ورحلت الفارسة النبيلة
في هدوء شديد وبلا أي ضجيج رحلت يوم السبت الماضي واحدة من أهم الكاتبات المناضلات في تاريخ مصر المعاصر، وهي الكاتبة الكبيرة نعمات أحمد فؤاد التي اقترن اسمها بقضايا أثارت خلالها العديد من المعارك من أهمها قضية دفن النفايات الذرية وقضية الدفاع عن قبة الحسين وقضية الدفاع عن الآثار الإسلامية وقضية أبو الهول وقضية الآثار المصرية التي استولت عليها إسرائيل أثناء احتلالها سيناء، وقضية هضبة الأهرام، حينما أعلن الرئيس السادات عن إقامة مشروع سياحى ضخم لملاعب الجولف عند هضبة الهرم، حيث تعلن رفضها داخل مصر وخارجها خوفًا من تأثير المياه والرطوبة على الآثار، لدرجة أنها ترفع دعوي قانونية وهو ماكان أمرا مستغربا وقتها ولايجرؤ عليه إلا امرأة بألف رجل مثل نعمات فؤاد، وهو مادفع السادات فعلا للتراجع عن قراره.
وكانت الكاتبة الراحلة التي ولدت بمركز مغاغة بمحافظة المنيا، هي كانت أول فتاة تحصل على المركز الأول على القطر المصري في امتحانات التوجيهية (الثانوية العامة حاليا)، وحصلت على ليسانس الآداب جامعة القاهرة عام 1948، ثم الماجستير عام 1952، ثم الدكتوراه عام 1959 برسالة كان عنوانها "نهر النيل في الأدب المصري"، فهي قد ندرت حياتها منذ البداية للدفاع عن النهر والأرض وعرض هذا الوطن، وهو ماجعلها تحظي بمكانة بارزة عند رجالات عصرها أمثال عباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات، بينما كان منزلها منتدى ثقافيا لأعلام مصر من مثقفين وأدباء وفنانين.
لم تكن نعمات فؤاد مجرد كاتبة استعراضية أو مناضلة في قضايا هامشية لاتتعلق بمصير تراب هذا الوطن، وإنما كانت مهمومة بالفعل بما يستحق أن يشغل بال الشرفاء والمناضلين الحقيقيين، ففي قضية دفن النفايات النووية النمساوية في الصحراء المصرية مثلا كتبت على صفحات الجرائد وجمعت الأوراق وأرسلتها للمحاكم الدولية رافضة المشروع الذي قبلته الحكومة المصرية، مما دفع حكومة النمسا في النهاية لإلغاء الفكرة، وهذا مجرد نموذج لا نراه في حياتنا الآن في أي شخصية مسئولة أو ثقافية بعد أن صار التطبيل لأي شئ حتى الكوارث سمة مناضلي هذه الأيام.
كما خاضت معركة السماح للآثار المصرية بالسفر للعرض بالخارج، كتبت عنها عشرات المقالات ضد وزير الثقافة حتى تعود كنوز مصر، في أحلك أوقات الثقافة التي اشتهرت باسم حظيرة المثقفين التي جمعهم فيها كبيرهم فاروق حسني وكانت تسبح بحمده ليل نهار، طمعا في منصب أو ميزة، لكن نعمات تركت كل ذلك خلف ظهرها وتصدت لحماية آثار بلدها من العبث بنبل وفروسية نادرة.
وربما يفسر كل ما سبق تفسيرا لهذا التجاهل المخجل لوفاتها في الوقت الذي تمتلئ المواقع وصفحات الجرائد بسيرة أي تافه قد يرحل أو فنان أو فنانة لا قيمة لها في تاريخ نضال هذا الشعب ضد الفساد.
وللدكتورة نعمات عدة مؤلفات أدبية، منها "آفاق إسلامية" و"آفاق مصرية" و"الإسلام وإنسان العصر" و"الجمال والحرية الشخصية في أدب العقاد" و"القاهرة في حياتي" و"اللص والكلاب محنة البنوك المصرية" و"النيل في التراث الشعبي" و"صناعة الجهل"، كما أن لها مؤلفات عدة عن إبراهيم عبد القادر المازني، وأم كلثوم والنيل، والشاعر أحمد رامي، وقامت اليونسكو بترجمة كتابها "إلى ابنتي" للغة الإنجليزية.
ومن أهم كتب بنت النيل-وهذا لقبها بالمناسبة- «شخصية مصر» الذي كتبته في أعقاب نكسة يونيو شرحت فيه قوة مصر وحضارتها وقدرتها على عبور الهزيمة، فقد كرست مشوارها في حب مصر بجدية وعلم لتترك بذلك خلفها رصيدا كبيرا من الصدقات الجارية التي ستخلدها حتى لو تجاهلها المسئولون في وزارة الثقافة اليوم أو صفحات المواقع والصحف، وهو مايدفعنا للحسرة على هذه الأيام التي ضاعت فيها قيم الحق والخير والجمال والوفاء.