رئيس التحرير
عصام كامل

سوريون ويمنيون على أرض المحروسة: شكرًا.. يا مصر

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

«وبي أمل يأتي ويذهب لكني لن أودعه»... من سنوات الشاعر محمود درويش بين دروب القاهرة وحواريها إلى مئات الآلاف من اليمنيين والسوريين الفارين من أوطانهم إلى مصر، حاملين على كواهلهم ويلات الحرب، قبل أن تتجلى آثار الخراب الذي لحق بمنازلهم أمام أعينهم، يتحدثون عن أمل في العودة، ورغبة في التخلص من لعنة «الغربة» التي لا تفرق بين صغير أو كبير.


في القاهرة والجيزة والمنوفية واجه آلاف الشبان اليمنيين والسوريين قسوة الغربة في بدايتها، فواجهوا آلامها بالصبر والابتسامة، فبادلهم وطنهم الجديد بابتسامة محفوفة بالصعاب، بعضهم «لعب الزهر معه» فبات الدخل قادرًا على تغطية مصاريفه وأسرته، وآخرون لا تزال قسوة ارتفاع الأسعار تكوي جيوبهم، فتخلوا عن حلم التعليم وآثروا الاكتفاء بجنيهات تكفي مصاريف الشهر.


بين صنعاء والقاهرة

«ضياء» شاب يمني خجول، قليل الكلام كثير الابتسامة، أجبرته الحرب على ترك أهله ومهنته وعمره، قادمًا إلى مصر حاملًا عمرًا جديدًا ناسيًا 18 عامًا من عمره، تركها على باب عمله الجديد في مطعم أطعمة خليجية بالدقي في الجيزة، عندما يقبل عليك للوهلة الأولى تجده مثقلا ليس فقط بأعباء الحرب ولكن بأعباء المعيشة اليومية التي ألقت على كاهله مسئولية أسرة بأكملها، فأصابت وجهه وجسده بالكهولة.


منذ عامين، ترك تراب اليمن، وجاء بزوجته إلى مصر لعل الوطن الجديد ينسيه ما حدث، ولكن لاحقته الدموع إلى الوطن الثاني واستوطنت عينيه، فلا مفر من رؤية تلك العين الدامية مرارةً وشوقًا للراحلين، رغم ذلك لم يتمكن اليأس منه كليًا، تجده يضحك ويتحدث بتفاؤل حتى تجاعيد وجهه تبحث عن الغد بطريقة ما، والآن ارتضى بعمله كـ«ديليفري» لكنه يتمنى أن يلتقي بالرئيس السيسي «وصلوا رسالة للسيسي إني بحبه ونفسي أقابله».


«البلد بلدك ولكن في الغربة لا بلدك ولا ولدك»، هكذا بدأ «زكريا» حديثه، بعد أن أخذ قسطًا من الراحة في مهنة غسيل الأطباق، التي التحق بها بعد تركه عمله السابق كبائع آيس كريم في بلده ولديه ولدان وبنت، فتحدث عن الظروف المعيشية الصعبة، قائلًا: «اللي خلى أهل البلد بيعانوا، إحنا مش هنعاني وغسيل الأطباق مش مكفي يصرف على ولدين وبنت»، متمنيًا العودة إلى وطنه.


لم تقتصر وظائف اليمنيين في مصر على العمل بالمطاعم والكافيهات، ولكن هناك من جاءوا بعلمهم وقدراتهم إلى مصر آملين أن تكون هي الحقل الذي سيحققون به مشروعاتهم، منهم عبد الرقيب المجيدي ذلك المهندس الذي أتى إلى مصر بعد الحرب التي أوقفته عن استكمال مشروعه، الذي يقوم على إمداد اليمن بطاقة كهربائية، قائلًا: «المشروع ده مصري- يمني تكلفته متوسطة، لكنه سيحقق نجاحا كبيرا لمصر».


أما «عبدالله» فتجتمع ملامح أزمته في أنه يخشى على مستقبل أبنائه العلمي، فأوراقهم المدرسية امتزجت بدماء التلاميذ وتراب الأحجار، ورغم أنه (أربعيني) حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال، وكان يمتلك شركة في اليمن، إلا أنه في مصر لا يعرف ماذا سيفعل، وهنا يقول والدموع تحاصر عينيه: «أنا في مصر منذ 3 شهور ومعرفش هعمل إيه، كل اللي فكرت فيه إني أهرب من الدمار والحرب، مفيش شهادة تثبت إني متعلم ولا عارف أدخل أولادي المدارس، ورقهم كله ضاع بعد قصف المدرسة»، ورغم كل المعاناة السابقة إلا أن عبدالله قادر على الحفاظ على ابتسامته والسير في القاهرة وضواحيها بحثًا عن وظيفة يستقر بها.


وما بين هذا وذاك، يؤمن كثيرٌ من اليمنيين بأنه من «العيب أن تكون هناك فيزا بين مصر واليمن»، فمعاناة هؤلاء الأشقاء لم تعد تقتصر على ويلات الحرب والدمار والاحتراق بنار الغربة، بل حلت إجراءات مصرية لتهدد إقاماتهم بمصر فمن الصعب لأي يمني الآن الحصول على إقامة بمصر إلا بعد عدة أشهر، فضلا عن شكواهم الدائمة من المبالغ الطائلة التي يدفعها اليمني نظير إقامته، إذ يقول أحدهم: «الأول كنت بقدر أجيب عيلتي كلها دلوقتي بجيب اتنين بالعافية، لأن المصاريف زادت كتير.. أنا عمري ما شوفت مصر كده، وقبل الثورة كان فيه سلاسة في التعامل معانا، لكن بعد الثورة الإجراءات اتشددت جدًا، ورغم كده إحنا بنعتبرها بلدنا التانية قبل الثورة وبعدها».


دمشق وأخواتها على أرض مصر

أمام شلالات الدم المتزايدة يوما بعد الآخر على أرض الشام، لم يعد هناك خيار ثان لملايين السوريين سوى الفرار من آلام الحروب الأهلية والنزاعات الدموية في بلدهم، قادمين إلى دول ما بعد الجوار، وهو وضع قائم شهدته مصر منذ نحو 5 سنوات تقريبًا، فقسوة المعيشة أهم بكثير من القتل.


في مدينة السادس من أكتوبر بالجيزة كثير من الروايات والحكايات والبطولات الناجحة لآلاف السوريين من بينها قصة الشاب العشريني «ثائر حمدي» الذي رفض الالتحاق بالجيش، وقرر القدوم إلى مصر مصطحبًا معه أسرته، حيث يقول: «تركت سوريا، وجئت إلى مصر منذ أربعة أعوام، هربًا من خدمة العلم، لأننى أرفض أن أحمل السلاح ضد أهلي».


لم يكن الأمر باليسير في قدوم «ثائر» وأسرته إلى مصر، خصوصا مع هربه من الخدمة العسكرية، فالعديد من المضايقات في إجراءات الخروج من الأراضي السورية، بجانب محاولته استخراج أوراق جديدة، تثبت عدم طلبه للالتحاق بالجيش حتى يستطيع أن يحصل على تأشيرة السفر مثل أسرته ويتمكنوا من الرحيل إلى الأراضى المصرية.


«واجهنا صعوبات كثيرة للخروج من سوريا، نظرًا لطلبي للخدمة العسكرية، وعدم القدرة على الحصول على تأشيرة السفر، ولكن اضطررت لاستخراج شهادة مرضية، حتى أستطيع الخروج».. بتلك الكلمات واصل ثائر حديثه لـ«فيتو».


ترك الشاب العشريني وطنه سوريا ووصل للأراضى المصرية، تحديدًا إلى مدينة أكتوبر ليضع حدًا لمأساته، ويبدأ رحلة كفاح جديدة لمحاولة التعايش مع الظروف المجتمعية في مصر، ومحاولة للتغلب على الصعوبات المادية التي تواجهه، وحتى يستطيع أن يبدأ هو وأسرته حياة جديدة بعيدًا عن النزاعات وحالة عدم الاستقرار التي تشهدها سوريا.


«ثائر» أضاف: «منذ أن قدمت إلى مصر وأنا أبحث عن عمل لأن الأحوال المعيشية صعبة، وعملت في البداية بمحل بقالة مع أحد أصدقائي، ووقتها كنت أبحث عن محل للجزارة للعمل به، لأنها مهنتى الأساسية».


وفي محل للعطور، جلس «أحمد البيطار - 17 عامًا» موزعًا ابتسامة رضا وطموح على الزبائن ولم يستلسم للحظة لظروف الحياة، وبين لحظات صمت تحدث، قائلا: «جئت إلى مصر منذ 4 أعوام، بعد أن بدأت أعمال العنف في الزيادة، رحلت مع أسرتي إلى هنا، حيث يوجد عدد من أصدقائنا السوريين بـ6 أكتوبر».


«البيطار» لم يستسلم للظروف المأساوية التي عاصرها، فمنذ مجيئه إلى مصر قرر أن يعمل ويتغلب على الصعوبات المالية التي تواجه أسرته، مؤكدًا: « جئنا وليس معنا ما يجعلنا نستطيع أن نتأقلم مع الظروف المعيشية في مصر، فالحياة هنا ليست بالبسيطة، والإقامة هنا تكلفتها عالية، وتحتاج للمزيد من الأموال، لكي نستطيع أن نوازن المصاريف ونعيش حياة كريمة».


«أصريت على استكمال دراستي منذ أن قدمت لمصر في 2011، كنت وقتها في المرحلة الابتدائية، كان الأمر ليس باليسير من حيث الالتحاق بالمدارس المصرية، لصعوبة إجراءات الأوراق، وبسبب عدم توافر العامل المادي، رغم ذلك خرجت للعمل لاستكمل دراستي.. عملت في أكثر من شيء لكي استكمل دراستي، كالعديد من المطاعم ومحال العطور، لاستقر في مجال العطور الآن، طموحي أن أكون مهندسا وسأحققه إن شاء الله» بكلمات واثقة أطلق البيطار تلك الكلمات.


شاميون في «جمهورية 6 أكتوبر»

حكاية مؤثرة جديدة بطلها «علاء الدين رجب» أحد السوريين الوافدين إلى مصر، بعد أن حزم حقائه بدمشق تاركًا كل شيء وراءه، حيث تحدث علاء الدين عن رحلته، قائلا: «أنفقت أموالي كلها في قدومي أنا وأسرتي إلى مصر، ولم يتبق لنا ما يساعدنا للتعايش مع الظروف المعيشية، ذهبنا في البداية إلى مدينة السادات بمحافظة المنوفية، حيث أحد أقاربنا يقيم هناك لنقيم معه وكمحاولة لبدء حياتنا في مصر».


لم يكن لدى علاء الرجل الأربعيني إلا الكفاح والصبر في محاولة التغلب على تللك الظروف الصعبة التي لحقت بهم، نتيجة الأحداث المؤسفة التي تشهدها سوريا، علاء الدين روى فصول قصته، قائلا: «بعد أن ذهبت إلى المنوفية بحثت عن عمل مباشرة، فعملت في أحد المصانع بالمحافظة، ولكن المرتب كان قليلا جدًا، ولا يكفى احتياجاتنا المعيشية، فاضطررت لترك العمل في المصنع، كنت أحصل تقريبًا على 700 جنيه وهذا لا يكفى مطالبي أنا وأسرتي، هذا غير المبالغ المطلوبة للسكن».


وتابع: «بعد أن تركت المصنع، ذهبت للبحث عن صالون للحلاقة للعمل فيه، أنا في الأساس أعمل حلاقا، كنت بحثت سابقًا ولكن لم أجد، بعد أن تركت المصنع بحثت مجددًا للعمل في مهنة، حتى وجدت صالونا بمدينة السادات عملت فيه».


ولا يزال علاء الدين يكافح منذ أن وطأت قدماه مصر في 2012 للعيش بكرامة، وكل ما يريده أن يستكمل أولاده تعليمهم، ولكن ضاقت الظروف أكثر، فلم يستطع التغلب على كل الظروف التي تواجهه فاضطر أولاده للعمل في محاولة منهم لمساعدته ورغبة منهم في استكمال تعليمهم.



وقال علاء الدين: «لن أستطيع وحدي أن أتكفل بكل احتياجات الأسرة، فظروف المعيشة في مصر مكلفة للغاية، ولن أقدر على تحمل كل هذه النفقات، ما دفع أولادي للعمل في المطاعم المختلفة لمساعدتي في المصاريف».


بعد العمل لفترة بالمنوفية، انتقل «علاء الدين» وأسرته بعد ذلك إلى مدينة السادس من أكتوبر بعد توفر عمل له في مهنة الحلاقة مع أحد السوريين، مضيفًا: «تركت مدينة السادات بمحافظة المنوفية للذهاب إلى 6 أكتوبر، وأتيحت لي فرصة للعمل في صالون للحلاقة يمتلكه سوري، ونظرًا لزيادة مرتبي بقدر أكبر بات من السهل الحصول على بعض الاحتياجات ومساعدة أبنائي في تعليمهم.


ولا تزال قصص السوريين على أرض مصر تحمل الكثير والكثير، وهذه المرة مع الشاب الثلاثيني «نعمان شريفة» الفار من ويلات البراميل المتفجرة بحلب إلى مصر، حيث يقول نعمان: «الخروج من سوريا كان صعبا للغاية، استغرق أيامًا حتى أستطيع الوصول إلى مصر، ولم أدخل البلد مباشرة لصعوبة الإجراءات، لكنني اضطررت للذهاب إلى السودان ومنه إلى مصر».


لم يكن أمام نعمان إلا السعي للرحيل من الأراضي السورية بعيدًا عن كل أعمال العنف والتخريب حتى يستطيع أن يستكمل حياته والزواج، قائلا: «أنا شاب في بداية الثلاثين من عمري وحتى الآن لم أتزوج، كل ما أريده أن استكمل حياتي وأعيش بشكل طبيعي، بعيدًا عن أعمال العنف التي تشهدها سوريا وما تسبب من دمار منازلنا».، لذا قررت أن ارحل.


منذ نحو شهرين، وقت أن جاء إلى مصر يعمل نعمان في مهنته ككبابجي بأحد محال الكباب والكفتة في 6 أكتوبر، لمحاولة تسديد ثمن تكلفة رحلته لمصر، والتي استدان أموالها من أصدقائه، وكمحاولة منه لبدء خطواته الأولية في مستقبله بمصر.


نعمان قال: «أعمل كبابجي في هذا المحل منذ نحو شهرين، بعد أن جئت إلى مصر، فهى مهنتي الأساسية التي كنت أعمل بها في سوريا، لكن ظروف الحياة الصعبة اضطرتني للعمل أكثر من 12 ساعة في اليوم، وذلك حتى أستطيع أن أسدد ديوني، وللتغلب على الظروف المعيشية الصعبة في مصر».


ومن نعمان إلى «عمار محمد»، الذي يعمل جزارًا بأحد محال 6 أكتوبر بعد وصوله مصر منذ نحو 8 شهور، والآن يعمل طوال فترته حتى الآن لسداد مبلغ قدومه من سوريا لمصر، فتكلفة رحلته بلغت 3 آلاف دولار، ولا يمتلك هذا المبلغ.


«عمار» كان مقيدا بالتعليم الثانوي (قسم علمي) فحلمه كان الالتحاق بمجال العلوم الهندسية، وهذا طموحه منذ الصغر، إلا أن الظروف التي شهدتها الأراضي السورية دفعت به لمحاولة الرحيل فترك تعليمه وقدم إلى مصر ليفقد هدفه في أن يسير يوما ما مهندس.


«الظروف قاسية، تركت تعليمي، كنت مقيدًا بالدبلوم العلمي لأني أريد أن أصبح مهندسًا، ولكن بعد أن تدهورت الأحداث أصبح كل هدفي الرحيل.. بعد أن رحلت وجئت إلى مصر، أصبح لا نية للدراسة مجددًا، فالظروف المعيشية هنا صعبة، من حيث الصعوبات المادية، ومن حيث عملنا لوقت كثير وعدم توافر وقت لغير العمل»..قناعة كونها عمار منذ أن وصل إلى الجيزة.
الجريدة الرسمية