رئيس التحرير
عصام كامل

مختار محمود يكتب: زلزال التعويم

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

بقلوب خاشعة، مؤمنة بقضاء الله وقدره، وخاضعة للديّان، الذي لا يغفلُ ولا ينامُ، وكل شىء عنده بمقدار، يُعزّى شعبُ مصر العظيم نفسه، في وفاة الجنيه المصرى، وينعى إلى الوطن العربى الكبير، العملة التاريخية، التي كانت تفوق، يوما من الأيام، الدولار والإسترلينى وجرام الذهب، ولكنها سُنة الله في كونه، ولن تجد لسُنة الله تبديلا أو تحويلا، فالموت داء، لا دواء له، وما المال والأهلون إلا ودائع، ولا بد يومًا أن تردّ الودائع، ويبقى الموتُ جامدًا ليّنًا عصيًّا أزليًّا غامض الطريقة، وعلاج الشيخوخة الموت، وقد شاخ الجنيه وانكسر وصار ذليلا، أمام عملات، كان هو في يوم من الأيام، سيدها وكبيرها، والموتُ خيرٌ من رُكوبِ العار، والعارُ خيرٌ من دُخولِ النارِ، و‎كم من عزيزٍ أذلّ الموتُ مصرعه، كانت على رأسهِ الراياتُ تخفقُ، وهذه هي حال الجنيه المصرى.


ربما يجد المصريون أنفسهم، قريبا جدا، مضطرين لكتابة مثل هذا النعى، وإقامة سرادق كبير، أمام البنك المركزى لاستقبال العزاء في المغفور له “الجنيه”، بعدما تراجعت هيبته، وانخفضت قيمته أمام جميع العملات، صغيرها وكبيرها، بما فيها “الجنيه السودانى”، حتى صار أصحابه يشبهونه بـ”الكلينيكس”، استخفافا وامتهانا وامتعاضا واحتقارا، وبعضُ المصريين لا يرحم عزيز قوم ذل، حيث يهيل عليه التراب، ويتناوب على قدحه وذمه وتجريحه والنيل منه، والأوساط الشعبية والاقتصادية، تترقب التوقعات بخفض قيمة المغفور له “ الجنيه”، أو تعويمه بأسلوب “التعويم المدار”، خلال أيام قليلة جدا، في ظل سياسة الصدمات التي يتبعها البنك المركزى المرتبك أصلًا، لإرباك المضاربين على العملة، وتكبيد تجار سوق الصرف خسائر كبيرة، و”تعويم الجنيه”، بكلمات بسيطة، يعنى أن يتم ترك السعر في السوق الرسمية بالبنوك العاملة في السوق المحلية، ليتحدد وفقًا لآليات العرض والطلب، كما يعنى “خفض قيمة العملة المحلية”، النزول بسعرها أمام الدولار، إلى قيمة يحددها مسئولو البنك المركزى، في توقيتات محسوبة، تراعى عدة معايير اقتصادية، وهو المتوقع في ظل أرصدة الاحتياطي الأجنبى، ومستوى سعر السوق السوداء للعملة، ويُثبّتُ بعدها السعر عند مستوى محدد، ويتدخل في توقيتات معينة، لوقف المضاربات، عبر إجراءات صارمة، وعلى الجانب المقابل.. ينتهج البنك المركزى المصرى، سياسة سعر الصرف المرنة، التي لا تستهدف سعرًا محددًا لفترة طويلة، وقد تم طرح فكرة “تعويم الجنيه”، نتيجة الأزمة الاقتصادية القوية التي يعانى منها الاقتصاد المحلى، حيث يرى مؤيدوها، أنها وسيلة جادة للقضاء على مشكلة نقص احتياطي العملة الأجنبية، وحتى يتم القضاء على فرق السعر الكبير بين سعر الدولار في البنوك الرسمية، وسعر الدولار في السوق السوداء، الذي أصبح يقترب من 50%.

عندما تم تعويم الجنيه في العام 2003، لم تكن هناك ضرورة ملحة لها، ولكن حدث ما حدث، من أجل مصلحة بعض رجال الأعمال، حيث كان سعر الدولار قبل تعويم الجنيه 340 قرشا، وأصبح بعد التعويم 550 قرشا، ثم ارتفع بعدها الجنيه المأسوف حتى وصل إلى 620 قرشا، واستقرّ بعدها، لكن تسربت معلومات للتجار ورجال الأعمال قبل تطبيق التعويم، ما جعلهم يشترون كميات كبيرة جدا من الدولارات، ويبيعونها بعد التعويم محققين مكاسب كبيرة جدا، واستفاد رجال الأعمال فقط من تعويم المذكور، أما الشعب.. فقد عانى بسبب ارتفاع الدولار جرّاء التعويم، ما يعنى أنها كانت خطوة فاشلة، لم تخدم سوف فئة محدودة من الشعب البائس، ومن ثم.. فإن حظوظ الفشل، هذه المرة، سوف تكون أوفر، في ظل متغيرات اقتصادية عنيفة، تضرب بقوة في جسد الاقتصاد المحلى.

في المقابل يرى فريق آخر..أن تعويم الجنيه، صار ضروريا في هذه المرحلة، على خلفية الوضع الاقتصادى المتدني، ونقص النقد الأجنبي، بزعم أن هذا من شأنه، جذب الاستثمارات والمستثمرين، ما يؤدى إلى خفض معدلات البطالة، والقضاء على السوق السوداء للعملة، وهو ما يراه فريق آخر “مجرد أوهام وأضغاث أحلام”، وأن التعويم، في ظل الوضع الاقتصادى المتدني، وقلة النقد الأجنبي، سوف يؤدى لرفع أسعار جميع السلع بشكل كبير، ويقلل من قيمة الجنيه، وينقله من الدار الدنيا، إلى الدار الآخرة، ومن ثم كتابة النعى المذكور أعلاه، وسبحان من يحيى العظام وهى رميم.
الجريدة الرسمية