد كل ما فات.. يختلقون الأزمات وقودا لثورة جديدة.. هيهات.. المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.. والباقي من عمر الناس والوطن سيكون للبناء.. وفأس الهدم سيحطمها المصريون على نواصي المخربين.. وسيحملون معول البناء لتعيش مصر لأبنائنا وأحفادنا كريمة عفية.