مخدرات.. إخوانية!
السبت 22/1/94
نمنا أمس على أمل أن نقرأ فى الصباح الباكر «أخبار اليوم» فنتزود بجملة صالحة من آخر الأخبار، وقد جاءت «أخبار اليوم» فعلاً، ويا سوء ما حملت من الأخبار، كان منها أن الوزارة لا تزال تتملق الوفديين وتأمل اشتراكهم، وفى ذلك ما فيه من القضاء على سياسة التقريب بين الحكومة والإخوان، وكان منها صدور قانون يقضى بمعاقبة من يحرز مفرقعات بالإعدام، ومنها ضبط عربة جيب بها مفرقعات، وفيها طلب النيابة الحكم بالإعدام على شفيق أنس (66) المتهم بنسف النيابة، ومنها أن انذارات ابلغت إلى عمارة سيف الدين بأنها ستنسف فأخليت حالاً، وكذلك أبلغت مثل هذه الانذارات إلى كلية الطب، وإحدى مدارس البنات فعطلت الدراسة فوراً، وقد نزلت هذه الأخبار كالقارعة علينا ولاسيما وقد أحضر اثنان من الإخوان، وانخفضت نوبة التفاؤل إلى ما تحت الصفر، ووطن كل واحد منا نفسه على البقاء حتى مايو.
بعد الظهر بقليل حضر أحد الكونستبلات ومعه ورقة قيد بها اسمى «أحمد مجدى البنا.. ومحمود هدايت» ولم نجد الاسم الأول وأما الثانى فهو «سُني» مشاغب ليس من الإخوان، واعتقدنا جميعاً أن صحة الاسم الأول هى «أحمد جمال البنا» وظننت أنه الافراج لأننا -الاثنان- لسنا من الإخوان، وكنا قد كتبنا إلى الجهات المختصة بذلك طالبين الافراج وأخذ الإخوان يهنئوننى وكنت فى تأثر نفسي، وإن لم أكن قد تأكدت بعد من أنه الافراج، وعندما كان يسألنى الإخوان «أهو الافراج» كنت أنفى ذلك، فلما ذهبنا اتضح أن الاسم صحيح وأنه لطالب فى الحقوق متهم فى مظاهرات يوم 4 نوفمبر «الذى قتل فيه سليم زكى باشا» (76).
وعدت بخفى حنين، ولم أستفد شيئاً إلا منظراً عابراً لفتاتين يهوديتين فى المقعد الأمامى لعربة ملاكى وضعت إحداهما يدها على عجلة القيادة، وأخذت تومئ بالقبلات بيدها الأخرى إلى معتقل يهودى واقف وراء الأسلاك يشير إليها!.
وعلى ذكر اليهود، فقد يكون من الجدير بالتسجيل أن أقول: إن انجلترا وفرنسا تعتزمان الاعتراف بدولة إسرائيل، وما معنى ذلك؟ معناه ولادة دولة جديدة، هى قذى فى عيون العرب، ورغم أنوفهم وهى دليل لا يدحض على انتصار العلم والذكاء فوق كل شيء آخر، أما النقود فليست إلا ثمرة العلم، إن الدولة اليهودية الناشئة قد قامت من ألفها إلى يائها، منذ اختراع وايزمان حتى اعتراف انجلترا وفرنسا بالعلم واستخدامه واستغلاله وعلى الذكاء والدهاء.
فهل فى هذا عظة لأمثال الإخوان الذين يعتقدون أن الله سينزل الملائكة لنصرتهم، وأن المعجزات ستحقق لهم آمالهم، إننى فى هذا المعتقل.. أكاد «أطق» أو «أتنقط» مما أري، فإن غباء الإخوان قد أحال الآيات القرآنية من مثل هذه التى أسمعها الآن من إمام صلاة المغرب بصوت جميل إلى سموم، ومخدرات تعزلهم عن العالم الخارجي، وتمدهم بغذاء مزيف، واستشهادات فى غير محلها ووقتها.
منذ دقيقة واحدة جاء الأستاذ عابدين، فابتدره الأستاذ عبدالرحمن بأن من الضرورى تنظيم خطة للاتصال فأجاب بأنه حاول من ناحية كيت وكيت ولكن لله حكمة فى أن يدعنا ننقلى على مثل الجمر فى الانتظار، فأجاب الاستاذ عبدالرحمن: سلمناَ لله!.
وانتهت المناقشة بذلك، وهذا مثل واحد يتكرر فى كل شيء وفى كل وقت، وينم عن الفهم الدينى ومقدار تغلغله فى النفوس.
الأحد 32/1/94
أتت اليوم أخبار حسنة مع خطاب خاص لعبد الباسط عن اتصالات مباشرة بين الاستاذ المرشد ورئيس الوزراء، فارتفعت نوبة التفاؤل بعد انتكاس أمس، وانتشرت فى المعتقل انتشار النار فى الهشيم وروت نفوساً متعطشة (رغم إيمانها) إلى الحرية، وهى شهادة باطنة، بألا شيء يعدل الحرية، فلا الإيمان، ولا الاستقرار، ولكن من المؤسف حقاً لا أحد يعرف للحرية منزلتها العظيمة فى الأوقات العادية، فهى كالصحة تاج لا يحسه إلا المرضي.
فى طوافى المسائى اليوم حول المعتقل، والليل داج والجو بارد وسيجارة متوهجة بين شفتى أخذت أفكر فى الإخوان والشيوعية، وجماعتنا (86) ورأيت أنه بصرف النظر عن المستقبل البعيد عن نداء العصر، عن الموجة الجارفة كالسيل أو الفيضان العظيم، فإنه فيما يختص بنا وبحاضرنا، يجب أن نعلم أن النهضة الدينية لهذه البلاد على الطريقة الإخوانية ستكون أقل كثيراً مما يحسب الإخوان، لأن وجود ممثلى الدين فى الحكم سينتقص من القدر الروحى والمعنوى للدين بقدر ما سيزيد فى وجوده المادى والقانوني، وبعد أن كان وازع الضمير هو سلاح الإخوان ووسيلة الإيمان، سيكون القانون وسينتقل الإيمان، بصفة اتوماتيكية إلى معارضيهم، وكل شيء يٌنبيء أن الحرية ستكون -على أحسن تقدير- أقل جداً مما يدور بالخواطر، فضلاً عن أننا قد استبعدنا النفوذ الأجنبى وأثره، والأصابع الخفية التى للأسف الشديد لا يمكن قطعها بالحدود الدينية ولا بغيرها، والتى تٌسّير إلى حد كبير السياسة المصرية، وستظل تُسّير هنا ما دام الاستعمار، وهو دائم دائماً ما وجدت القوة والضعف، وليست المسألة مسألة رأسمالية وشيوعية، ولكنها أعم وأعظم، مسألة قوة وضعف.
وهذا الاحتمال القوى لفشل فكرة هو منتهى آمال الكثيرين، هو أحد العوامل الكثيرة التى تعزز نظريتي، والتى تجعل لها -حقا- جانباً كريماً، أرفع من معنى المنافسة على الدعوات أو الكراهية الشخصية لهذا الضرب من الحياة، وفهم الأشياء.
الخميس 72/1/94
لم يحدث منذ الأحد الماضى حتى اليوم ما يستأهل التقييد فقد كان الجو فى معظمها سيئاً، وكانت الرياح عاصفة، وقد أمطرت أمس مطراً كثيراً عند الفجر، وانخفض مقياس التفاؤل عندما لم يرد فى جرائد الثلاثاء والأربعاء ما يبشر با فراج أو ينبئ عن القضية.
استيقظت أمس عند الفجر على صوت مشادة حامية بين الأستاذ طاهر والاستاذ عابدين وقد كان كل واحد منهما رغم الصداقة الخاصة التى تربطهما، يميل إلى معاكسة الآخر، وإن كان الاستاذ طاهر يبدأ دائماً، وهو أمر كان يبدأ على المزاح وينتهى بتأثر خفيف لا يلبث أن يتراكم ويوجد جواً سيئاً، على كل حال مشادة اليوم بدأت جدية وانتهت بغضب وخروج الاستاذ عابدين من الحجرة ونومه فى مكان آخر.
مع أن الأستاذ عابدين يتمتع بما لا يتمتع به الجميع من ذلاقة وادراك وطاعة، ومرونة، ودماثة، إلا أن فيه نقائض صغيرة، كان يستطيع هو لها، وعقد عزمه عليها، والواقع أن الأيام ترينى أكثر فأكثر مصداق بيت المتنبنى (ولم أر فى عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام)، فإن هذا النقص فيما يخيل إليّ هو نقص الكبر!.
ماذا على الاستاذ عابدين لو اتزن فى علاقاته الشخصية، وماذا لو عامل الناس معاملة رسمية إلى حد ما بحكم مركزه ولو قصر قليلاً فى خطاباته.
أن عيوبه كلها عيوب صغيرة ناتجة عن اسراف كان يمكن كبحها، ولكن قدرة الكبح كلها عنده وعند غيره من المتدينين، تنصرف دائماً إلى نواح دينية خالصة وليست إلى نواح نفسية أو شخصية.
تظاهر اليوم عشرون أخا أو أكثر من العنبر الجديد لعدم إرسال سررلهم، ولإصابتهم ببرد من جراء نومهم على الأرض.
وقد حضر المتظاهرون حتى بابنا حيث لحقهم عبدالغنى أفندى عابدين (96) فاستطاع أن يرجعهم بعد أن ثار نقاش طويل عريض.
ووراء الباب المغلق كان أعضاء مكتب الإرشاد الموقرون ينامون مستيقظين على أسرتهم يستمعون صامتين إلى المناقشة، وإلى جهاد عبدالغنى فى سبيل اعادتهم، ولم يتحرك واحد منهم ليسأل ما الخبر أو ليفصل فى الموضوع.
انطلقت الشائعات بعد صلاة العشاء بأننا سننقل إلى معتقل جبل الطور، وقد دعا الموجودون من أعضاء مكتب الارشاد إلى عقد جلسة مستعجلة، وقد ذهب عبدالباسط ليعرف نبأ ما يجتمعون بصدده وعاد قائلاً: «إن المعلومات التى لديهم تؤكد نقلنا إلى معتقل الطور فى الثالثة صباحاً، ولكن شعورى الداخلى -الذى قليلاً ما يكذب- ينبئ بأن هذا لن يتم أو حالياً على الأقل، رغم أن الصحف، وإن لم تصرح باسم الإخوان، إلا أنها لا تخلو من اشارة لا يُعسر على اللبيب أن يفهم أن المقصود بها هم الإخوان، وقد صدر قانون يقضى على حامل الأسلحة بالإعدام يستوى فى ذلك المفرقعات والسكاكين!، ولعمرى أن الاستعمار البريطانى ما كان ليجرؤ على أن يصدر مثل هذا القانون.