رئيس التحرير
عصام كامل

الحكومة النزيهة والمواطن «المُرتَشِي»!


على الرغم من إجماع كل خبراء الإدارة والتنمية في العالم على مفهوم "الفساد" باعتباره استغلالا للوظائف العامة من أجل تحقيق مصالح شخصية.. إلا أن مفهوم الفساد في معظم البلاد "المتخلفة" يعتبر مغايرًا تمامًا؛ مما يجعل أية محاولات لمكافحة الفساد تنتهى بـ "الفشل" بل ربما تؤدي هذه المحاولات إلى زيادة معدلات الفساد نفسه.. ناهيك عن أن تكلفة مواجهة الفساد في بُلداننا "المتخلفة" قد تفوق في كثيرٍ من الأحيان تكلفة الفساد نفسه..!


وحقيقة الأمر.. أننا لا نحتاج لإثبات هذه الأطروحة إلى الخوض في تفاصيل كثيرة لنُثبتَ اختلاف طبيعة الفساد في البلدان المتقدمة عن طبيعته لدينا.. يكفي فقط أن نتناول مفهوم "الرشاوي" أو "الرشوة" باعتبارها أحد الأشكال البارزة والمتعارف عليها للفساد.. فالرشوة في البلدان المتقدمة عادة ما تكون من المواطن العادي لأصحاب المناصب القيادية في الدولة؛ بغرض الحصول على خدمات أو تسهيلات ربما لا تكون من "حق" المواطن ذاته.. فهو عادة ما "يَرشِي" من أجل الحصول على تسهيلات أو خدمات لا يستحقها.. والموظف الذي يقدم هذه التسهيلات يعتبر موظفا فاسدا يجب محاكمته.

لكن الأمر لدينا ربما يكون مختلفًا.. أولا لأن "المواطن" في كثير من الأحيان يرشي الموظف المسئول من أجل الحصول على حقه.. الذي في الغالب عادة ما يعطيه المسئول لمواطن آخر "لا يستحقه".. فالرشوة إذن ليست من أجل الحصول لا تسهيلات أو خدمات غير مُستَحَقة ولكنها من أجل الحصول على الحقوق! ومن ثم فـ "أخلاقيًا" لا يجب محاسبة المواطن إذا قام بالرشوة؛ نظرًا لكون الرشوة هنا "وسيلة" المواطن الوحيدة للحصول على حقه!

ربما يكون كلامي مُبهمًا إلى حد ما.. ولكن حتى يصبح الأمر"جليًا" دعونا نتفق مبدئيًا على نقطة الخلاف الأولى.. وهي أن "الرشوّة" لدينا عادة ما تكون من أجل الحصول على حقوق وليست تسهيلات.. وبالتالي فإن محاكمة المسئول بالقانون قد لا تجدي؛ لأنه فقط أوصل الحق لأصحابه، وأن ما حصل عليه من رشوة تعد مكافأة له، لبطولاته في الدفاع عن حقوق المواطنين.. ولعل ذلك التفسير هو ما يستخدمه المسئول لتبرير حصوله على الرشوة!

الأمر الذي يجعل المسئول على قناعة بأنه لا "حق" لمواطن على الدولة.. وأن ما تقدمه الدولة من خدمات أو تسهيلات للمواطن هي نوع من "الإحسان" يخضع للسلطة "التقديرية" الممنوحة للموظف العام.. ومن ثم فتعتبر المسافة الفاصلة بين الحق والإحسان، هي المسافة التي تمارس خلالها كل أشكال الفساد!

أما النقطة الثانية التي تكشف الفارق الكبير في مفهوم "الفساد" بين طَرَفَي العالم المُتَقدِم والمتخلف.. هي قيام موظفي الدولة أو كبار المسئولين فيها بـ "رشوة" المواطن؛ لأغراضٍ كثيرة، أهمها الحصول على "السلطة" أو البقاء فيها.. كأن يَشتري مرشح "البرلمان" أصواتًا لا يستحقها من أجل الحصول على سلطة "برلمانية" غير أهل لها، ويتمتع بـ "حصانة" برلمانية غير مؤهل لاستخدامها.. كأن يَعِد المرشح الناخب بإدخال نجله إحدى الكليات العسكرية، أو التعيين في السِلك القضائي، ولا يمكن لمرشح أن يفي بذلك دون "مساندة" حقيقية من الحكومة التي ترغب في دخوله البرلمان؛ حتى تضمن البقاء في السلطة والتستر على جرائمها المعتادة في نهب الشعب واستغفاله !

ورغم خطورة هذا النوع من "الرشوة" إلا أننا لا نجد عقوبة واحدة لردع من يُمَارِسُهَا! فكيف للدولة أن تُعَاقِبُ نفسها، في جرائم هي في الأصل تُحَارِبَهَا..؟! والنتيجة كما ترون.. أننا أمام برلمان غير "مُؤهَل" تمامًا، ولا يُعبِّر عن "إرادة" حقيقية لجماهير الشعب، وغير قادر على سن "تشريعات" تلبي مطالب الوطن التنموية، وتساعد المواطن في الانتصار على تحديات واقعه المَعِيِش!

وحتى نكون أكثرَ وضوحًا، علينا أن نتطرق قليلا لعملية "انتخاب" عمداء الكليات وربما رؤساء الجامعات.. فغالبًا ما يقوم عميد الكلية الحالي بتشكيل اللجنة التي سوف تختار العميد القادم، من بين المرشحين، الذي هو في الغالب واحد منهم.. ومن ثم فإنه يقوم خلال مدة عمادته برشوة الشخوص المحتمل تكليفهم بـ "اختبار" و"انتقاء" العميد القادم.. وعادة ما تتنتهي هذه اللجنة إلى "التجديد" للعميد الحالي الذي شكلها، أو تأتي بعميد جديد؛ يُحَافِظ على "مصالح" العميد السابق!

إذن فهي لجنة من البداية تم رُشوتها من المسئول لاختيار"أستاذًا" للعمادة، في الغالب لا "يستحق".. و"استبعاد" آخر، ربما كان هو "الأجدر" والأحق.. لكن وصوله للعمادة ربما يتعارض مع مصالح رئيس الجامعة.. الذي قد يرى أن وصوله للعمادة يؤهله مستقبلًا "للمنافسة" على منصب رئيس الجامعة.. فيصبح الاستبعاد والتفطيس هما الحل الأوحد للبقاء على كرسي الرئاسة!

والنتيجة.. تكمن فيما وصلنا إليه من واقع قميئ.. يتمثل أولًا في تراجع "الاعتراف" الدولي بـ "الشهادات" العلمية، التي تمنحها الجامعات المصرية؛ مما يُقَلِل من معدلات الطلب على العامل المصري في الخارج، ويُخَفِض قيمة الأجر الذي يحصل عليه.. ثانيًا في قيام بعض الدول بـ "التَنبِيه"على طلابها بعدم الدراسة في الجامعات المصرية؛ مما يؤثر على "عوائد" السياحة التعليمية ومن ثم على الاقتصاد المصري!

ربما تكون رشوة المسئولين شبحًا يهدد التنمية في مصر، ويضع المواطن دائمًا تحت ضغط. ويتسبب في تردي الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين..وقد يكمن الحل في إنفاذ القانون، وتطهير مؤسسات الدولة من المفسدين.. لكن قيادة الدولة برشوة المواطن لا تجلب للوطن سوى "الخراب".. فقد يصبح للفساد "ظهرٌ" يحميه ويُقننه ويعمل على استمراره..ولن تُسلِّم الدولة من أبنائها المفسدين إلا "المغضوب عليهم" والمطرودين من جنة النظام..وفي أحسن الحالات تقدمه كـ "كبش فداء" لاستمرار حكومة فاسدة!

فإذا كانت الدولة تعاقب المسئول المرتشي بالسجن أو الاستبعاد من المنصب.. فهل ستعاقب الشعب الذي يتلقى رشوة المسئول بالمثل؟ وإذا كان النظام أقر العقوبة على المواطن "الراشي"..فهل أقر عقوبة على المسئول إذا قام برشوة المواطن؟!

الجريدة الرسمية