رئيس التحرير
عصام كامل

الفسحة بكم ؟!


عرفت في حياتي، ولعلها في حياتك أنت أيضا، معنيين للفسحة، قبل أن أعرف المعني الثالث لها في أيامنا السوداء الرائعة الحالية!

ترتبط فكرة الفسحة بالانعتاق، والخروج من الاعتياد، والمواعيد والواجبات والملل، وكسر القيود. هكذا كان جرس الفسحة هو جرس البهجة والفرحة، حين يدق فنهرول خارجين متصائحين راكضين متضاربين، إلى الطرقة فالسلالم، فالحوش الترابي، وملعب السلة وشبكتها المخرومة أو خشبتي كرة القدم، غالبا شراب !


تلك الفسحة لم تكن تكلف أبي سوي قرش تعريفة، أشتري به مصاصة وعسلية، ونداغة، أما الشرب فمن "بوز" الحنفية. نلتقمه كصدر الأم وهات يا شرب !

ياالله ! كم كان طعم الماء رائعا.

أما المعنى الثاني للفسحة الذي عرفته، فكان حين أرى أبى رحمة الله عليه، يرتدى أفضل ملابسه، الصيفية، القميص أبو ياقة منشية، والبنطلون الكحلي رفع وسطه إلى ما فوق بطنه، وكان هذا يضحك أمى كثيرا، أنه شامط البنطلون على بطنه شمطا ! أضبطه يرفع البنطلون، فأهب بدوري لارتدي بنطلوني وفنلتى، تي شيرت بلغة أولادنا اليوم.

ينظر ويبتسم، فأتشجع وأقول له:

-حتمشى معاك ع البحر والنبي يابابا، ومش حطلب أي حاجة، بس لوجبتلي ترمس وبليلة، حبقى مبسوط قوي
فيؤكد على:
- بس متزودش على الترمس والبليلة !
فأعاجله:
-طب والبصل المخلل كمان! فيضحك: لا ده فوق البيعة ونشرب ميه ساقعة م القلل كمان !

وقد كان. جلسنا على سور كورنيش النيل، نسميه في المنصورة شارع البحر، وعربة الترمس فخورة وفرحانة بحملها من جبل صغير تلمع حباته من الترمس، تحيط به أقماع الحلبة المنبتة الصفراء بنية الرءوس، ومن خارجها وداير ما يدور العربة الخشبية أم عجلتين قديمتين صدئتين، اترشقت القلل القناوي الباردة، مغطاة بالأقماع المذهبة أو بحبات الليمون !

ياالله !

كانت تلك أقصى أمانى في النزهات والفسحات. أحيانا يبعزق أبي أكثر فيبتاع كوزين أو ثلاثة من الذرة المشوية، يأكل كوزه، وآكل كوزي، ويستبقي الآخر، وأسأله فيبتسم:

-لأمك.. حناكل وننساها ؟!

ركضت بخاطرى كل تلك الصور الباهتة القديمة، متدافعة، وأنا داخل سيارتي السوداء، مملوءة بأولادي وأحفادي وأختى وابنتها وزوجتي بالطبع. يريدون أن يتفسحوا.

نحن في القاهرة، والقاهرة مفترية في أسعارها وتجارها وسعار لصوصها الحاليين، فكرت أن أذهب لكافيه، وبالفعل نزلنا، وتفقدت المكان فوجدت مصيبة متفشية اسمها المينمم تشارج ! الذي لطعها في وجوه الناس بمدخل مطعمه أو مقهاه، ربما لايعرف كيف يكتبها، لكنه يعرف بالتأكيد أن المقصود بها هو أن يسرق ما في جيب البأف الذي سيدخل ليشرب وأسرته شوية كانز ألوان وغير ألوان، وربما يشيش !

الشيشة وحدها من ثلاثين لأربعين جنيها، والقهوة ٢٠ جنيها وربما الشاي ١٥ وزجاجة الماء الصغيرة تقفز من اتنين جنيه إلى تسعة جنيهات. والخدمة على الخمسين جنيها ١٧ جنيها، غير الضريبة.

حسبتها، فوجدتني داخل على ٢٠٠ أو ٣٠٠ جنيه، لو القعدة ظاطت واحلوت والطلبات توالت وتكاثرت، وربما دخلنا على أطباق وسندوتشات صغيرة أو كبيرة !

ثم إن المكان زحمة وخانق، وهكذا تركت المهندسين، وقصدت المعادي، وتوسمت كافيها معقولا، لكنى وجدته ملفوفا في غلالة من الدخان، والضوضاء.

اقترحت أختى: طب نروح سيدنا الحسين !

هتفت مستنكرا: في العيد ؟!

ورحنا، والمشكلة في الركنة، وهبطنا تحت الأرض، وركنا ومشينا نحو كيلومتر وسط زحام هائل، يتخبط فيه الناس، ونظرت لقبيلتي الصغيرة، أتابعها وأرى ردود الفعل، وأنبه كل واحد أن يقبض بأظافره على موبايله، خشية الخطف الشائع هذه الأيام !

بصعوبة بالغة تمالصنا حتى دفعت بنا موجة زحام إلى الساحة قبالة مولانا سيدنا الحسين، وكان الزحام أشد ورائحة العرق في الليلة الصهداء هذه، خانقة. تخاطفنا المنادون على مداخل المقاهي الشهيرة، لكنى وجدت وجوه أختى وحفيدي وزوجتي أصابها اللون الأزرق، والرمادي..

على الفور قررت الانسحاب، وكأى انسحاب فإن الأقدام تصبح ثقيلة تجر الجسد جرا أو يجرها الجسد جرا. بطلوع الروح بلغنا سيارتنا في جراج تحت الأرض، وخرجنا منه كخروج يونس من بطن الحوت.

سألتني زوجتى في تمن: هنروح ؟!

قالت أختى: آه والنبي روحوني.

وقال أحفادي: لا والنبي يا جدو فسحنا شوية !

فكرت مليا والتزمت الصمت، وأخذت الدائري وصعدت كوبري المنيب، حتى بلغت منتصفه، ووقفت بالسيارة ونزلت منها أتأمل مياه النيل الفضية بفعل الضوء المتناثر على صفحتها السوداء. كان الهواء باردا نقيا، فنزلت القبيلة، وحانت منى نظرة فوجدت صف كراس بلاستيكية، ألقيت بجثتى عليها، ففعلوا مثلي تباعا، ورحت أبحث في لهفة وشوق عن عربة الترمس القديمة.

في عز بحثي، كان رجل بسيط مكدود الوجه، محنى الظهر قليلا، قد حمل إلينا صينية عليها أكواب من الشاي بعددنا !

تأملته طويلا وابتسمت، وسألتهم: انتو طلبتوا شاي ؟!

هتفوا ضاحكين: إحنا لحقنا نطلب أي حاجة.. الظاهر أن ده المقرر هنا.

ابتسم الرجل في ود وبشاشة وهو يقلب الشاي كوبا بعد الآخر ويقول: يا باشا كل سنة وانتوا طيبين ! عيد بأه وعيد علينا الله يكرمك فيهم !

ضحكنا وقلت: والله دعوة حلوة بس ناقصها الترمس والحلبة والقلة.

ترى كم دفعت ؟
ثلاثون جنيها، هو سعيد وهم سعداء وأنا أكثرهم سعادة !
الجريدة الرسمية