رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. «فيتو» ترصد من «طقوس فوق جبل حميثرة» (3): أوامر عليا تمنع الصوفيين من استكمال احتفالاتهم.. حكاية لقاء «الأشباح» داخل الساحات.. وسر «طرقعة» المريدين لـ&

فيتو

مؤشرات الوقت تشير إلى العاشرة إلا الربع مساء الثامن من ذي الحجة، قضينا فوق جبل حميثرة 3 ساعات، وثقنا ما رأيناه خلالها في الليلة قبل الأخيرة لاحتفالات أبناء الطرق الصوفية بـ «الزيارة العامة» لضريح القطب الصوفي الكبير أبي الحسن الشاذلي؛ وفقًا لما سردناه في الحلقة الثانية من «طقوس فوق جبل حميثرة»؛ فور نزولنا من «صعيد حميثرة» كما يطلق عليه المريدون؛ توجهنا إلى الساحات المحرك الرئيسي والمتحكم في كل ما يدور بالموالد، فبداخلها يجلس أشياخ الطرق الصوفية «ملوك دولة الحق» كما يلقبهم تلاميذهم؛ لم يكن أمر اختراقنا لهذه الأماكن مرتبًا وهو ما جعلنا نتوجس خيفة من أن يمتعض الأشياخ بمجرد رؤية الكاميرا ويرفضوا السماح لنا بأداء مهام عملنا؛ فلم يكن أمر السرادقات المنتشرة في الشوارع والمفتوحة على مصراعيها يشغلنا بالحد الكبير، فهذه مرئيٌ ما يحدث بداخلها للجميع.. البنايات المغلقة هي محط اهتمامنا.

دلفنا إلى أول ساحة اعترضت طريقنا، ودون أن نتحدث إلى أحد أخرج زميلي: محمد متعب الكاميرا والتقط صورة سريعة حتى إذا طُبق علينا قرار منع التصوير نكون على الأقل وثقنا جانبًا مما يحدث بالداخل، وإذا بأحد القائمين على «خدمة الأحباب» كما يطلقون على العاملين بالساحات؛ يفيض على مسامعنا بكلمات الترحاب والتهاني بسلامة الوصول؛ فقلنا له: هو أنت تعرفنا؟، فأجاب مبتسمًا: «لأ.. بس مشايخنا علمونا إن كل الناس أحبابنا وإخوتنا ولقاء الأشباح مشهد معاد من لقاء الأرواح في عالم النور»؛ قلنا: يعني إيه أشباح وإزاي لقاؤنا تكرر قبل كده وإحنا أول مرة نتقابل؟؛ لم تفارق الابتسامة وجهه المكسو بسمرة هي سمة الكثيرين هناك: «إحنا بنسمي الأجساد أشباحا، لأنها فانية ووجودها من عدمه مبيشغلناش.. الأبقى هو تواصل الروح والقلب، وبنعتقد إنك لما بتقابل أي شخص متعرفوش ده بيكون لقاء ثان سبقه لقاء تعارفت وتألفت فيه الأرواح، وده اللي خلى قلبي ينشرحلكم من غير ما تكون بينا سابق معرفة».

لم تكن هذه الكلمات بالغريبة على مسامعنا،  فأحاديث الفلسفة الصوفية كثيرة التناقل بين المريدين في حميثرة، كما أن التمسك بأذيال المحبة والطيبة والترحاب المبالغ فيه سمات عامة لدى كثير ممن التقينا، وخلال دقائق معدودة كنا نتبادل فيها أطراف الحديث مع «سيد حسين» كما أخبرنا عن اسمه؛ اصطف العشرات داخل الساحة وأخذوا في التمايل على كلمات أشعار العشق الإلهي ووقع أنغام الناي، وهنا قلنا لمضيفنا: إحنا صحفيين وعايزين نصور اللي بيحصل هنا.. ممكن؟؛ فصدمنا بقوله: لأ طبعًا مش ممكن.. اعترانا الوجوم للحظات قبل أن يتداركنا بقوله: «الساحة واللي فيها تحت أمركم بس بشرط تاخدوا واجبكم الأول؛ لحظة واحدة وهرجعلكم تاني».

غاب «سيد» للحظات معدودة، ثم عاد وهو يسير خلف من وصفه وهو يقدمه لنا «مولانا السيد محمود».. الشيخ اصطحبنا إلى غرفة استقبال الضيوف مبالغًا في حفاوة الترحاب، وبمجرد جلوسنا وقبل أن ننبس ببنت شفة وُضع أمامنا طبق كبير من الفتة المتراص فوقها قطع من لحم الضأن؛ وهنا قضينا نصف ساعة من الشد والجذب فنحن لا نأكل أثناء العمل حتى لا نصاب بالترهل والكسل، ناهيك عن أن ريعان شبابنا الذي لم نفارقه بعد عصى عليه هضم اللحوم.. الشيخ: «والله أبدًا لازم تاكلوا»؛ ونحن نرد القسم بآخر: «مش هنقدر»، وأخيرًا همد بركان الكرم وأمر الشيخ أن يرفع الطعام من أمامنا مع إشارة بعينه اليسري فهمنا مغزاها حين دخل علينا «سيد» بعد دقائق وهو يحمل طبقًا به عسل وآخر به «جبنة قريش»؛ وإذا بالشيخ مبتسمًا: «ما تحاولوش هتاكلوا يعني هتاكلوا».. فقلنا: الجبن أخف ضررًا من اللحم وأكلنا.

أنهينا طعامنا ووقف زميلي مطلًا من نافذة الغرفة وشرع في التقاط صور لـ«حضرة صوفية»، كانت مقامة في سرادق مواجه للساحة، وشرعت أنا أسأل الشيخ: إيه علاقة اللي بيحصل هنا بالتصوف؟؛ فأجابني: «ما فيش أي علاقة.. التصوف علم مستنبط من القرآن الكريم والسنة النبوية والهدف منه تحقيق المساواة والعدل والرحمة والتآخي بين العباد ونشر الحب الذي يهديه الإنسان لأخيه الإنسان، وخلق مجتمع سوى جميع الناس فيه سواسية.. التصوف أخلاق؛ أما الموالد والزيارات وما يحدث فيها فكل هذا يندرج تحت باب العادات»..

 قلت: دي مبادئ اشتراكية؟؛ فأجابني متبسمًا: «الأصح أنها مبادئ محمدية»؛ سألته: طب وإيه رأيك في اختلاط النساء بالرجال وشرب المخدرات وغيره من اللي بيحصل في الموالد؟؛ قال: «الحاجات دي بتحصل في القاهرة ومحافظات بحري وإحنا كمشايخ مالناش سيطرة على الموالد هناك، اسألوا الأمن عنها عشان تعرفوا هما ليه بيسمحوا للمسجلين خطر والبلطجية يتواجدون في احتفالات الصوفية».

الشيخ مردفًا: «أما الموالد اللي بتقام في الصعيد مش هتلاقوا فيها الحاجات دي إلا نادرًا، ومش معنى كده إن الصوفيين ملائكة.. لأ إحنا زينا زي أي حد فينا الكويس والوحش بس الفرق بينا وبين الجماعات المتشددة إن حتى الوحش فينا عمره ما فكر يقتل ولا يحرق.. إحنا مش شاغلنا غير حاجة واحدة محبتنا لله والرسول وآل البيت.. حتى السياسة مالناش فيها ودايمًا بنقول لتلاميذنا: الناس يعبدون السياسة ونحن نعبد رب السياسة»؛ سألته: إنتوا بتعرفوا عدد اللي بيحضروا هنا إزاي؟؛ قال: «دي مسألة بسيطة.. كل واحد من المشايخ بيكون عارف اللي جايين معاه، واللي حضروا السنة دي 700 ألف بس وده عدد قليل جدًا»؛ قلت: 700 ألف عدد قليل؟؛ قال: «أيوه.. السنة اللي فاتت حضر مليون ونص مليون مريد»؛ قلت: مليون ونصف المليون ليه يعنى؟؛ قال: «دي بركة سيدنا أبوالحسن الشاذلي».

قطع حديثنا بعض المريدين الذين سارعوا إلى تقبيل يد الشيخ وطلب الدعاء منه، وهنا استأذناه بالانصراف واعدين إياه بالعودة مرة أخرى لنأكل مزيدًا من العسل والجبن القريش؛ فودعنا بابتسامة ما زالت عالقة في أذهاننا حتى اليوم.. توجهنا إلى ساحة أخرى فرأينا بداخلها شيخًا لإحدى الطرق يجلس بطريقة فيها "تعالي" وأسفل قدميه يجلس شابان مهمتهما «طرقعة» أصابعه وتبدو على وجهيهما سعادة أخذ البركة من أقدام الشيخ، ورجل عرفنا أنه طبيب علاج طبيعي انهمك في عمل جلسة «مساج» للشيخ وقد بدت على ملامحه علامات التذلل والخضوع، وأدركنا أنهم لن يسمحوا لنا بالتصوير وهو ما حدث بالفعل فخرجنا إلى أحد السرادقات المقامة بجوار ضريح الشيخ أبي الشاذلي وكان الجميع إما متمايلًا على الأنغام أو منصتًا للأشعار.

الساعة الآن قاربت على الثانية عشرة من منتصف ليلة التاسع من ذي الحجة، ولم يتبق سوى 4 ساعات على موعدنا المنتظر؛ «لحظة صعود حجيج الصوفية فوق جبل حميثرة».. وكان قرارنا الصعود إلى قمة الجبل والمكوث فوقه حتى الفجر.. مرة أخرى صعدنا إلى أعلى نقطة بحميثرة ولم يتغير المشهد فالجالسون منهمكون ما بين قائم يصلى وهائم في ترديد القصائد الصوفية،  وناظر إلى ضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي.. وجلسنا مستمتعين بنيل قسط من الراحة لم يدم إلا دقائق قليلة، حين قطع صمت ليل حميثرة المبهج مجموعة من الشباب فوجئنا بهم وقد دخلوا في وصلة رقص شعبي على كلمات المهرجانات التي كانوا يرددونها بصوت مزعج، والغريب أن جميع المريدين لم يعبأوا بالأمر وكأنهم لا يسمعون أو يشاهدون شيئًا؛ فقررنا النزول هربًا من هذه الضوضاء.

في طريق نزولنا الثاني من فوق جبل حميثرة، تعرضنا لحادثتين لولا أن الله سلم لقضينا نحبنا؛ الأولى كانت حين أصابتني «فوبيا» المرتفعات وشعرت أن الجبل يهرب من تحت قدميّ ويتركني وحيدًا بلا موطئا أقف عليه فأخذت أصرخ: «الجبل بيمشي.. شوفوا حاجة تثبته.. ده قاصد يموتني»، هدأ صديقي من روعي وأجلسني قليلًا حتى تمالكت أعصابي وشرعنا مرة أخرى في النزول، وبعد أمتار قليلة وطأ زميلي محمد متعب صخرة غير ثابتة فهوت به للأسفل ولولا أنه اصطدم بأحد الصاعدين لحدث ما لا يحمد يعقباه؛ وهبطنا مرة أخرى بسلام فوجدنا «محمود العبادي» - دليلنا في الرحلة - متجهًا إلينا وهو يلهث: «كويس أنكم نزلتوا أنا كنت طالعلكم»؛ تساءلنا: فيه إيه يا عم محمود؟، أجاب: «الناس كلها ماشية.. المشايخ قالوا ما فيش حد يقعد للصبح».

دون أن ندخل في تفاصيل تهدر وقتنا، توجهنا بسرعة إلى ساحة الشيخ محمود الذي التقيناه منذ ساعات، فوجدنا المريدين جالسين داخل السيارات في طريقهم للرحيل؛ ويبدو أن الشيخ بمجرد أن رآنا توقع ما كنا نود معرفته فلم يتركنا نتحدث وقال: «جميع المشايخ اتفقوا على إنهاء الزيارة النهاردة السبت، وأصدرنا أوامر عليا للمريدين بالرحيل عشان ما فيش حد يروج إشاعات، ويقول إن الصوفيين بيحجوا فوق جبل حميثرة، وكمان اللواء أحمد عبدالله محافظ البحر الأحمر لما جه هنا النهاردة الضهر طلب مننا نمشي الناس لاحتياطات أمنية».

ظللنا نرقب الراحلين ونحن نقول: «كده المولد اتفض»، ويبدو أن دليلنا كان يريد تحفيزنا للبقاء يومًا آخر يُصب في مصلحته،  فبادرنا بالقول: «أنا عرفت إن مش كل الناس هتمشي، فيه مريدين هيفضلوا قاعدين عشان الدورة»؛ فتساءلنا: باستغراب: وإيه الدورة دي كمان؟، فقال: «ده جمل بيجبوه قدام ضريح سيدي أبو الحسن ويركبوا فوق ضهره محملا ويلفوا بيه القرية وقدامه بيكون في واحد ماشي ببقرة، وبعدين بيرجعوا تاني عند المقام ويدبحوا البقرة وبعدها بيطلعوا فوق الجبل وما ينزلوش غير المغرب؛ وتعالوا أوريكم الجمل والمحمل والبقرة»؛ تبعنا دليلنا ولما تبينا صدق كلامه قررنا الانتظار حتى الصباح لنرى ماذا سيحدث؟، وهذا ما سننشره غدًا في الحلقة الأخيرة من: «طقوس فوق جبل حميثرة».
الجريدة الرسمية