أرض التسامح
منذ تأسيسها في الثاني من ديسمبر عام 1971 على يد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ودولة الإمارات العربية المتحدة تتبنى منظومة راسخة من القيم الإنسانية والحضارية، التي ظلت إحدى ركائز المسيرة التنموية للدولة طيلة تلك العقود والسنوات الفائتة.. التسامح والاعتدال وقبول الآخر قيم إنسانية نبيلة تقع في قلب تلك المنظومة التي لا تزال دولة الإمارات تتمسك بها وتعمل على نشرها وتكريسها إقليميًا ومحليًا.
وبالأمس، شهدنا أحدث الجهود الإماراتية المبذولة على صعيد نشر قيمة التسامح، حيث أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عن تدشين مبادرة عالمية للتسامح تشمل تكريم رموز التسامح العالمي في مجالات الفكر الإنساني والإبداع الأدبي والفنون الجمالية، كما أعلن سموه عن تأسيس "جائزة محمد بن راشد للتسامح" لبناء قيادات وكوادر عربية شابة في مجال التسامح وتدعم الإنتاجات الفكرية والثقافية والإعلامية المتعلقة بترسيخ قيم التسامح والانفتاح على الآخر في العالم العربي، وفي إطار نفس التوجه الأخلاقي والإنساني والحضاري، أعلن سموه أيضًا عن إنشاء "المعهد الدولي للتسامح" أول معهد للتسامح في العالم العربي يعمل على تقديم المشورة والخبرات اللازمة في مجال السياسات التي ترسخ لقيم التسامح بين الشعوب ويقوم بنشر الدراسات والتقارير المتعلقة بموضوع التسامح والعمل مع المؤسسات الثقافية المعنية في العالم العربي لنشر مبادئ التسامح لدى الأجيال الجديدة.
لفت انتباهي بقوة في تصريحات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بهذه المناسبة عبارة رائعة، حيث قال سموه إن "الإمارات والتسامح وجهان لمعنى جميل واحد"، تلك هي الحقيقة التي يدركها أناس من أطياف ومشارب مختلفة يحملون أكثر من 200 جنسية ويعيشون على أرض التسامح ويتمتعون بخيرها وأمنها واستقرارها دون تفرقة بين عرق ولون ودين وجنس، كما يدركها العالم أجمع.
مبادرة التسامح هي رسالة الإمارات لأمتها وعالمها وللإنسانية جمعاء، وهي أقوى رسالة مضادة للتشدد والتطرف والنبذ والعنصرية والإقصاء والتهميش والكراهية والحقد، وذلك هو أقوى جهد بشري مستدام يقاوم الأفكار الهدامة ويصارع نظريات الاحتراب والصراع الحضاري والإنساني.
التسامح في دولة الإمارات ليس شعارًا يرفع في مناسبات معينة، ولا تقام له احتفالات سنوية لتخليده، بل عبارة عن منظومات مؤسسية تضم تشريعات وقوانين وتعليمات وسياسات وخطط تطبق على أرض الواقع، ولعل تأسيس معهد متخصص في دراسات التسامح يمثل مبادرة رائدة إقليميًا لحشد الطاقات البحثية المتخصصة والمتحمسة للعمل في هذا المسار للتضافر والتعاون في دراسة الظواهر السلبية التي باتت تمثل معضلة للمنطقة والعالم أجمع مثل التعصب والانغلاق والطائفية، والبحث عن حلول وبدائل علمية لمعالجتها واستئصالها من جذورها.
إن مزاوجة الاهتمام بقيم التسامح والاعتدال بين الإطار التنظيمي والمؤسسي والإطار البحثي والعلمي يعكس قناعة متجذرة لدى قيادتنا الرشيدة، وعلى رأسها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ بأن المستقبل ينتظر من الإمارات الاضطلاع بواجبها الإنساني والحضاري إزاء نشر قيمها الأخلاقية، التي أسهمت في بناء هذا النموذج التنموي والحضاري الفريد.
إن "مأسسة" الجهود لنشر التسامح هو ما تحتاجه منطقتنا العربية للخلاص من مستنقع الإرهاب الذي تحاول تنظيمات الإرهاب إغراقها فيه، فمنطقتنا العربية تحتاج إلى "إعادة إعمار فكري وثقافي" لترسيخ قيم التعايش والتسامح والانفتاح كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حيث حملت كلمات سموه خلاصة تجربة الإمارات التنموية الرائدة، حين أشار إلى أن "التسامح ضمانة أساسية لاستقرار المجتمعات واستدامة التنمية فيها"، وهذه الخلاصة تستحق من كل القادة والحكومات في العالم العربي التوقف عندها مليًا لدراستها بدقة وتحويلها إلى خطط واقعية قابلة للتنفيذ من أجل ضمان فاعلية الجهود الرامية إلى تحقيق الأمن والاستقرار في دولنا العربية جميعها.
إن احتفاء الإمارات برموز التسامح هو البديل الموضوعي المطلوب لاحتفاء التشدد برموز تنشر الرعب والكراهية والحقد والإرهاب، فلا يجب الاستسلام لهذا الفكر ولا يجب أيضًا الاكتفاء باستنكاره وإدانته وإعلان رفضه على الملأ، بل يجب العمل على إيجاد البديل القادر على طرده وإظهار قبحه وبشاعته ومخاطبة العقلاء، الذين تفرقت بهم السبل في مواجهة متاهة الأحقاد الأيديولوجية والطائفية والمذهبية التي تكاد تغطي وجه المنطقة والعالم!!
وإذا كانت تنظيمات الإرهاب والدول الراعية لها تبذل أقصى طاقاتها من أجل نشر العنف والاحتراب والطائفية والصراعات المذهبية، فحري بالدول التي تأسست ونجحت انطلاقًا من قيم إنسانية وحضارية نبيلة مثل التسامح والتعايش وقبول الآخر والانفتاح والاعتدال أن تبذل أقصى طاقاتها لإنقاذ العالم مما يحيق به من أخطار، وتكريس قيمها الإنسانية، فهي معركة أخلاقية شريفة تخوضها الإمارات سعيًا وراء عالم آمن ومستقر يحقق مفهوم القرية الكونية الصغيرة الآمنة على الصعد الأيديولوجية والفكرية والثقافية والإنسانية والحضارية.