مهاجر للموت
أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في يوليو 2016 أن 28% من أرباب الأسر المصرية لا يعملون، وأن نسبة معدلات الفقر في مصر 27.8% لعام 2016، وتعتبر سوهاج وأسيوط أكثر المحافظات المصرية فقرا، وتنقسم النسبة إلى 57% من سكان ريف الوجه القبلي، مقابل 19.7% بريف الوجه البحري، وأن نحو 5/1 "خمس" سكان القاهرة من الفقراء، يعيشون في مناطق عشوائية، منهم 81% غير مشتركين بتأمين صحي.
كما أعلن الجهاز في سبتمبر الجاري، أن نسبة البطالة في مصر قد وصلت إلى 12.8% من قوة العمل، وأن نسبة البطالة أقل في الريف و3 أضعاف بالنسبة للإناث عن الذكور.
كما أعلن الجهاز سالف الذكر إلى أن معدل الأمية في مصر 20.9% للإناث 27.3% مقابل 14.7% للذكور، طبقا لإحصائية سنة 2015، وتعتبر محافظة الفيوم هي أكبر محافظة مصرية بها عدد أميين.
بعد كل ما سبق ذكره من نسب فقر وجهل وبطالة ومرض، كان من الحتمي لجوء بعض المصريين إلى حل وحيد " في نظرهم" للخروج من مصر والبحث عن حياة آدمية تكفل لهم وضعا أفضل اقتصاديا واجتماعيا ومعيشيا وأحيانا سياسيا، وبما أن فرص العمل قد تعذرت بسبب عدم حصول الشباب على أي شهادات تعليمية تؤهلهم للعمل داخل مصر، فمن الطبيعي انعدام فرص العمل خارج مصر لهم بشكل دولي أو قانوني أو تعاقدي.
من هنا تأتي فكرة الهروب والفرار من وطن لم يعد يكترث بتلك الفئة من الشعب، لم يعد قادرا على تهيئة حياة كريمة لهم، لم يعد حاضنا لهم، بل ربما يكون ملاحقا لهم، فتكون الهجرة، أي كان نوعها أو وسيلتها أو ثمنها !
فلنسميها غير شرعية أو نطلق عليها سرية، فهو مهاجر للمجهول بلا تجهيز أو وقاية، أو حماية، هو مهاجر بنية واحدة، وهي الخلاص من وضع لم يعد هناك اسوء منه سوى الموت في نظره.
لنبدأ بوسيلة الهجرة غير الشرعية، وهي عادة مركب صيد صغير لا تتسع إلا لـ 15 فردا أو 20 فردا على أكثر تقدير، تكون حمولتها وقت السفر 500-600 فرد!
يمتلكها شخص يتاجر بأحلام الشباب، بوعدهم بتسفيرهم إلى أوروبا على متن مركبه الصغير، مقابل آلاف الجنيهات تبدأ بـ 20 ألف جنيه للفرد، وقد تصل لـ 70 ألف جنيه للمسافر، وبالطبع لا يتواجد مالك المركب أثناء السفر، بل يكون هناك مراكبي، وهو القائم بأعمال تحميل المسافرين وقيادة المركب خلال أمواج البحر الأبيض المتوسط.
وهنا يطرح السؤال نفسه، فكيف لذلك الشاب "المهاجر" أن يدبر مبلغ السفر المرتفع السعر جدا نظرا لضيق ذات اليد، وانعدام العمل الموفر لذلك المبلغ، فلا يجد الشاب وسيلة لتدبير المال المطلوب للسفر إلا الاستدانة من القاصي والداني، والأقرباء والغرباء، وإمضاء ذويهم على وصولات أمانة وشيكات بالمبلغ لضمان سداده بعد الانفراجة المالية التالية للسفر والعمل في أوروبا، أو قد يضطر الشاب أن يجعل والدته أو أخته أو زوجته تبيع ما تملكه من ذهب "آخر ما تملكه في الدنيا"، لتوفير قيمة السفر غير المضمون.
وقد تتصاعد الأحلام بالشاب، فتجعله يجازف ويأخذ معه زوجته، وطفله إن وجد !
حلم وردي، ساحر، مشرق، بحياة أفضل له ولعائلته، ولكنه حتما سيكون أفضل من الوضع الحالي، ولنشير أنه مجرد حلم نادرا ما يتحقق، وقلما من يصل للضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وإن وصل بالفعل سيجد حياة شاقة وسوق عمل لا يحتضنه لأنها لا يملك أوراقه، أو ألياته، أو ضماناته، بل سيصطدم بتاجر آخر يستغل دخوله غير القانوني وغير الشرعي للبلاد، ليعمل عنده أجيرا بأموال رمزية لا تقارن مع من يسافر بعقد عمل أو وظيفة عن طريق القنوات الشرعية والدولية للعمل بين الدول.
أو قد يتحول الحلم لكابوس في عرض البحر مع مراكبي لا يملك خبرة القبطان، ومركب تفتقد عوامل الأمان والحماية، وعدد مسافرين تجاوز عشرات الأضعاف المقرر أن يحملها ذلك المركب الصغير المتواضع الإمكانيات، فتتقاذفهم الامواج، ويضج من حملهم المركب، فيقذفهم هو الاخر في أحضان بحر هائج، لا يعرف الرحمة ولا يقف أمام قدر محتوم ومنطقي.
فنجد المهاجرين قد انقسموا ما بين، غرقى قد ابتلعهم البحر، ومحظوظين قد انتشلتهم قوات خفر السواحل لتقديم الإسعافات الأولية لهم، ومن ثم تقديمهم للمحاكمة لخرقهم قوانين السفر والهجرة الدولية.
وهنا نتساءل أو لنقل هنا نطالب بتطبيق روح القانون لا نصه، فنحن نواجه شبابا دفن ذويهم "أخ، زوج، زوجة، ابن، ابنة، أمام أعينهم في قاع البحر، فعادوا لوطن لم يعد فيه أحباؤهم ليزيد مرارة عيشهم، ألا يكفي هذا كعقاب قاس !
وذلك الشاب الذي استدان، أو ربما باع ما يملك من ذهب " كتحويشة العمر" والدته أو زوجته، ليحقق حلما أصبح سرابا، ألا يكفي هذا كعقاب يواجهه كل يوم أمام والدته أو فرارا ممن استدان منه !
وذلك الشاب الغض الحالم، ألا يكفي انهيار عالمه الذي تمنى أن يحياه كإنسان له حقوق تكفل له حياة كريمة بدلا من عشوائية واقعه، ألا يكفي هذا كعقاب قاتل لفكره وكيانه !
حتى نتحرى الموضوعية، وعدم إلقاء الاتهامات الجزافية ما بين الدولة والشباب المهاجر بطريقة غير شرعية، يجب أن نذكر أن وضع مصر الاقتصادي سيئ مما يجعل الحكومة غير قادرة على دعم فقراء الشعب، أضف لذلك أن الحكومة همشت وأهملت هؤلاء الشباب على مدى مراحل أعمارهم، فلا تعليم وفرت، ولا حياة كريمة هيئت، ولا مهنة أهلت، ولا بدعم ساندت، ولا حرية رأي أتاحت، بل أحلام مستقبل حطمت، ورزق ضيقت وحرية لاحقت، ووطنية شككت.
وعلى الوجه الآخر، نجد شبابا مهاجرا يحلم بحياة آدمية، وممارسة حقه الطبيعي في التعليم والعمل والزواج والحرية الفكرية، ودوره المجتمعي، فأصبح يبحث عن أي طريق أو سبيل لتحقيق الحد الأدنى من أحلامه، فأصبح مقامرا بأعز ما يملك، أو لنقل يقامر بالشيء الوحيد الذي يملكه وهو "حياته"، وأصبح في نظر العامة من الناس أكثر من مجازف بل منتحر دون أن يشعر، يتمنى الحياة وسبيله لها الموت المتمثل في الهجرة الشرعية، فهو يعلم حتمية وضعه على متن مركب الموت، وبالرغم من ذلك اختار طريق اللاعودة لواقع أصبح يكره حياته فيه، هو اختار إما أن أعبر البحر أو أموت، لا ثالث يقبله أو يرضيه بعد أن ضاق الكون على اتساعه في نظره، وأصبحت حياته تتساوى مع مماته في نظره كما هي كانت في نظر حكومته.