بالصور.. «فيتو» ترصد «طقوس فوق جبل حميثرة» «4»: شباب الصوفية يرفعون أعلام الـ 25 من يناير.. يهتفون: «لساها الثورة مكملة».. المشايخ يمنعونهم: «مالناش علاقة
بدت شوارع وادي حميثرة بصحراء عيذاب التابعة لمحافظة البحر الأحمر، في الثانية والنصف منتصف ليلة التاسع من ذي الحجة، خالية من أبناء الطرق الصوفية الذين غادروا المكان نزولًا على توجيهات مشايخهم؛ الذين أكدوا لنا كما سردنا في الحلقة الثالثة من «طقوس فوق جبل حميثرة»؛ أنهم آثروا الرحيل وعدم استكمال احتفالات إحياء ذكرى وفاة القطب الصوفي الشهير أبي الحسن الشاذلي، خوفًا من اتخاذ بقائهم بصحبة مريديهم ذريعة لترويج شائعة حج المتصوفة إلى جبل حميثرة.. غادر 700 ألف مريد حولوا صمت الصحراء على مدى 8 أيام بدأت منذ الأول من ذي الحجة إلى أنغام ومدائح وأناشيد صوفية وأذكار وصلوات وأدعية؛ ولم يبق في المكان سوى 4 آلاف مريد؛ كانت أقصى توقعاتنا أنهم فضلوا البقاء لممارسة طقوس «الدروشة» وشعائر الحج فوق جبل حميثرة - كما قيل لنا - ولكننا أبدًا لم نتوقع أنهم سيصعدون إلى الجبل رافعين أعلام الـ 25 من يناير ليهتفوا: «لساها ثورة يناير مكملة»؛ وكأنهم يريدون إعادة إحياء الثورة من جديد.
الأمر حدث حين كنا جلوسًا منتظرين بزوغ فجر يومنا الأخير في حميثرة، والذي لم يتبق عليه -حسب ما تشير إليه ساعة ضبط الوقت- سوى ساعة ونصف الساعة قضيناها في الترجل بجوار مسجد الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وحول جبل حميثرة مستغلين الهدوء النابع من قلة عدد المتواجدين؛ الذين تدثر الأكثرية منهم بالصمت إما نومًا داخل المسجد والضريح أو افتراشًا للسيارات أو مستيقظين، مفضلين إحياء ما تبقى من الليل في صلاة وذكر وتأمل؛ وسريعًا مر الوقت ورفع الشيخ ثروت - إمام المسجد - آذان صلاة الفجر، وأقام المتواجدون شعائر الصلاة ثم تفرقوا بين متحلقين داخل الضريح منهمكين في قراءة سورة يس وبردة الإمام البوصيري، ثم أخذوا في الاستغفار والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبين عائد إلى مضجعه مواصلًا نومه من جديد؛ ونحن تركنا الجميع وخرجنا إلى جبل حميثرة لنراقب الصاعدين إليه لأداء «الحجة الصغرى»- كما قيل لنا؛ فلم يصعد أحد حتى داهمتنا شمس التاسع من ذي الحجة وهنا حدثت المفاجأة.
خمسة عشر شابًا يصعدون إلى جبل حميثرة؛ ممسكين راية بطريقة لا تُظهر لونها أو المكتوب فوقها؛ وهنا توقعنا أن الفوج الأول من الحجيج أخذ طريقه في صعود الجبل وتبعناهم إلى الأعلى، وبمجرد أن وطأت أقدامهم أعلى نقطة في حميثرة لوحوا بالراية التي كانوا يحملونها وأخذوا يرددون ما كان مكتوبًا فوقها: «لساها ثورة يناير مكملة.. الثورة مش هتموت»؛ لم نكن نعرف ما الذي يحدث أو كيف تحولت «مشاعر حميثرة المقدسة» - كما يسميها غير المتصوفين - إلى ميدان ثورة؟.. المشهد لم يستمر سوى 15 دقيقة حيث هرول 4 من مشايخ الطرق الصوفية إلى أعلى الجبل وبمجرد وصولهم تحدثوا إلى الشباب قائلين: «إحنا مالناش علاقة بالسياسة، وما فيش بينا وبينها أي قبول.. بلاش تفسدوا ما تبقى من ساعات الزيارة بما تفعلون»؛ ودون أن ينبس الشباب ببنت شفة أسقطوا الراية ونزلوا بصحبة المشايخ من فوق الجبل.
تبعناهم إلى الأسفل حتى دخلوا إلى ضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي وانهمكوا مع الجالسين في الاستغفار والصلاة على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم، وكأن شيئًا لم يحدث، وفور خروجنا من الضريح رأينا شبابًا يحملون فوق كواهلهم «صندوق خشبي» مفرغ من جهاته الأربعة، ويتبعهم رجلان أحدهما يقود زمام جمل، والآخر يجر خلفه بقرة، وأربعة رجال يحملون أقمشة خضراء رافعين رايات بذات اللون، وجميعهم قادمون إلى جهة المسجد والضريح لتبدأ فصول مشهد آخر، وهو الطواف في شوارع القرية فيما يسمى الـ«دُورة».
وقف الجميع على مقربة من السلالم الصاعدة إلى ضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي؛ أناخوا «الجمل» ووضع حاملو«الصندوق الخشبي» حملهم، وشكلوا حلقة، وقف بعيدًا عنها الرجل الممسك بالبقرة، وأطلقت النساء الزغاريد، وعلا صوت الحاضرين وهم يرددون: «شاذلي يا أبو الحسن.. نظرة يا أبو الحسن».
كانت أصوات الزغاريد وكلمات أنشودة «شاذلي يا أبو الحسن» تدوي في أرجاء المكان؛ وهو ما يبدو أنه لم يكن مألوفًا لمسامع «الجمل»؛ فراح يطلق «هديره» بأعلى الصوت وكأنه يعلن تذمره ورفضه لما يحدث، ولكن أحدًا لم يلتفت إليه وكأن المتحلقين حوله كانوا يأنسون بهديره ويظنون أنه يشاركهم فرحة ما يفعلون.
علا هدير «الجمل» بشكل مبالغ فيه، وشرع أكثر من مرة للفتك بمن حوله، وفي كل مرة كان قائده يضع يده فوق رأسه فيهدئ من روعه، حتى شرع أحد المتواجدين في ربط عنقه بقطعة قماش خضراء ثم صعد فوق سنامه أحد الأطفال وأتبعه وضع الصندوق الخشبي حول جسد الصغير.. سألنا: ما الذي يحدث؟، فقال لنا أحد الواقفين: «الجمل خايف وفاكر إننا هننحره.. عشان كده لفينا حولين رقبته قماشة خضرا وخلينا الولد الصغير يركب فوق ضهره وبكده هيطمن ويعرف إننا بنحتفل ومش ناويين نأذيه».
مرت دقائق قبل أن يُنزلوا من فوق سنام «الجمل» الطفل والصندوق الخشبي، وبعدها شرعوا في تغطية الصندوق بالأقمشة الخضراء وجميع من يشارك في العمل يردد صيغة الصلاة على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم، ومن خلفهم النساء ما زلن يطلقن الزغاريد المشبعة بجملة: «شاذلي يا أبو الحسن».
انتهى تزيين «المحمل» بالأقمشة الخضراء المدون على جوانبها الأربعة: «لا إله إلا الله.. محمد رسول الله»، وتكاتف الجميع في وضعه ثم ربطه فوق سنام الجمل؛ وهنا طلب أحد كبار السن من الجميع الصمت وشرع في ترديد الأدعية مختتمًا إياها بقراءة سورة الفاتحة ومن خلفه ردد الحضور.
تحرك «المحمل» من أمام ضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي، متخذًا طريقه في الطواف بجميع شوارع القرية مصحوبًا بقرع الدفوف وترديد الأناشيد والمدائح الصوفية ومن خلفه يسير نفس الرجل ممسكًا بالبقرة؛ والذي علمنا أنه مالكها وهو من نذر ذبحها في هذا اليوم.
بعد ما يقارب الساعتين من الطواف بشوارع قرية الشيخ الشاذلي، عاد «المحمل» من جديد إلى المكان الذي انطلق منه، فأناخ الطائفون «جملهم» وذبحوا على مقربة منه بقرتهم – وهو ما مٌنعنا من توثيقه بعد تشبث الحاضرين برفضهم للتصوير.
في هذا التوقيت داهمنا آذان ظهر التاسع من ذي الحجة، وبعد الصلاة حمل من تبقى في حميثرا - 4 آلاف مريد – أمتعتهم واستقلوا سياراتهم مودعين القطب الصوفي الكبير أبي الحسن الشاذلي وانصرفوا من المكان دون أن نسمع أو نرى واحدًا منهم يؤدي مناسك الحج فوق جبل حميثرا أو يهتف ملبيًا «لبيك اللهم لبيك» - كما قيل لنا من قبل؛ فقررنا أن نفعل مثل غيرنا وأشرنا إلى دليلنا «محمود العبادي» بتجهيز السيارة ورحلنا من المكان تاركين رجالًا ونسًاء من سكان قرية الشيخ الشاذلي الأصليين - لا يتعدى عددهم المائة - يستعدون هم أيضًا للرحيل من أجل قضاء أيام عيد الأضحى المبارك لدى ذويهم في محافظات البحر الأحمر وقنا وأسوان.