رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. «فيتو» ترصد «طقوس فوق جبل حميثرة» (2) : حقيقة اعتقاد الصوفيين أن الزيارة تعادل «حجة صغرى».. سر جمع المريدين لـ«الحصى».. حكاية «بيوت الحب».. و

فيتو

الآن أكملنا 18 ساعة متواصلة لم يعرف النوم خلالها طريقًا لأجفاننا؛ 15 ساعة منها قضيناها في الطريق منذ مغادرتنا ضوضاء القاهرة وصولًا إلى الصمت الموحش في صحراء عيذاب بالبحر الأحمر، حيث جبل حميثرة المسجى أسفل منه جثمان القطب الصوفي الكبير أبي الحسن الشاذلي، الذي قضينا داخل ضريحه الثلاث ساعات الأخيرة، مفضلين أن تكون بداية رحلتنا لتوثيق احتفالات مئات الألوف من أبناء الطرق الصوفية بـ«الزيارة العامة» من مرقد «ساكن حميثرة»، والذي أسهبنا الحديث في حلقتنا الأولى من: «طقوس فوق جبل حميثرة» عما يحدث بداخله سابقين إياه بوصف لطريق الوصول إلى حميثرة.


بلغ منا الإرهاق منتهاه، وكنا نرى الحاجة إلى النوم مُنية لو أدركناها لحيزت لنا الدنيا بحذافيرها، ولكن أنى لنا هذا وخواطرنا شغلتها كلمات كانت سببًا في مجيئنا إلى هذا المكان: «المتصوفة يأتون بأفعال ما أنزل الله بها من سلطان، يؤمنون أن من يصعد إلى جبل حميثرة صبيحة التاسع من ذي الحجة تزامنًا مع صعود الحجيج إلى جبل عرفات، ويمكث فوق هذه الصخور الصماء حتى مغيب شمس ذلك اليوم؛ صادحًا بأعلى الصوت: لبيك اللهم لبيك.. تكتب له حجة صغرى».. إذًا فليكن الوقوف على حقيقة «الحجة الصغرى» شاغلنا الأكبر، وللنوم يوم آخر يقتص منا فيه.


عقارب الساعة كانت تشير عند مغادرتنا ضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي بعد رصدنا لما ذكرناه في الحلقة الأولى من: «طقوس فوق جبل حميثرة» إلى السادسة إلا الربع مساء الثامن من ذي الحجة، اليوم الذي يسبق موعدنا المضروب مسبقًا.. كانت قمة الجبل هي وجهتنا ولم نكن بحاجة إلى التشاور هل نصعد أم ننعم بقسط من الراحة قبل بزوغ فجر التاسع من ذي الحجة – وقفة حجيج الصوفية فوق جبل حميثرة - كما قيل لنا.


قبل الصعود أخرجنا جهازًا اصطحبناه خصيصًا لقياس المرتفعات الشاهقة، ثبتناه أسفل «جبل حميثرة» فُكتب على الشاشة الارتفاع: 297 مترًا، وهذا يعني أننا بصدد صعود قمة جبلية شاهقة الارتفاع رأيناها ذات طبيعة صخرية صعبة تطلبت منا الكثير من الحذر في صعود أشبه بالزحف، زاد من مشقته شمس حميثرة المحرقة وصيفها الذي شعرنا بأن درجة حرارته تجاوزت الـ 60 درجة مئوية.


الصعود إلى قمة «حميثرة» استغرق 45 دقيقة، 5 دقائق منها كانت كفيلة لبلوغ منتصف الجبل دون أي عناء عبر «مدق» ترابي مهدته ملايين الأقدام التي وطأته على مدى سنوات سابقة، و5 دقائق أخرى لتجاوز منحنى يساعد في الصعود سريعًا.. توقفنا قليلًا بعد تجاوزه لننظر من ارتفاع يقارب الـ 140 مترًا إلى قرية الشيخ أبي الحسن الشاذلي.


المشهد كان مبهجًا، 3 قمم جبلية وردية اللون يحتضن ضريحًا يجواره مسجد تتلألأ أنواره خاصة في النصف الثاني من الليل، وكأنه قطعة زبرجد يضيء بريقها غيابات جب عميق، ومنازل تعكس بساطتها طباع أهلها، وقلوب لبت نداء الحب في رحلة روحانية انفصلت خلالها عن العالم؛ ففي حميثرة لا مجال لاستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة لأن جميع الشبكات خارج نطاق التغطية.. أفقنا من غمرة الاندهاش من جمال هذا المشهد الخيالي على مشهد آخر أكثر جمالًا منه.


رجل في منتصف الأربعينيات من عمره يجلس بصحبة شيخ في ربيعه الثالث والستين، ولاحظا أننا ننظر إليهما باهتمام دعانا للجلوس معهما وأهدانا قطعتي حلوى مغلفتين بعبارة: «خدوا نفحة من سيدنا أبو الحسن»، الشيخ سألنا: «البهوات صحافة؟؛ فأجابنا: أيوه إحنا صحفيين يا عم الشيخ؛ فأردف: العمل عبادة وما دام وصلتوا هنا يبقا دخلتوا في زمرة الأحباب؛ قلنا: إيه السر اللي بيخليكم تتحملوا المشقة والمتاعب دي كلها عشان تيجوا تقعدوا فوق الجبل ده؟، فأجاب: السر في الحب؛ صحيح المحبوب ساكن في القلب بس الشوق بيخلي المحب دايمًا طمعان في اللقاء»، ثم أنشد رفيقه أبياتًا من الشعر بصوت عذب: «إن الأحبة في الفؤاد محلهم.. لكن عيني تشتهي أن تنظرا؛ يا ساكنين بمهجتي وديارهم.. شطت مزارًا من صعيد حميثرا؛ منوا سريعًا باللقاء وأسعفوا.. مضنى الفؤاد فأنتم أهل القرى».


حميمة الجلسة وبهجة ما كنا ننظر إليه من أعلى؛ شجعتنا لنسأل دون تردد: «هل بتعتقدوا إن المجيء إلى هذا المكان يعادل حجة صغرى؟»؛ ابتسم الشيخ وقال: «الحج لا يكون إلا لبيت الله الحرام في مكة المكرمة أما زيارة «حميثرة» فهي عادة وليست عبادة؛ قبل ما تنتقدوا وتمنعوا المحبين من الزيارة أبحثوا في كتب التاريخ وشوفوا لو ساحات الصوفية خرجت إرهابي واحد يبقى إحنا أصحاب بدع وخرافات؛ الصوفيين كل اللي شاغلهم الحب؛ بيفنوا حياتهم في البحث عنه ويوم ما يلاقوه بيدوروا على كل قلب اتحرم منه ويفرحوه بيه.. الحمد لله الذي وهبنا نعمة الحب».


تركنا الشيخ وتلميذه هائمين في عالم الحب، وأكملنا رحلة صعودنا إلى قمة «حميثرة»، وكان منتصف الجبل الأعلى أشد وعورة من الأسفل فالصخور الحادة متشابكة البروز تطل برءوسها من كل ناحية، وهو ما دعانا للتوقف كل 5 دقائق لالتقاط الأنفاس والحفاظ على إتزان أجسادنا لأن احتمالية الترنح تعني الموت.


في الطريق إلى القمة شاهدنا صاعدين كُثر لفت انتباهنا منهم شيخ طاعن في السن يتعلق بذراعه اليسرى شاب أنهكه المرض، وجعله وهو ابن الخامسة والعشرين ربيعًا أشد كهولة من الشيخين السابق واللاحق له واللذان تكبدا مهمة حمله إلى الصعود طلبًا للمدد والدعاء أن يكتب الله له الشفاء ببركة الشيخ الشاذلي، وحين قلنا لهما أن يرحما ضعف هذا الشاب ويكفيا أنفسهما مشقة عناء الصعود، ويدعو الله في أي مكان؛ غضبا وقالا بصوت واحد: «خليكم في حالكم.. الشيخ الشادلي قال الدعاء فوق جبل حميثرة مقبول؛ نكدب مولانا ونصدقكم إنتوا».


تركنا الثلاثة وشأنهم وأكملنا صعودنا إلى أعلى نقطة بـ«حميثرة»، وفي الطريق رأينا شيوخًا وشبابًا وأطفالًا وفتيات ونساء يشد بعضهم أزر بعض ميممين نحو الهدف المنشود، الذي عرفنا قبل صعودنا، إنه يتمثل في الوقوف أسفل لافتة معلقة فوق عامود ضرب أعلى قمة الجبل كتب فوقها بخط واضح: «جبل حميثرة».


الآن قطعنا 297 مترًا صعودًا، وكان هذا مؤشرا على وصولنا إلى قمة «جبل حميثرة» فتصاغر في عيوننا كل ما هو أدنى.. أسفل لافتة «جبل حميثرة»، وجدنا شابًا يقف ميممًا عيناه شطر ضريح الشيخ الشاذلي، وبعد طول صمت صرخ منشدًا: «يا برق قبل وصولنا لحميثرا.. بلغ سلام العشاقين معطرا؛ واشرح لهم حالي وطول تلهفي.. ومدامعي تجري عقيقًا أحمرا؛ يا شاذلي يا شاذلي يا أبا الحسن.. عطفًا على حالي الضعيف المبتلى».


على مقربة من لافتة «جبل حميثرة» وفوق صخور حادة، جلس «سعيد» ذلك المريد القادم من محافظة قنا - كما أنبئنا غيره – متدثرًا بالصمت هائمًا بروحه وفؤاده في دنيا أخرى؛ غير عابئ بما حوله من ضجيج، وحين أردنا الاقتراب منه منعنا أحد الموجودين قائلًا: «بلاش.. ده واحد من المحبين محرم على نفسه الكلام مع أي حد».


لفت انتباهنا أثناء تواجدنا فوق «جبل حميثرة»، مسارعة المريدين - عقب قراءتهم للفاتحة والدعاء - إلى جمع الأحجار صغيرة الحجم، وهو ما استحضر في ذاكرتنا تلك العبارة التي دلل بها من يقولون إن المتصوفة يعدون الصعود إلى «حميثرة» بمثابة حجة صغرى: «هتلاقوهم بيجمعوا الحصى عشان يجسدوا شعيرة رمي الجمرات السبعة».


تتبعنا جامعي الأحجار منتظرين رؤية أي شيطان ذلك الذي سيرجموه؛ ولكننا وجدناهم يشيدون بيوتًا يسمون الواحد منها «بيت الحب»، الذي وصفه لنا «بهاء» بقوله: «كل مريد بيصعد «جبل حميثرة» لازم يبني بيت ويسكن جواه قلبه؛ عشان لما يغادر بجسده المكان يفضل قلبه بجوار سيدنا أبو الحسن؛ وإحنا بنمسيه بيت الحب، وكل اللي بيبنيه ربنا بيكتبله زيارة تانية لحميثرا في السنة اللي بعدها».


أدركنا في هذه اللحظات أذان مغرب يوم الثامن من ذي الحجة، فسارع كثير من المريدين بالنزول من الجبل ليؤدوا الصلاة في مسجد الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وفضل البعض الآخر إقامتها فوق قمة «حميثرة».


تفرقت جماعات المصلين فوق «جبل حميثرة» لأكثر من واحدة، بينما ظل كثير من الموجودين على حالهم غير عابئين بمن يصلون، وكل ما كان يشغلهم هو التحلق حول لافتة «جبل حميثرة»


فوق «جبل حميثرة» جلس كثير من المريدين متجاورين فرادى وجماعات، بعضهم يتبادل أطراف الحديث، والبعض الآخر ينشد الأشعار والمدائح النبوية، وغيرهم بدا من ملامحه انشغال بما أسر القلب وعجز اللسان عن الإفصاح به؛ ونحن نرقب الجميع غير أننا كنا على شغف لسماع أحد المريدين وهو يردد «لبيك اللهم لبيك» - كما قيل لنا - فلم يرد إلى مسامعنا شيء؛ فقلنا ربما تكون التلبية موقوفة على يوم التاسع من ذي الحجة وإن غدًا لناظره قريب.


غابت شمس الثامن من ذي الحجة عن سماء «حميثرة»، وما زال كثير من المريدين ماكثين فوق الجبل، ولكننا آثرنا النزول لتوثيق ما يحدث داخل الساحات والتحدث مع أشياخ الطرق الصوفية الموجودين بها.


في طريق نزولنا من «جبل حميثرة»، أوقفنا صوت شجي لشاب وقف ممسكًا بدف وهو ينشد أبياتًا من بردة الإمام البوصيري تقول: «أيحسب الصب أن الحب منكتم.. ما بين منسجم منه ومضطرم؛ لولا الهوى لم ترق دمعًا على طلل.. ولا أرقت لذكر البان والعلم؛ فكيف تنكر حبًا بعدما شهدت.. به عليك عدول الدمع والسقم؛ وأثبت الوجد خطي عبرة وضنى.. مثل البهار على خديك والعنم؛ نعم سرى طيف من أهوى فأرقني.. والحب يعترض اللذات بالألم».

كنا نود الجلوس للاستمتاع بهذا الصوت العذب ولكننا خشينا أن يداهمنا الوقت فتركناه وحيدًا كما لقيناه؛ وأكملنا طريقنا متوجهين إلى الساحات لنوثق ما يحدث بداخلها، ونرصد خروج «المحمل» من أمام مسجد أبي الحسن الشاذلي فجر التاسع من ذي الحجة ونحر الذبائح ثم الصعود إلى «حميثرة» تزامنًا مع وقوف حجيج بيت الله الحرام بمكة المكرمة فوق جبل عرفات، وهذا ما سننشره غدًا في الحلقة الثالثة من: «طقوس فوق جبل حميثرة».
الجريدة الرسمية