عيداروس.. والموت المفاجئ
كعادة الموت يختطف الملائكة من البشر دون سابق إنذار، هكذا اختطف الموت صديقى ورفيقى محمد عيداروس، غيبه الموت فجأة دون أن يمنحنى فرصة لوداعه، دقائق قليلة انتقل خلالها من شخص مفعم بالحيوية والصحة والابتسامة إلى عالم الملكوت، لم يمرض أو يعانى أويذهب إلى طبيب طوال حياته، وغادرنا بلا مقدمات تاركا وراءه خمس زهور صغارا، وأُمّاً مكلومة فى وحيدها، ورصيدا كبيرا من الحب والوفاء والخلود فى قلوب كل من عرفوه وتعاملوا معه واقتربوا منه.
عرفت صديقى العبقرى الموهوب الإنسان عيداروس "ابن مجازفة"، و"ابن مغامرة" و"ابن فرص ضائعة"، ولم أتخيل أبدا أنه "ابن موت" ، فقد كان محبا للحياة مقبلا على حلوها ومرها بكل ما أوتى من قوة.
فى الحياة عموما هناك أشخاص يبهرونك عندما تسمع حديثهم للوهلة الأولى، ولا تمر دقائق حتى تشعر بأن تلك الجاذبية قد تحولت إلى نفور ورغبة فى مغادرة المكان، لكن الراحل محمد عيداروس كان من نوعية البشر، الذين تشعر بجاذبية لحديثهم طوال الوقت وكل الوقت، وسر هذا الشعور يكمن فى أنه شخص موسوعى يقدم معلومات مغلفة بلغة راقية وخفة ظل تضيف إلى كل مستمعيه أكثر مما تستهلك وقتهم وتضيعه، وتؤهله دائما لكى يكون زعيما وكبيرا بين الحاضرين بثقافته وجاذبية شخصيته وكرمه وإنسانيته وعلمه الوفير.
فى الإمارات وتحديدا فى صحيفة "الخليج"، تعرفت عليه فى مستهل عملى هناك عام 2004، شعرت أننى أمام شخص على المستوى الإنسانى هو أقرب إلى البحر السحيق، أمام نموذج من الموهوبين فى مهنة الصحافة، موسوعى يمتلك كل أدوات المهنة ويجيدها بدءا من الإخراج والفوتوشوب مرورا بالكتابة الساخرة والجادة حتى كتابة السيناريوهات، كان قلمه يتمتع برشاقة ورصانة وطلاقة وخفة ظل فى آن واحد، شعرت أننى أمام مثقف فى التاريخ والجغرافيا والسياسة والدين والموت والعشق والمرأة، أمام نبع فياض من الكرم والشهامة والمروءة والرجولة وإنكار الذات.. تأكدت أن التفريط فى هذا الصنف من البشر خسارة كبرى، وصرت من مريدى عيداروس ومحبيه، ومن هذا المنطلق لم يكن يعنينى "من يسأل عن من"، ولم أخضعه لقاعدة من لا يسأل عنى لا أسأل عنه، هكذا أنا عندما أحب.
صار عيداروس رفيق الغربة.. لانفترق أبدا.. أبحث عنه فى الجريدة لأسمع منه "إففيه" يأخذنى من حالة إحباط العمل والاكتئاب الى حالة الابتسامة، فقد كان موهوبا فى انتزاع الضحكة من الآخرين، كان ابن نكتة، يحيك لك مقلبا دون أن تزعل منه أو تخاصمه، ولا تملك إلا أن تضحك معه بقلب صاف على سذاجتك.
بعد أن فجعنى وهزنى وآلمنى خبر غيابه، كان الأمل يراودنى فى أن الأمر ليس أكثر من مقلب وأنه سيفاجئنى على الهاتف بضحكته الواسعة العريضة ويقول لى إنه مازال حيا، وأنه فعل ذلك ليعرف كم هو عزيز علىّ، كان عيداروس صاحب أفكار خلاقة ومشاريع واعدة فى مهنة الصحافة، لم يمهله القدر لإنجازها، وأصدر "متجمعين فى طرة" و"العشرة المبشرون بحكم مصر" و"كل حريم الهانم".
فى عام 2005 قرر صديقى فجأة أن يترك بكامل إرادته "فلوس الخليج"، رغم احتياجه الشديد لها، ليعود إلى الوطن، حيث "مجد صاحبة الجلالة"، شعرت أننى فقدت "مؤقتا" الصديق والرفيق، ومرت سنوات قليلة حتى عدت أنا كذلك، وفى مصر جمعتنا تجربة أومحطة مهنية، وفيها أثبت عيداروس أنه واحد من أولئك البشر الذين يقبلون التضحية براتب ضخم وبمنصب كبير إذا تعارضا مع مبادئ يؤمن بها، فى هذه التجربة أو المحطة ترك كل شىء "الراتب والمنصب" دفاعا عن زملائه، وكان يمكن أن يبقى ويحقق مجدا وصولجانا لنفسه، لكنه رفض لأنه من أولئك البشر الذين لايقبلون سحق رقاب زملائه من أجل تحقيق مجد شخصى، كان صاحب ضمير يقظ، لايقبل الظلم للآخرين، لم أعرفه انتهازيا ولا منافقا ولاممالئا لأى رئيس فى بلاط صاحبة الجلالة، كان فارسا وجبلا لايهزه شىء، خاض معاركه مع خصومه بكل شجاعة من على صهوة جواده، كان له وجه واحد، وكانت موهبته الفذة وشموخه المهنى وكبرياؤه الإنسانى كلمة السر فى سعى المناصب إليه قبل أن يكمل الخامسة والثلاثين.
صديقى الغالى.. أنا مكلوم، ولن يكون حزنى على فراقك مؤقتا ككل البشر، بل سيمتد إلى أن نلتقى سويا فى جنة الخلد إن شاء الله.