«موسى والخضر».. نبوة وموت مُعلم كليم الله
أول عقدة تحل من عقد الزندقة هي إثبات أن الخضر نبي وليس مجرد ولي، والعقدة الثانية التي تحل هي إثبات أنه ميت وليس بحي، وقد دل على هذا الكتاب والسنة وإجماع المحققين من العلماء، وكذلك دلَّ المعقول من عدة أوجه على أن الخضر قد مات.
والكلام في هذه المسألة ليس كلاماً هامشياً، بل هو إيقاظ للآلاف ممن ظنوا حياته وانخدعوا برؤية الشياطين التي تتمثل في صورته، مما قادهم إلى الانسلاخ عن الدين.
هل
الخضر حي أم ميت؟
إن
الخضر عليه السلام نبي على رأي جماهير العلماء، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى: { وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف:82] أي: أنه مأمور من قبل الله تبارك وتعالى بما
يفعل، قالوا: وهذا لا يكون إلا لنبي.
قال
الإمام العلم أبو الحسين بن المنادي رحمه الله تعالى: (إثبات أن الخضر نبي أول عقدة
تحل من الزندقة)؛ لأن الزنادقة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: يقولون: إن الخضر
ولي، وينشد منشدهم في ذلك قائلاً: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي أي:
أن مقام الولاية أعلى من مقام النبوة والرسالة، فالذي يصفونه بأنه ولي هو أعلى عندهم
من النبي والرسول، وقولهم: (فويق الرسول) -أي: فوقه بقليل (ودون الولي) فيكون الترتيب
على حسب ترتيبهم: الولي، ثم النبي، ثم الرسول، ولو عكسوه لكان أولى: الرسول، ثم النبي،
ثم الولي.
فإثبات
أن الخضر عليه السلام نبي أول عقدة تحل من الزندقة.
هل
الخضر عليه السلام حي أم مات؟ وسبب الحديث عن هذا البحث أن كثيراً من الجهال الخارجين
عن الشريعة أو الذين تعلقوا منها بحبل واهٍ يشبه خيط العنكبوت، يزعم أحدهم أنه قابل
الخضر، فيقول: أوصاني الخضر وأفتاني الخضر وأرشدني الخضر، ويقسم أنه رأى الخضر وأنه
كلمه، ويحتج ببعض إطلاقات لبعض علمائنا كـ ابن الصلاح و النووي وغيرهما من أن الخضر
حي، وأن كثيراً من العارفين رأوه وكلموه كفاحاً بغير ترجمان.
أدلة
القائلين بأن الخضر حي...
إن
أقوى ما تعلقوا به في هذا المجال ما رواه الطبراني وغيره بسند ضعيف فيه مجاهيل كما
قال ابن كثير رحمه الله، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: (ألا أنبئكم
بالخضر؟ كان رجل من بني إسرائيل مر على الخضر فسأله شيئاً لوجه الله، فقال له الخضر:
إن الله قادر أن يعطيك كذا وكذا ما عندي شيء، فقال: سألتك بالله أن تعطيني شيئاً، فقال:
ما عندي من شيء أعطيكه ولكني أستحي أن تسألني بالله شيئاً وأردك، خذني فبعني في السوق
واقبض ثمني وأنفقه، قال: وكيف آخذك يا عبد الله وأنت كذا وكذا، قال: إنك سألتني بمن
لا يرد، خذني فبعني، فأخذه فباعه بأربعمائة درهم، فاشتراه هذا الرجل ورآه شيخاً كبيراً
فانياً لا يصلح للعمل.
فقال
له الخضر يوماً: كلفني بشيء، قال: إني أشفق عليك وقد رأيتك شيخاً كبيراً فانياً أن
أكلفك بما لا تطيق، قال: بل كلفني -وهو لا يدري أنه الخضر- قال: فانقل هذه الحجارة
-وكانت حجارة عظيمة- ريثما أذهب إلى السوق، وهذه الحجارة ما كان يحملها أقل من ستة
نفر.
وذهب
الرجل إلى السوق ورجع فلم يجد حجراً واحداً فتعجب! وقال: شققنا عليك أيها الشيخ، قال:
لم تكلف كثيراً، قال: فإني على سفر اخلفني في أهلي حسناً، قال: ألا كلفتني بشيء، قال:
إنك شيخ كبير وأخشى أن أشق عليك، قال: لا بل كلفني، قال: اضرب لي اللَّبِن -الطوب-
حتى أبني داري.
وذهب
الرجل ورجع فوجده ضرب الطوب وبنى البيت وهيأه، فأول ما رآه تعجب وقال: سألتك بالله
من أنت؟ قال: بهذا دخلت العبودية -أي: أنه صار عبداً بمثل هذا السؤال لأنه سئل بالله
فلم يقدر أن يرد هذا الرجل فباعه- قال: وأنت تسألني بالله أيضاً.
قال:
سألتك بالله من تكون؟ قال: أنا الخضر.
قال:
نبي الله؟ قال: نعم.
قال
له: أخيرك بين أن تكون حراً وبين أن تكون في ضيافتي، قال: بل دعني، فأعتقه ).
فهذا
من أكبر ما يحتجون به، وكما قدمت أنه ضعيف، فإذا كان أقوى ما عندهم ضعيفاً فما بالك
بالذي بعده، لاشك أنه شر منه.
ثم
لو فرضنا أنه صحيح، فما وجه الدلالة فيه على القضية المتنازع فيها؟ نحن الآن بصدد إثبات
هل الخضر حي أيام بعثة النبي عليه الصلاة والسلام أم لا؟ فأين في هذه القصة على طولها
من الدلالة ما يثبت هذا البحث؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( كان رجل من بني
إسرائيل )، ونحن نعلم أن الخضر صاحب موسى عليهما السلام كلاهما كان في بني إسرائيل.
إذاً:
لو صحت هذه القصة لم يكن فيها متعلق على الأمر المتنازع عليه، إذاً: فما هي بقية حججهم؟
حكايات ورؤى أن أحد الصالحين قال: رأيت الخضر، وكلمني الخضر، وحدثني الخضر، وأفتاني
الخضر، ليس عندهم أكثر من هذا.
أما
الأحاديث التي يحتجون بها فأجمع علماء الحديث وهم أهل الفصل في هذا الباب أن كلها أحاديث
مكذوبة موضوعة مفتراة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأوردها ابن الجوزي في كتاب الموضوعات،
وشدد النكير على واضعيها، فليس في أيديهم شيء، فالقول الصحيح في المسألة أنه مات.
إثبات أن الخضر قد مات
نحن
حين نهتم بهذه المسألة لا نقاتل طواحين الهواء بإثبات أن الخضر مات، فإن من وراء إثبات
موت الخضر إنقاذاً لعشرات المئات بل الألوف من المغفلين، الذين يأخذون دينهم من هؤلاء
الشياطين الذين يتمثلون بصورة الإنسي فيأخذون منهم الفتوى، إذاً: لماذا جاء النبي عليه
الصلاة والسلام، إذا كنت تأخذ فتواك من الخضر؟ لقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لما
رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة كما رواه أحمد في مسنده من حديث جابر ،
قال: ( ما هذا يا عمر ؟ قال: ورقة من التوراة كتبها لي رجل من اليهود -صفحة من التوراة
يقرأها عمر - فغضب النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب ؟
لقد جئتكم بها بيضاء ناصعة، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).
فلو
سلمنا أن الخضر موجود، وأنه حي فكيف يتبع؟ وكيف تؤخذ منه الفتوى؟ وموسى عليه السلام
الذي هو بإجماع الخلق أجل من الخضر ولا شك في ذلك، لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع
النبي صلى الله عليه وسلم، أفيتبع الخضر المشكوك في حياته بل المقطوع بأنه مات؟ إن
في إثبات أن الخضر مات حلاً لعقدة الزندقة الأخرى التي يعيش عليها ألوف المغفلين.
الأدلة
على أن الخضر مات
الخضر
مات لا شك في ذلك، والدليل على ذلك أربعة أشياء: القرآن، والسنة، وإجماع المحققين،
والمعقول .
أقوى
حجة للقائلين بأن الخضر حي
لقد
اطلعت على أغلب الحكايات حتى أقف على دليل ننصف به القائلين بأن الخضر حي فما وجدت
شيئاً يعتمد عليه، وأقوى ما ذكروه ويذكرونه ما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند صحيح
عن أبي زرعة الرازي وهو أحد الأعلام الكبار والجبال الرواسي في الحفظ رحمه الله قال:
قابلني رجل في الطريق شيخاً له هيئة وسمة، قال لي: يا غلام، لا تغشى أبواب الأمراء
والسلاطين ثم غاب عني، ثم لقيني بعد ما كبرت بنفس هيئته، فقال: ألم أنهك أن تأتي أبواب
السلاطين، قال: وما رأيته بعد ذلك.
قال
أبو زرعة : فوقع في قلبي أنه الخضر.
وليس
هذا بدليل؛ إذ أننا نقول: كيف عرفت أنه الخضر؟ قالوا: لأنه قال: لم أره بعد ذلك، أي:
أنه اختفى في الحال، بمجرد أن قال له هاتين الكلمتين اختفى وبعد ذلك ما رآه.
فنقول:
هل قول أبي زرعة : (لم أره بعد ذلك) يحتمل هذا فقط، أم يحتمل أنه لم يقابله بعد ذلك؟
يحتمل
الاثنان، إذاً: لماذا أخذت هذا وتركت ذاك؟ كما يقولون: ليس حباً في علي ولكن بغضاً
في معاوية.
هم
يبحثون عن أي دليل، ونحن نذكر (أدلتهم) تجوزاً، وإلا فهي على رسم جميع العلماء ليست
أدلة، فلو تجوزنا وقلنا: هي دليل فهي كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، لا تقف
منها على شيء، وغالب أدلتهم هكذا، فإن كان هناك قطاع من أمة محمد صلى الله عليه وآله
وسلم خرج بهذا الباب من الدين، ودخل هذا المهيع إلى باب الشرك وعدم الاعتماد على الله
تبارك وتعالى والانسلاخ من الشريعة، فكيف يقال: إن القول بحياة الخضر أو عدم القول
به مسألة هامشية.
أحياناً
يدخل رجل مريض المستشفى، وبرغم أنهم يعلمون أنه ميت إلا أنهم لا يتركون صغيراً أو كبيراً
من أسباب العلاج إلا طرقوه، لِمَ تفعلون ذلك؟ يقولون: هذا حياة إنسان، وإذا جئت أنا
وتكلمت في الطب قالوا: اترك ليس هذا تخصصك، وإذا تكلمت في الطب ولبست لباس الأطباء
وعلقت سماعة، ودخلت بالمعلومات العامة عندي وفتحت عيادة، وكشفوني متلبساً بأنني طبيب
ولست بطبيب يحكمون علي بالأشغال الشاقة المؤبدة، لماذا؟ لأن هذا تتعلق به أرواح الناس.
فإذا
كنتم تعاملون أرواح الناس هذه المعاملة أفلا تعاملون دين الخلق بأجل مما تعاملون أبدانهم؟
إن إنقاذ إنسان من الكفر أفضل من إنقاذ عشرة أبدان، فنحن بإغلاقنا هذا الباب نحل العقدة
الثانية من حبل الزندقة.
لا
يقولن قائل: إن الكلام في النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها قبور، أو في النهي
عن الاستعانة بغير الله تبارك وتعالى، أو في النهي عن اتباع غير النبي صلى الله عليه
وسلم هي مسائل هامشية، بل هذا هو النخاع واللب وما سوى ذلك هي المسائل الهامشية.
ونذكر
قصة الصحابي المزعوم عبد الله بن السلطان ، ويعلم الله أنه لا يوجد صحابي بهذا الاسم،
ويعلم أهل العلم جميعاً أنه لا يوجد صاحبي خلق بهذا الاسم عبد الله بن السلطان ، كان
زانياً سارقاً قاتلاً يفعل كل أنواع الفواحش والمنكر، هذا كتيب موجود والرسول عليه
الصلاة والسلام حزين، رآه يزني فلم يقم عليه الحد، رآه يترك الصلاة ولا يؤدي الزكاة
فلم يقتله، كل هذا والرسول موجود، ولا يقال: صاحبي إلا إذا كان موجوداً مع الرسول عليه
الصلاة والسلام، كل هذا يجري على عين النبي عليه الصلاة والسلام وهو حزين فقط؛ كأنه
لا حول له ولا قوة.
فمات
عبد الله بن السلطان ، فذهبوا إلى الرسول وأخبروه بموت عبد الله بن السلطان ، وقالوا
له: تعالى فصل عليه، قال: لا أصلي عليه، ما شاء الله من هذا الذي لم يرزق ذره من العقل
بعد كل هذا يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له: يا رسول الله! صل على عبد
الله بن السلطان ، فالرسول لم يصل عليه.
وإذا
بجبريل عليه السلام ينزل يسد الآفاق بستمائة جناح وينزل على المختار عليه الصلاة والسلام
ويقول له: إن ربك يأمرك أن تصلي على عبد الله بن السلطان .
انظر
المهازل! أليس هذا طعن في النبي عليه الصلاة والسلام وينشر هذا الكلام؛ لأنه ليس هناك
حاكم ولا ضابط على المطبوعات التي تنشر، وكما قلنا: دخل علينا الكفر بقرونه من باب
سموه باب (حرية النشر وحرية الرأي).
ويذهب
النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يدري لماذا يصلي على عبد الله بن السلطان وهو أعلم
بني آدم لكنه ذهب لأنه مأمور، ويصلي عليه، والذي يدفنه هو النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم
يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أين؟ إلى بيت امرأة عبد الله بن السلطان لقد رأيت
عجباً، يطرقون الباب، فتقول المرأة من الداخل: من هذا الفاجر الذي يطرق الباب، قالوا:
يا أمة الله! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتحت.
فقال
لها: يا أمة الله، ماذا كان يفعل عبد الله ؟ انظر! الرسول صلى الله عليه وسلم تحول
من معلم الإنسانية الخير إلى رجل يسأل وهو جاهل! قالت: ولِمَ.
قال:
لأنني لما نزلت القبر وجدت ألف حورية، واحدة في يدها زنجبيل وواحدة في يدها عصير، وكلهن
يتسابقن إليه خذ مني يا عبد الله ، كلهن يتسابق بالقربى والزلفى إلى هذا الفاجر، اشرب.
فقالت:
(أما قد قلت ذلك) فإنه كان زانياً فاسقاً فاجراً داعراً قاتلاً .
إلخ
القصة المكذوبة المفتراة التي ينبغي تحذير الناس من هذه الكتب التي تحتوي على خرافات
وأساطير نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى، ويوفقنا إلى نيل المطلب الأسمى، إنه
جواد كريم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
والحمد لله رب العالمين.
بطلان
الإجماع المزعوم على أن الخضر حي
إننا
نقطع أن الخضر عليه السلام مات، وأنه لا وجود له، وأن أية دعوى للإجماع ينقلها أي عالم
في الدنيا على أن الخضر حي هي دعوى بلا دليل، ونحن رأينا كما يقول العلماء وفي مقدمتهم
شيخ الإسلام ابن تيمية من المتأخرين، ومن المتقدمين الإمام أحمد بن حنبل قال: (من ادعى
الإجماع فقد كذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا).
أي:
من ادعى الإجماع برسمهم الموجود في أصول الفقه من أنه لا يتخلف عن هذا الإجماع عالم
مجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدريك؟ وهل تعلم جميع المجتهدين في الكرة
الأرضية حتى تقول: هذا أمر مجمع عليه؟ لذلك صار الإجماع المنقول في كتب الفقه هو عدم
المعرفة بالمخالف فقط لا أنه الإجماع المعروف في الأصول.
هذا
هو الإجماع الذي يذكره العلماء، فإذا قيل: وهذه المسألة قال العلماء فيها كذا بالإجماع،
لا تتصور أنه أجمع كل إنسان في الدنيا، لا بل المراد: لا نعلم مخالفاً لهذا القول فيذكره
إجماعاً على سبيل التسامح والتجاوز.
فدعوى
إجماع العلماء أو إجماع الأمة على أن الخضر عليه السلام موجود كما نرى ذلك في الكتب
هي دعوى بلا دليل.
لكن المكابر لا يسلم بالحق ولو شهدت عليه أعضاؤه، والسعيد من اتعظ بغيره، والمنصف يكفيه أقل من هذا.
ومازال الحديث عن هذه القضية متواصلا....