رئيس التحرير
عصام كامل

رسالة بنت العاشرة إلى وزير التعليم


بعد أن أوصدت النوافذ والأبواب.. وخلعت عن عيني سحابات السنين.. وخيبات الزمن.. وآلام الحاضر.. قررت أن أنفض عن ذاكرتي أتربة كومتها سنوات طويلة مضت.. لأرى فتاة صغيرة تغدو وتجئ في خيلاء وتأنق.. مشهرة ضفائرها المجدولة كما سنبلة القمح الذهبية.. تبحث بعينيها البندقيتين عن فراشات تشبهها.. ليسرن سويا فرحات، إلى حيث تبنى عقولهن الصغيرة.. تحملن في حقائبهن الأمل والحب.. الكرامة والحلم.. إلى جانب الورقة والقلم..


تذكرت كيف كانت الأيام تسير إلى جوارها.. تحتضن بيديها الحانية الساعات والدقائق والثواني المتراصة في ترتيب شديد يعطي كل شيء حقه.. الأهل والأقارب.. الأصدقاء والأصحاب.. الضحك.. اللعب.. الاستذكار والتفوق.. صلة الرحم.. ولقاءات الأسرة على مائدة الود في المساء.. واعترافات الأولاد والبنات.. وحكايات الجدة العجوز.. ذات الظهر الذي أحناه الزمن وأضناه،على فراش الأحلام الهادئة..

تذكرت كل ذلك وأنا أرمق بعيني فتاتي الصغيرة التي لم تتجاوز العاشرة وهي تستعد لاستقبال عاما جديدا.. من أعوام ستتذكرها مثلي.. وهي تجدل ضفائر ابنتها الناعمة.. عيني ابنتي شاحبتين.. ونظراتها شاردة.. ولا تضوي على ثغرها الرقيق أصداء ابتسامة.. أو فرحة.. كنت أنتظر أن أسمع كلمات رقيقة مثل صاحباتي وحشوني.. أو أي فصل سوف أسكن هذا العام؟ لم تطلب فتاتي توكا بيضاء.. ولا حذاء جديدا.. ولا حقيبة تحمل صورة السندريلا.. أو اريال التي تهيم حبا في حكايتها..

صغيرتي أين ضوء الفرحة في أول يوم ؟ سألتها وأنا أعلم أن الفرحة والسعادة تركتها السنون إلى جانب الأيام والساعات المتراصة في زمن غفا غفوة تكاد تطال الموت.. قالت الصغيرة اليوم طويل.. وممل.. المدرسات كئيبات.. والكتب ليس بها ما يشد فتاة في مثل عقلي وأحلامي..تسألني..كيف لي أن أحفظ كل هذه النصوص؟ كيف أستطيع أن أستوعب هذه الدروس المعقدة ؟..

موضوعات بلا هدف.. ولا تعطي قيمة أو معرفة.. أو حتى بهجة..في عصبية شديدة قالت لماذا لا أدرس ما أحب؟ أنا أحب أن أكون طبيبة.. كيف يبني هذا الحشو..عقل طبيبة؟.. أذهلني هذا العقل.. أشفقت على فتاتي الصغيرة غياب ابتسامتها البريئة التي تحمل سحر الطفولة وحريتها.. لأول مرة لم تسعفني بديهتي الحاضرة دائما للرد عليها..

قالت ابنتي ليت أحدا يقول لوزير التعليم الذي لا أعرف لماذا هو وزير؟ هذا الجيل يستحق أن يعامل معاملة أكثر احتراما وتقديرا.. قالت ابنتي كل عام يمر.. لا أعرف لماذا يترك ذكرياته ويذهب.. لماذا لا تتعلق الذكريات بثوبه الكئيب؟ أمي هل تعلمين ما هو الشيء الوحيد الذي يبقى معي كل عام وأسعد لتذكره؟ رأيت الابتسامة تطل من عيني ابنتي وهي تجيب على سؤالها.. الباص وأصحابي في الباص وحكاياتنا سويا..

أما الفصل فتجلس أمامي فتاة طويلة تجعلني واقفة طوال اليوم، والمعلمات الكئيبات يستغلن قرار الوزير الذي لا أعرف اسمه.. كي يستخدمن درجات أعمال السنة التي سوف يتحكمن بها في ابنتك وأصحابها.. قلتِ لي إن هناك خطة لتطوير التعليم.. أين هذا التطوير أنا أحفظ الآن مفهوم البيئة الذي كنت أحفظه العام الماضي؟ قالت ابنتي إن الدرس الأول من الجغرافيا يؤكد أن جو مصر حار جاف صيفا.. دافئ ممطر شتاء..وهذا غير حقيقي.. وأن معلمة العربي لا تعرف اسم ابن سيدنا نوح الذي رفض أن يرافق أباه في سفينة النجاة.. رغم أن أحدا لم يسألها عن اسمه.. وأنها تعاقب يوميا لأنها لم تحضر معها كتبها في حين أن المدرسة تأخرت في تسليمها.. لماذا أعاقب ولا تعاقب المدرسة؟. 

أمي أنا أعاني في مدرستي الخاصة التي تنفقين عليها كثيرا بالتأكيد.. فكيف معاناة زملائي في مدارس الحكومة.. لقد رأيتهم على فيس بوك.. وأرجو أن يراهم هذا الوزير.. رفاقي في مصر في مدارس أمريكية وإنجليزية لا يعاقبون لأنهم لم يحضروا الكتب.. وذلك لسبب بسيط.. أن هذه الكتب الورقية يعتبرونها من زمن عتيق.. هم يستخدمون التاب الذي يحمل كل المواد ونحن انحنت ظهورنا مثل جدتك القديمة.. ويدرسون علوما تؤهلهم لأحلامهم.. وينجحون بتفوق.. متميزون..

هل أخبر أحد هذا الوزير بأمر تلك المدارس؟ كان لابد أن أنهي معها الحوار قبل أن تتهمني بالكذب.. وقبل أن تتذكر أنني أخبرتها في العام الماضي أنها لن تستخدم الكتب المدرسية مرة أخرى لأن الوزارة أعلنت ذلك..وكانت سعيدة الحظ.. فقد وصل الباص في موعده كي ينهي حوارا دعوت الله ألا تعود صغيرتي فتفتحه من جديد..
الجريدة الرسمية