رئيس التحرير
عصام كامل

فضفضة غريق في مركب رشيد «سيناريو تخيلي»

فيتو


ما هذا الضجيج، وهذا الصراخ الذي يزعجني في قيلولتي الأبدية؟ لم أستطع أن أحدد مصدره، وما هذا الجمع الكبير من البشر، ولماذا يتشح هؤلاء السيدات الثكالى بالسواد؟، ربما فقدن عزيزا عليهن، يجب أن أدقق بنظرى علي أعرف ما دهاهن، يا إلهي أكاد أرى ملامح سيدة أعرفها، إنها أمي تتلعثم بكلمات لا أفهمها، لماذا تبكي بهذه الحرارة وهذا الوجع أنا لم أرها في هذه الحالة المذرية من قبل، ومن هذا الرجل أيضا الذي ينزوي جالسًا قرفصاء ويضع رأسه بين كفيه وكأن تلالا من الحزن فوق رأسه، إنه أبي ينادي على «أنت فين يا طه؟.. سبتنا ومشيت ليه؟.. يا ضهري اللى اتقطم من بعدك يا ابني».


عجيب هو أمر تلك العائلة منذ متى وهم يحبونني كل هذا الحب؟ منذ متى وهم يفتقدونني؟ أليسوا هؤلاء من قدمونني قربانا لأجل المال، تركوا جسدي الصغير لقمة سائغة تلتهمها الأمواج، وتعبث بها الأقدار عاملتموني وكأني بضاعةً رائجة وحان الوقت لبيعها «مش عايز أسافر يابا.. محمد ابن عمتي مات غرقان من شهرين.. وتسيب أخواتك يموتوا من الجوع»؟



كم تمنيت يا أمي أن أرتمي بين ذراعيك بعد يوم طويل من العمل في ورشة الحدادة، تورمت يداي وأهدرت طفولتي، وهزل جسدي، لكنني لم أر منك يومًا سوى وجه عبوس، وتعبيرات منفرة كلما حاولت احتضانك لمتني على فعلتي وكأن حضنك من المحرمات «عيب يا طه أنت راجل سيبت إيه للعيال».

وأنت يا أبي يا من وأدت طفولتي أنجبتني لأدفع فاتورة تقاعسك تمسكت بلقب «عاطل» تمسكا فاق تشبثك بروحي، ساومت على وجودي في اليوم عشرات المرات، لن أنسى قسوتك حينما أفصحت لك يومًا عن حلمي في أن ألتحق بمدرسة القرية، لن أنسى تلك النبرة وهذه القبضة التي كادت أن تقتلع ذراعي عن جسدي «حسك عينك أسمعك تقول الكلام دا تاني.. هنجيبلك منين؟!.. هما اللى اتعلموا عملوا إيه؟.. اتعلملك صنعة تنفعك».

لم أجد في هذا البيت الكئيب ككآبة وجوهكم وبؤسها من يحنو على سوى جدتي التي بلغت من العمر أرذله، نخر المرض في عظمها وانحنت فقرات ظهرها تكاد ترى عينيها الغائرتين من بين تجاعيد وجهها الكثيفة، التي انتفضت ذات ليلة غاب فيها قمرها من مضجعها دفاعًا عني بصوت مهزوز من أثر الشيخوخة «ماترميش بولدك في التهلكة يا ضنايا.. كفانا ولد بنتي محمد»، إلا أن والدي لوح لها بيده وهمهم ناظرًا في اتجاه معاكس لوجهها متجاهلًا عباراتها وعاد يكركر أرجيلته مجددًا، قررت بعدها العودة إلى وسادتها تجرجر أذيال قلة الحيلة وخيبة الأمل، فهي لا تملك من الأمر شيئا.


لم أعرف السبب وراء عبارات جدتي لأبي، إلا عشية اليوم الثاني ، كنت عائدًا كعادتي من عملي بالورشة التي لا تبعد مئات المترات عن منزلنا، من بعيد صوان متواضع وبعض الأفرع من الأنوار الباهتة على مقربة من منزلنا، لمن هذا الصوان وهذه الأنوار، من قرر فجأة أن يبدأ طريق العذاب ويؤسس بيتًا، فرح بلا عرسان بلا روح شاحب ورتيب كوجوه أهل قريتنا، ولماذا يهنئني جيراني؟، "مبروك يا طه تروح وترجع بالسلامة.. أوعى تنسانا لما تسافر"، أسرعت تجاه أبي الذي عقد سرواله وهيأه لتلقي النقوط، "هسافر على فين يابا.. هتسافر إيطاليا تعمل قرشين تضمن بيهم مستقبلك ومستقبل أخواتك الغلابة.. نشترى حتة أرض توكلنا".




ظل أبي يستقبل النقوط من الجيران والأقارب لمنتصف الليل، حتى يتسنى له تجميع مبلغ سفري إلى بلاد الغرب، ومع بزوغ الشمس قادني والدي كما يقود الجزار ذبيحته للنحر، وفى اتجاه وكر سمسار لبيع البشر "عمرك كام؟.. اسأل أبويا.. عنده 15 سنة.. معاك بطاقة..لأ.. جهزتوا الفلوس.. 20 ألف بالتمام والكمال..والباقي هبصم على كمبيالات.. جهز نفسك يوم الجمعة بعد الصلاة.. العربية هتتحرك من الناحية القبلية".

أتذكر هذه اللحظات جيدًا حينما التقفني السمسار من يد والدي واستقللت وعشرات ممن في عمري ومن يكبرنا قليلا سيارة نقل التصقت فيها أجسادنا كما يلصق روث الحيوانات، وصلنا إلى المركب، زُج بي إلى ثلاجة البضائع في الطابق السفلي، مت بداخلها في الساعة آلاف المرات، أتذكر جيدا أصوات هرولة المسافرين على السطح ذعرهم عند إحساسهم بالغرق، تمنيت لو كنت في موضعهم فأنا هنا في مقبرة لا أمتلك حتى رفاهية السباحة.

 الجميع خائف، أصوات مرتعشة تردد الشهادة، وأخرى يقرأ بعض من آيات الكتاب المقدس، ما هذه السكينة التي تسللت إلى قلبي الصغير فجأة، أشعر وكأن حياتي ستبدأ إلى توها، سأسافر وأقراني إلى عالم لا يعرف الفقر والجوع والعوز، سأرحل إلى حياة أمارس فيها طفولتى بعيدًا عن تذمر والدي واستسلام أمي.

أنينكم يزعجني، يقلقني، اتركونى وحياتي الجديدة ، ابتعدوا عن هذا المشهد الرباني ولا تشوهوه بثرثرتكم ونواحكم، اطمئنوا، الآن روحي مطمئنة هادئة، أفعل ما يحلو لي، أعرف أنها فترة ستتخطونها وسأصبح أنا نسيًا منسيا غريقا في فوهة الوقت.


الجريدة الرسمية