منتصف العمر !
جملة تصف فترة من العمر قد يكون الوصف منصف وقد يكون جائرا، لأنها تصف أزهى سنوات العمر، فيختلف تقيمنا لها باختلاف العدسة العاكسة لما مررنا به في الحياة، فمن يراها بعين الفقد يختلف عن من يراها بعين الاكتساب، على الرغم من أن الاثنين قد يتعرض لهما نفس الشخص بحكم الحياة.
يسبقها سنوات طفولة بريئة بمشاعر نقية عفوية طاهرة، ثم تأتي المراهقة بما تحمله من تخبط وصراع بين مشاعر طفولية وعقل في بداية نضجه، ومن بعده يأتي ربيع العمر بشباب قلبه وفورة مشاعره الفياضة.
لا نبالغ إن قلنا في تلك المراحل الثلاث يكون الحب بسطحية والكرة بمبالغة، ولكن حين ينتصف العمر نبدأ العصر الذهبي للقلب والعقل والمشاعر.
لنبلور قيمة تلك الفترة من عمرنا حتما نكون قد تعرضنا لكثير من الفقد، الاكتساب، العطاء، الحرمان، لنختصر ونقول المزج الغريب بين المتناقضات لدرجة اننا لم نعد ندري ما التجارب التي انتجت الحكمة بداخلنا أكثر !
لأننا تعرضنا للنقيضين واكتسبنا من عمق التجربة ما جعلنا ندرك قيمة النقيض الذي واجهناه أيضا !
لو نظرنا لصورنا في مختلف مراحل عمرنا لوجدنا صورة برعم صغير لم تتضح معالم جماله بشكل جلي، ولرأينا صورة ذلك البرعم حينما طال ساقه وأخذت تتفتح وريقاته، نجد مراهقة متسرعة للوصول لعالم الشباب والانطلاق طمعا في حرية استقبال الحياة وأشعة الاستقلالية.. وحين نمعن التفحص في صورة اشتداد الساق والوقوف بشباب القلب بكل غرور في وسط بستان الحياة، على الرغم من قلة تجاربنا نتعجب من كثرة أمنياتنا وسذاجة طموحنا !
لكن تستوقفنا تلك الصورة التي تحمل عمق الزمان بداخلنا، مما جعل الزمان بتجاربه وإيجابياته وعثراته، كـ يد رسام محترف أو نحات دقيق برع في رسم صورة انتصاف العمر بكل دقة في ملامحنا، بل اهتم بنحت الجوهر فـأعطى المعنى أبعاده، وصقل المضمون فـبرزه، مما جعلنا نظهر في صورة مكتملة متوافقة بين العمر والعقل.. متناغمة بين الإحساس والتجارب...
هل نتحدث عن مشاعر اكتسبناها حتى نصل لتلك المرحلة من النضح !
أم عن أحاسيس افتقدناها، وبدونها أصبحنا أكثر نضجًا في مرحلة تعتبر فاصلة في العمر !
كم من مشاعر افتقدناها في مشوار العمر حتى انتصف..
فقدنا البراءة، الجراءة، التلقائية، العذوبة، النقاء..
قد نكون فقدنا ذواتنا الحقيقية وما نعيش بها الآن شخصيات صنعت بأيدي الزمن وشخوصه وليس بإرادتنا، شخصيات تتوافق مع الواقع لا تنكره، تقدر الوقت وتعرف قيمته ولا تتعجله، فلا تكره ما فرض عليها ولا تحزن على ما حرمت منه.
فأصبحنا زاهدين فيما هو آت لأننا ارتوينا حياة، وامتلأنا قناعات، وشبعنا تجارب ممزوجة باخفاقات وإنجازات.
وبتنا ندرك أننا لسنا أغنياء بما نملك من مال وممتلكات فقط.. بل أثرياء بوجود شخصيات ذات قيمة تمثل لنا الحياة والعمر ذاته.. وبما نحمل من تجارب وخبرات حياة.
الأهم أننا أصبحنا أثرياء بما زهدنا فيه من صغائر الأمور، وتعمق فينا من قيمة العمر المتمثلة في القناعة والانتقاء.
ولا ننكر واقعنا المتناقض بأن العمر أمسى بنا فقراء، فقد فرغنا من أحاسيس ثمينة لن تعود، و فقدنا أناس أعزاء علينا في سنة الحياة، وخسرنا صحتنا لتحمل ضغوط الزمن، وفرغت طاقاتنا لنكمل المشوار، وهجرتنا مشاعر ينكرها علينا المجتمع بسبب ما وصلنا له من عمر!
كنا نمتلئ بالحيوية والنشاط والعطاء، والآن نبحث عن من يمن علينا بالقليل من وقته أو تقديره أو حتى القليل من الحب والاهتمام!
لكننا نعرف جيدا أنها سنة الحياة في المد والجزر، في العطاء والحاجة... سنة الحياة في الأولويات.
هناك من ينتصف العمر لديهم بالندم..على ما ضاع منهم من فرص، على ما فرطوا فيه من مشاعر، على من تخطوهم في زحام العمر دون أن يتوقفوا عندهم ليلاحظوا كم هم إضافة لحياتهم، وكم كانت ستختلف الحياة بوجودهم فيها، وكم كانت ستختلف الأقدار معهم !
وهناك من يبحث في انتصاف العمر...عن صديق قديم فاته أن يقرب منه في زحام شخصيات تدعي الصداقة، عن حب حقيقي يعوض به خيبات وعذابات، عن مشاعر تعالى عليها قديما فخسر معها جزءًا من إحساسه البريء النقي.
انتصف العمر ونتفاخر..بأننا كسبنا، نضجنا، لذاتنا حققنا، ولأسرنا قدمنا، ولمستقبلنا أسسنا.
تملؤنا الثقة فيما تبلور لدينا من فكر ورجاحة عقل، وثقل في شخصية أضحت تعي تماما بمجريات الأمور والحياة والناس، تعي بأن خريف العمر قد يجعلنا على اعتاب حياة جديدة، نحياها بإرادتنا ونضجنا، أو قد يكون بداية نهاية مشوار يدعى الحياة، باكتمال مراحله شئنا أم أبينا !