رئيس التحرير
عصام كامل

سرطان «العامية» الجديد في الصحافة


يبدو أن شعار صحافة هذه الأيام "لماذا تكتب للقارئ باللغة العربية الفصحى طالما أن بإمكانك أن تكتب له بـ"العامية"، فكلمة "لا أعلم" أصبحت "مش عارف" و"يجب" أصبحت "لازم" و"التي" أصبحت "اللى" و"شعرت" أصبحت "حسيت"، ولكن أصبحت "بس"، حتى صارت اللغة المكتوبة هي نفسها المنطوقة من لسان المصدر بدون تعريب أو تصحيح أو صياغة أو بلاغة أو أي شىء إلى القارئ مباشرة"، وهو ما يعنى هدما لركن أساسى في مهنتنا، بل هدم للعمود الفقرى لها وهو اللغة العربية.


ولم تعد مأساة مهنتنا مقصرة على سحق اللغة العربية بالأقدام، بل في الأخطاء الكارثية في العناوين والمتن، بحيث أصبحنا نرى المجرور مرفوعا والمرفوع منصوبا.

في كل يوم أقرأ أخطاء مهنية كارثية مخزية، يمكن لو تم جمعها أن توثق لجريمة صحفية كبرى، وفى الماضى كان الجهل بمرادف لفظ بالعامية يجعلنا نخجل من أنفسنا ونخاف من أن نتعرض لـ"التجريسة"، الآن لم يعد مهما لكى تعمل في الصحافة أن تجيد حتى اللغة العربية، ولا الصياغة، ولا قواعد النحو أو الصرف أو البلاغة، أو أن تكون مثقفا، بل يستطيع أي "أوفيس بوى" قادر على فك الخط أن يعمل فيها.. أى والله العظيم.. لأن مهنتنا لا تلفظ أحدا، وكل من يقرر أن يدخل – حتى لو كان مفتقدا لأى مهارة أو موهبة أو إمكانيات أو قدرات خاصة – يعمل ويتوغل ويستمر حتى أصبحت وعاءً واسعًا وبوتقة عميقة للغث والسمين.

هذه الظاهرة يتحمل مسئوليتها رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير، وهى نتاج لجيل لا وقت لديه لكى يقرأ ما يُنشر له؛ ليتعلم ويعرف الفارق بين ما كتبه وما تم تصحيحه، ويتدارك ما وقع فيه من أخطاء، جيل يجهل الفارق بين الهاء والتاء المربوطة، ولا يعرف الفارق بين الزاي والذال، ولا بين الـسين والثاء، وصارت الصاد تكتب سينا، والتاء طاءً، و"من ثم" تكتب "من سمى" و"تعسف" أصبحت تكتب "عزف"، "جرس" أصبحت "جرز" و"النقض" صارت مرادفا لـ"النقد".

لقد أتيح لكثير من شباب الجيل الجديد إمكانيات لم تتح لأجيالنا، مثلا عندما كنا نرغب في إجراء حوار صحفى، كنا نذهب إلى أرشيف المؤسسات الحكومية، وندفع رسوما"خمسة جنيهات"، ونمضى أكثر من ثلاث ساعات في تصفح ملفات كثيرة، وقراءة كل صغيرة وكبيرة عن الضيف، قبل أن نحاوره، الآن لا يتكبد الصحفى أي مشقة، ولا يبذل أي مجهود من أجل الحصول على معلومات، إذ بإمكانه وهو جالس على سريره أن يستدعى من موبايله كمًا هائلا من المعلومات عن أي شخص، وأى قضية، يريد معلومات عنها.

صحافة المواقع جعلت كل شىء في مهنتنا "تيك أواى" أو "ديليفرى"، لا عمق ولا فهم، يتلقى المحرر المسئول عن تغطية أنشطة أي جهة أو وزارة الخبر أو التحقيق أو التقرير جاهزا مصاغا عبر وسائل الاتصال الحديثة، التي لم نكن نعرفها قبل سنوات، فيعيد إرساله إلى صحيفته دون أن يكلف نفسه عناء إضافة لمسة عليه، تماما كـ "البوسطجي"، والنتيجة أنك تجد نفس الخبر منشورا بنفس عدد الكلمات ونفس المقدمة ونفس ترتيب الفقرات في كل المواقع، بل استشرت ظاهرة "النقل" بحيث إذا انفرد موقع بخبر – وهذا نادرًا مايحدث الآن - أصبحت ترى كل المواقع تنشره مسروقا دون الإشارة إلى حق السبق.

والسؤال: أين النقابة من هذه التجاوزات اللغوية المهنية التي لاتقل في بشاعتها عن جرائم الفصل التعسفى، ولماذا لاتتدخل لإيقاف هذا السرطان الذي يستشرى وينتشر ليس فقط في المواقع الإخبارية بل في الصحافة الورقية، أين هي من تداعيات هذه الظاهرة الخطيرة التي قد تهدد قريبا بإلغاء قسم في الصحافة كان اسمه "التصحيح" وتسريح جميع العاملين فيه.

لو كان للغة العربية أب لأطلق الرصاص على كثير من العاملين والمحسوبين على مهنتنا هذه الأيام.
الجريدة الرسمية