إرهاب جماعة
الجمعة 14/1/49
أخبار سيئة، وأى سوء! شاعت أمس الشائعات بأن شاباً قد ضبط, وهو يترك حقيبة مواد متفجرة بجوار مكتب النائب العام، وانخفض ترمومتر التفاؤل الذى كان قد ارتفع حتى ظننا أننا بعد رواية من تمرجى المعتقل, سنخرج يوم الثلاثاء المقبل.
واليوم صباحاً قمت على قدوم «جورنال» الأهرام, ومنه عرفنا صحة النبأ، وأن الحقيبة قد انفجرت بالفعل فقتل وجرح، وأن الشاب يظن أنه ينتمى إلى الإخوان، وقد كتبت الأهرام افتتاحية معقولة جداً فى تسفيه هذا المنهج الاجرامى, كما نشر مصطفى مرعى وزير الدولة نداء متزناً إلى الطلبة.
ولقد ثرنا جميعاً على هذا الحادث، لا لأنه سيبقينا مدة طويلة فى هذا المعتقل، لكن لهذه اللوثة التى لا أدرى حقاً هل أصابت الإخوان.. أى انحطاط وتهور.. ولقد كان الإخوان يعيبون على مصر الفتاة (47)تحطيم الحانات، فماذا أصابهم، أنا لا أستبعد أن يكون قد اندس بينهم شيوعيون أو شيء كذلك، ولما خرجت إلى الحوش رأيت أن نحو خمسين عاملاً يصلحون فى مبنى المعتقل، وكان الإصلاح فيه يدور من زمن بمنتهى البطء بواسطة خمسة أو عشرة من العمال, ثم توقف، والآن يدور فيه من جديد بشكل ينطق بالحاجة السريعة الملحة إليه.
أخشى أن تتكون بى عقدة نفسية ضد الدين فى هذا المعتقل، فقد أصبحت أنفر نفوراً عجيباً من هؤلاء الناس، ومن غرورهم ومن ارتكابهم للطيش والحماقات، فإذا جوزوا بفشل أو عقاب اعتبروا أنفسهم مجاهدين ولصقوا المسألة بالله وانتظروا منه الجزاء فى الآخرة، والنصر فى الدنيا، ولقد شعرت أشد الألم وأنا فى صلاة الجمعة أشهد هذا البهتان والزور والتضليل والغفلة، وأكاد أذوب حسرة وأسفاً على هذه النفوس، على هذه العقائد الخاطئة، على هذه النفوس المضللة، على هذا التأخر العجيب.. كل العجب فى العصر الحديث.
وأينما سرت، ترى الإخوان غادين رائحين بمصاحفهم فى أيديهم يقرأون أو فى المصلى يكررون كآلات الأدعية أو يقرأون «ياسين» حتى صرت أعتقد أن لوثة من الجنون أو الهستيريا ستصيب هؤلاء، وأن هذا المران الملح مع قصوره يصبغ العقل بطابعه ويزهّد فيما عداه.. ثم يكرهه.. ثم يعاديه.. ثم يتعصب لمبدئه.. ثم يجن به أخيراً.
السبت 15/1/49
اليوم هو أسوأ الأيام قاطبة التى مرت بنا فى هذا المعتقل، فأمس مساء بعد أن نمنا جميعاً على أسرتنا، وأقفلت الباب بالترباس، وجذبنا البطاطين على وجوهنا، سمعنا صوت الخطوات العسكرية فى الممشى وضرب ضارب على بابنا مساء ففزعت، هل نحن فى بيوتنا، والبوليس يهاجمنا أم ماذا؟!.. ألسنا فى معتقل؟ قمت أنا وفتحت الباب، وحدقت فى الظلام فإذا كونستابل ووراءه عبدالباسط!.. وكان عناق وسؤال، واستيقاظ من الجميع لسماع آخر الأخبار، وقد نمت وإياه فى سرير الأستاذ عبدالرحمن لأنه أكبر من سريري.
وأصبح الصباح، ومررنا قليلاً فى الحوش فلاحظنا أن العمال قد أعدوا تقريباً المعتقل الجديد، وكانوا الآن يصلحون فى الأنوار الكهربائية، وتظهر أنهم سهروا فى العمل أمس مساء وعلمنا يقيناً أن مئة وخمسين معظهم من الإخوان فى طريقهم إلينا.
وقبيل صلاة العصر أتي أول الأفواج، الطريقة المعهودة عربات لورى فى كل منها سبعة أو عشرة أو عشرون من الإخوان محاطين بالعساكر، فتقف العربة عند باب المعتقل، فينزلوا لتقييد اسمائهم ثم يسيرون مع حرسهم إلى باب المعتقل الجديد.
وكان الإخوان يتجمعون وراء اسلاكهم ليهتفوا للزملاء الجدد، ويشيروا بأيديهم، وقد نادى أحدهم صديقاً له هو الشيخ مصطفى العالم (48) وقد دخل المعتقل وبيننا وبينه الأسلاك، فوضع حقيبته فى حركة آلية وهرع ليسلم على صديقه فجرى وراءه العسكري، وحال دون ذلك.
وقد جاء معهم أخى الأستاذ محمد (49) ووقفت أنا وعبدالباسط نناديه بأعلى أصواتنا وهم داخل أبنية المعتقل (المدخل) ولم يكن يسمح لهم بالخروج إلى الحوش لأن بقية الأسلاك لم تكن قد تمت بعد.
فكر بعض الإخوان المتحمسين فى رفع الأسلاك الشائكة التى تفصل بين معتقلنا ومعتقلهم ولاسيما أننا لم نر متاعاً يدخل وظننا أنهم سيقضون ليلتهم على أرض المعتقل، وقام واحد منهم فأعلن هذا العزم وطلب من الإخوان التجمع، وقام الأستاذ عابدين ونصح بالهدوء فواجهه يوسف طلعت بأعلى صوته بأن هذا توجيه خاطئ، وأنه لا يمكن ترك اخواننا بالعراء وصاح صائح: فلنقرأ أولاً سورة ياسين كما اتفقنا، فرد يوسف أيضا رافضاً قائلاً «إيه ياسين دي» وارتفع الهرج والمرج حتى قام الأستاذ صالح عشماوي، وكان متوعكاً فسكت الجميع، ولكن الأستاذ صالح حمل على الشيخ الغزالى (50) الذى كان متزعماً هذه الحركة، فلما حاول هذا أن يعترض أمر بضربه فضربه بعض الإخوان فانتابته نوبة عصبية وأخذ يردد أصواتاً مختلفة بصوت عال كالمجنون، وتلت ذلك فوضى لايمكن وصفها، وتعددت الاصوات وهرع رجال الإدارة (51) إلى عنبرهم ساخطين، واستمرت هذه الفوضى حتى قيل إن الصلاة جامعة، فاجتمع الإخوان بالمصلي.. واتفق على تعيين لجنة من الأساتذة عبدالحكيم عابدين ومصطفى مؤمن ودكتور خميس (52).
وقد طٌلب عبدالباسط فذهب إلى القومندان، ومن هناك إلى المعتقل الجديد حيث جاء بالأستاذ محمد، فنمنا ثلاثتنا على سريرى وسرير عبد الباسط.
واجتاحتنا نوبة من التشاؤم، وكنت أنا أخفهم تشاؤماَ، كما كنت من قبل أخفهم تفاؤلاً.
الاثنين 17/1/49
عندما كان الإخوان يقرأون «ياسين» قابلنى -صدفة- أحد الإخوان الظرفاء (ومن أجل ذلك فهو متهم فى دينه) وقال لي: هل رأيت ماذا فعلت «ياسين» الماضية؟ لقد أحضرت الإخوان الجدد، فلعلها هذه المرة تأتى بإخوان آخرين.. ولقد رددت أنا عليه بأن الأستاذ المرشد يعمل فى الخارج كل دقيقة ولا يدع طريقة للعمل أو للوساطة حتى يطرقها، فإذا تحسن الجو كبروا وهللوا، وحسبوا أن الله قد صنع لهم، وصنع لهم..
الجو أمس واليوم رديء، الرياح العاصفة لا تنقطع، وقد لزم معظمنا عنابره، ولا نجد فى الحوش إلا القليل متدثرين بعباءات من البطاطين شاعت وانتشرت إثر اختراع أحد الإخوان لطريقة هينة لصنعها دون قطع أو تغيير لمعالم البطانية.. وقد أصبت بزكام من جراء خروجى من المطبخ الساخن إلى التيار البارد.
اتضح لنا، أعنى الأستاذ عبدالرحمن وأنا، أن السيد عبدالباسط لا يعلم قليلاً أو كثيراً من آداب المعتقل، وأنه لا يستطيع أن يأخذ نفسه بها إلا بكثير من العناء، فهو يدخن السيجارة بطريقة مبتذلة يحدث بها شهيقاً مسموعاً كما لو كانت شيشة، وهو لا يستطيع الصبر علي الشاى وشايه لابد أن يكون كثير الحلاوة، ومن أين لنا بالشاى والسكر، وقد صمم اليوم على أن يأكل طبقاً من البيض مع السمن، فحاولت أن أفهمه أننا فى معتقل ولسنا فى لوكاندة ولاسيما أن أربعتنا مفلس وأصر على رأيه وبذل جهداً كبيراً فى إيقاد النار.. وإيجاد السمن.. إلخ.
وأما أمس فقد سهر فى عنبر اشتهر بشكاست أصحابه، وأخذوا يتبارون فى التنكيت ويلعبون ما يسميها هو «لعبة العرب» وهى عبارة عن أن يأخذ أحدهم حرفاً فيأتى باسم له، ولأبيه، ولأمه، ولعمل، ولمثل، ولحكمة، ولبيت من الشعر، وآية.. إلخ. كلها تبدأ بهذا الحرف، وهى لعبة تثير الخاطر، وتتطلب بديهة حاضرة ولكنها قد تضطر المتبارى إلى الخروج عن مبادئ الأدب التقليدى عند الإخوان.
وقد ارتفعت ضحكاتهم حتى وصلت إلينا، فأمرنى الأستاذ عبدالرحمن بإحضاره، فوجدته متصدراً المجلس، وأمامه نار عظيمة فيما يشبه صينية، وحوله الإخوان، ولاشك أن هذا منظر يعجب صاحبنا، ويثير الكثير من ذكرياته.
البرنامج الثقافى مضطرب منذ الأربعاء الماضي، الأستاذ عابدين مصر على إنهاء الفصل البايخ (53) بتسوية إدارية تحفظ شرف الإدارة، ورجال الإدارة لا يشاركونه هذا التفكير، إما كسلاً (وهذا غير مستغرب من مرضيّ ونوّام)، وإما رغبة فى خلاف عابدين، وإما رغبة فى إنهاء المشكلة بالخضوع الكامل للعصاة وتجاهل الموضوع، وقد انتدبت الإدارة فريد عبدالخالق، وهو مغرض خبيث فكان كالفرجال بين عقدة، وأساء إليهم، وأثبت أنه عديم الإدارة وتجاهل مهمته فنشأت من ذلك مشاكل صغيرة.. كانت تدرس بأحاديث طويلة لا يخرج منها بنتيجة ما..
وقد وقعت اليوم الواقعة الكبري، فقد نشأت منذ يوم أو اثنين فكرة إقامة رواية تمثيلية وحفلة سمر وشاعت الشائعات عن ذلك بصفة غامضة، وقوبلت من الجميع بعدم الاكتراث المعهود، وقد علقت ورقة صغيرة فيها إعلان عن البرنامج، لا أدرى متى أمس أو اليوم، ولكنى على كل حال لم أشاهده، فلما صٌليت العشاء.. وآوينا إلى سررنا قيل لنا إن الحفلة ستبدأ ودعينا للحضور فاعتذرت أنا والأستاذ عبدالرحمن، ولم يذهب الأستاذ حسين كمال (54) ولا صالح عشماوى لمرض الأول، وغرام الثانى بالنوم، كما لم يذهب لبيب بك الذى قد نام فعلاً، وذهب الأستاذ طاهر وحلمى نور الدين، وما لبث الأول أن عاد يجرجر خفيه حانقاً على التمثيل المبتذل، وخائفاً من أن يمس كبار الإخوان لأنه قد أعلن عن تمثيل كبار الإخوان، وبعد قليل حضر الأستاذ عابدين فعجب كل العجب من ذهاب طاهر وحلمى نور الدين بينما الاتفاق انعقد أمس على عدم حضور شيء من البرنامج الثقافى حتى يسوي، ثم قدم قادم يصف ماذا كان فى هذه الحفلة «جولة فى العطوف» وهو اسكتش هزلي، تم تمثيل كبار الإخوان وقد تناول حلمى نور الدين وحسين كمال الدين وطاهر الخشاب وغيرهم، ثم رواية «أبومسلم الخرساني» وقد تداولنا أو بمعنى أصح تداولوا وقرروا أن الرواية مثيرة للشبهات، وأن اسمها وحده كفيل بإثارة الريبة والشك فضلاً عن وقاحة تمثيل كبار الشخصيات، وانتدبوا لتبليغ ذلك إلى المجتمعين الدكتور خميس، فذهب ووجد جمال السنهورى وماهر خميس على المسرح فأمرهما بالنزول فامتثلا ونزلا.
وطلبت الإدارة جمال السنهورى فجاء ومعه جمال الشافعى (55) وكانا قد اشتركا فى هذا البرنامج وبدلاً من أن تسأله الإدارة سألها هو، وسمع حتى تكلم الأستاذ طاهر ولبيب بك ثم أخذ يتكلم واستطرد فطلب منه الأستاذ طاهر التحدث عن الموضوع فحسب، فثار وأخذته نوبة حماسية عاطفية, أخذ يصرخ فيها «اللهم أمّن لهذه الدعوة قائدها» ويكررها مرات عديدة، فثار الأستاذ طاهر والأستاذ عابدين، وبالجملة فإن الحديث معه قد صور لنا -بشكل رمزي- صعوبة حل المشكلة السودانية.
وكان قد سبقه مصطفى مؤمن محتداً سائلاً فى لهجة كالآمر عن الذى أمر بهذا الإجراء وقد انتهى الأمر بالاحتداد أيضاً، واشتركت معهم عندما كان يدافع عن ديمقراطية الدعوة فالإخوان فاشيون، وتساءل هل هم فاشيون، فأجبت أنهم فاشيون قطعاً وأن الطرائق الديمقراطية تفسدهم فعلاً كما لا ينفعون فيها هم أنفسهم.
وهدأ الجو، وقمت أتجول فى الابهاء، ماعدا عنبر الواقعة طبعاً الذى قاطعته منذ حادث الأربعاء فالتقيت جمال السنهوري، وأخذت أُلاطفه وأهدئه بينما أخذ يشكو إليّ آلامه وانتقاداته وكان فيها الكثير من الملاحظات المهمة التى يجب الالتفات إليها.
ذكر السيد جمال «السنهوري»، كما ذكر غيره، أن النظم الإدارية عقيمة، وأن العزيمة مسيئة، وأن الأستاذ المرشد لم يكن لينام إلا بعد أن يطمئن هو إلى منامهم وأنه كان يواسيهم بنفسه، ويستمع إليهم، ويبتسم فى وجوههم.
هذه مسألة مهمة فالبناء العاطفى فى الدعوات يسبق البناء الإداري، ولو لم نستفد من إقامتنا فى المعتقل سوى تركيز هذه الحقيقة، والحقيقة الأخرى التى أشرت إليها من قبل، وهى العمل، وعدم التريس لما كنا خاسرين.