بالصور.. «فيتو» «طقوس فوق جبل حميثرة» (1) : 700 ألف زائر توافدوا إلى ضريح «الشاذلي».. المريدون يهتفون: «شاذلي يا أبوالحسن».. ومشايخ الطرق: «نحمل رسائل محبة
في الأول من ذي الحجة وحتى التاسع من ذات الشهر في كل عام، يتوافد مئات الألوف من أبناء الطرق الصوفية في مصر وخارجها، إلى جبل «حميثرة» بصحراء عيذاب التابعة لمحافظة البحرالأحمر، للاحتفال بما يسمونه «الزيارة العامة» لضريح القطب الصوفي الكبير الإمام أبي الحسن الشاذلي، إحياءً لذكرى وفاته في هذا المكان وهو في طريقه لأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة.
«فيتو» توثق من خلال مجموعة حلقات بعنوان: «طقوس فوق جبل حميثرة»، الطريق الذي يسلكه أبناء الطرق الصوفية منذ خروجهم من محافظات مصر المختلفة والدول الأخرى، وصولًا إلى قرية الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وما يتكبدونه من مشاق ومخاطر تصل في بعض الأحيان إلى الموت، وما يأتون به من طقوس وأفعال على مدى 9 أيام هي مدة احتفالهم بـ «الزيارة العامة» لضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وحقيقة اعتقادهم بأن الصعود إلى جبل حميثرة يعادل «حجة صغرى».
الطريق إلى قرية الشيخ أبي الحسن الشاذلي، حيث يقع جبل حميثرة وضريح القطب الصوفي الكبير.. معبد بالمشاق ومليء بالمخاطر؛ 15 ساعة قضيناها منذ خروجنا من القاهرة وصولًا إلى هناك، منها 3 ساعات تكبدنا خلالها مخاوف السير في جوف صحراء جرداء خالية من أي مظاهر للحياة باستثناء بضعة أشجار تشبثت بالحياة في قلب الصحراء، و3 قطعان من الإبل والأغنام والماعز يسوقها رعاة رحل يهيمون على وجوههم بحثًا عن المراعي العامرة بالكلأ.
البداية الفعلية لرحلتنا كانت بعد 12 ساعة من انطلاقنا، حين وصلنا إلى منطقة يقال لها «سيدي سالم» تبعد قرابة الـ 60 كيلو مترًا عن سواحل البحر الأحمر، وتقع في الطريق الواصل بين مدينتي مرسى علم، وإدفو التابعة لأسوان، ويعتبر المريدون هذه المنطقة نقطة الانطلاق إلى مقام الولي الكبير أبي الحسن الشاذلي، نظرًا لكونها مركز تجمع الوافدين من مختلف محافظات مصر والدول الأخرى.
«محمود العبادي» الدليل الذي رافقنا خلال رحلتنا، أكد لنا أن سيارات القادمين من محافظات الدلتا عبر الطريق الموازي للبحر الأحمر نزولًا لقلب الصحراء من ناحية مرسى علم، والوافدين من عمق الوادي والصعيد عبر الطريق الغربي لمدينة إدفو، يتجمعون عند منطقة «سيدي سالم» لعدة أهداف أهمها زيارة ضريح هذا الولي والتبرك منه قبل الانطلاق إلى جبل حميثرة.
والهدف الثاني التقاط الأنفاس والمكوث قليلًا في «سيدي سالم» لتناول المأكولات والمشروبات، وإعادة ترتيب الأمتعة المحمولة فوق السيارات فيما يشبه الخيام المتنقلة، قبل قطع المسافة المتبقية للوصل إلى مقام الشيخ الشاذلي، والبالغة نحو 220 كيلو مترًا.
استغرقت رحلتنا من سيدي سالم وصولًا إلى قرية الشيخ الشاذلي، قرابة الـ 3 ساعات، والبعض أخبرنا أنهم قطعوها في 4 ساعات نظرًا لصعوبة الطريق الذي ضربت على جانبيه بعض أعمدة إنارة فقدناها بعد عدة أمتار بمجرد سيرنا في طريق صحراوي لم نر خلال قطعنا إياه سوى جبال عالية؛ وردية اللون.
لم يقطع صمت الصحراء الموحش خلال طريقنا من سيدي سالم إلى قرية الشيخ الشاذلي، سوى ثغاء قطيع صغير من الماعز الباحثة عن الكلأ أمام 15 بيتًا، هي قوام قرية تسمى «حفافير» يسكنها أبناء قبيلة «العبابدة» الذين يطلق عليهم «ملوك الصحراء» من شدة إتقانهم التجول داخل الأودية والسهول هناك.
توقفنا قليلًا لمشاهدة منازل أو بالأدق «خيام» قرية حفافير، التي بنى بعضها من الحجر والأخرى من الخشب وجلود الماعز والأغنام والإبل، وقاطنوها يفتقدون لأي خدمات أساسية ويعيشون على لحوم وألبان ماشيتهم - حسب ما أكده لنا مرافقنا خلال هذه الرحلة - ويجلبون الماء من بئر صغيرة نبعت بالقرب منهم.
قرية حفافير خالية في جوف النهار من الرجال، لأنهم يسوقون قطعان ماشيتهم مع ظهور الخيط الأبيض من الفجر إلى الصحراء بحثًا عن أماكن غنية بالكلأ، والنساء فقط هن من يستظللن بأسقف الخيام لذلك حين أردنا الاقتراب منها منعنا الدليل الذي كان يرافقنا، مؤكدًا أن عادات قبائل العبابدة تحظر تواجد الغرباء أثناء غياب الرجال وأن كل من تسول له نفسه الاقتراب يتعرض لعقاب رادع لأنه في أعراف العرب يكون من المعتدين على حرمة النساء.
«محمود العبادي» أكد لنا أنه قبل تعبيد ورصف الـ 220 كيلو مترًا الواصلة من سيدي سالم وحتى قرية الشيخ الشاذلي، كان الطريق عبارة عن «مدق جبلي» يتعرض خلال السير فيه كثير من الراغبين في زيارة ضريح القطب الصوفي الشهير لخطر التيه في قلب الصحراء، وهناك المئات ممن لقوا حتفهم خلال سنوات سابقة تأثرًا بالعطش والجوع؛ بالإضافة إلى كثرة حوادث السير التي كانت تحصد أرواح العشرات من الضحايا، وهو ما تغلبت عليه محافظة البحر الأحمر بإنشاء نقطة للإسعاف ومسجد صغير شاهدناهما بجوار قرية «حفافير»، حتى يسهل إنقاذ كل من يتعرض للخطر في هذا الطريق.
بعد قطعنا لهذه الرحلة الشاقة وصلنا في النهاية إلى قرية الشيخ الشاذلي، التي يرجع الفضل في إنشائها إلى شيخ الأزهر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود، حين طلب من الرئيس الراحل محمد أنور السادات إعمار المنطقة المحيطة بمرقد «الشاذلي»، وهو ما استجاب له السادات بتشييد هذه القرية وتوطين أبناء قبيلة «العبابدة» الرحل فيها.
أول ما رصدناه هناك هو هتاف المريدين بمجرد وصولهم إلى قرية الشيخ الشاذلي، وهم يطوفون بسياراتهم الميدان الواقع أمام المسجد والضريح «شاذلي يا أبو الحسن»، ولا نعرف إن كان هذا الهتاف تعبيرًا عن فرحة سلامة الوصول إلى المكان أم أنه تحية وسلام يهدونه إلى «ساكن حميثرة».
بعد الانتهاء من الطواف بالسيارات والهتاف باسم الشيخ أبي الحسن الشاذلي، يتوافد المريدون لزيارة ضريح القطب الصوفي الكبير، ويقفون أمام المقام في تأدب وخشوع، ليخرج كل واحد منهم ما يخفيه في مكنون قلبه من أشواق ورسائل وأمنيات.
أثناء تواجدنا داخل ضريح الإمام أبي الحسن الشاذلي، شاهدنا أكثر الزائرين يلقون بعملات نقدية ذات فئات متعددة، خلف السور الزجاجي الذي يحول بين المريدين وبين قبر «الشاذلي» وعرفنا أنهم يهدونها إلى شيخهم إما وفاءً لنذر، أو طمعًا في تحقيق أمنية أسرها المحب لمحبوبه قبل أن يلقي بالنقود، أو مساهمة في توفير النفقات الباهظة التي يتطلبها توفير المزيد من الخدمات الأساسية لهذا المكان الذي سرت الحياة فيه بفضل تكاتف أشياخ الطرق الصوفية من مصر وخارجها دون تحميل الدولة أي مصروفات.
داخل ضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي، شاهدنا أيضًا مريدين يقومون بتعطير المكان بـ«البخور»، وحين سألناهم عن السر وراء ما يفعلون، أكدوا لنا أن هذه هي مهمتهم الرئيسية التي جاءوا من أجل إنجازها طوال أيام الزيارة التسعة، موضحين أن البعض منهم يقوم بهذا تطوعًا منه، والبعض الآخر يفعلها نزولًا على رغبة شيخه في الطريق.
اعترض طريقنا أيضًا داخل ضريح الإمام أبي الحسن الشاذلي، مدعي لـ «الدروشة» طلب منا بمجرد رؤيته للكاميرا التقاط الصور التذكارية له، والثناء عليه بكلمات من قبيل: خادم الأحباب وتلميذ الشيخ عالي الجناب وغيرها، قبل أن يطلب منا «نفحة للشيخ»؛ وحين أجبناه بـ «خلي الشيخ يقولنا وإحنا نديك النفحة»، نظر إلينا بغضب ثم انصرف.
هممنا بالانصراف من ضريح الإمام أبي الحسن الشاذلي، لتوثيق ما يحدث بالخارج فأوقفتنا كلمات تواردت إلى آذاننا يقول صاحبها بصوت مسموع للجميع: «روحي في حانة البعد كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهى نائبتي.. وهذه دولة الأشباح قد حضرت فأمدد يمينك كي تحظى بها شفتي».
كان صاحبا الصوت توأمين في ربيعهما الخامس والعشرين، أحدهما يكتسي معصمه الأيمن بشارة خضراء تدل على انتسابه للطريقة البرهانية، والآخر ينتسب إلى الطريقة الشاذلية؛ جلسنا مرة أخرى داخل المقام لنرقب فعلهما فلاحظنا أنهما يمدان أيديهما فوق زجاج المقصورة وكأنهما يصافحان الشيخ أبي الحسن الشاذلي، مع كل مرة يرددان فيها هذا البيت الذي أنشده الإمام أحمد الرفاعي عند زيارته للحرم النبوي.
بعد طول انتظار فرغ التوأمين من طقوسهما وجلسا في زاوية من ضريح الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وبدت على وجهيهما علامات النشوة والسعادة وكأن رجائهما قد أجيب، وهو ما شجعنا على الاقتراب منهما وسؤالهما عما كان يفعلان، فقالا لنا: «استلهمنا هذه الكلمات من الإمام الرفاعي لنعبر بها عما يجيش داخل قلبينا من أشواق ومحبة للشيخ الشاذلي»، وأكدا أنهما يعلمان أن المدد والنفع والضرر من عند الله وأن التوسل يجوز إذا كان بأعمال الولي الصالحة أما ما دون ذلك فهو شرك.
هممنا مرة ثانية للانصراف من الضريح ولكننا توقفنا بعد أن سمعنا إحدى السيدات تخاطب الشيخ أبي الحسن الشاذلي بقولها: «أنا جيتلك أهو يا سيدي ووفيت بنذري يالا بقا حقق ليا اللي نفسي فيه من زمان».. سألناها: هو الشيخ سامعك؟؛ فأجابت: «من القلب للقلب رسول.. الأحباب مش محتاجين جسم فانٍ عشان يسمعوا بعض.. قلوبهم بتتكلم وأرواحهم بتجاوب»، فقلنا: طيب إيه هو اللي نفسك فيه؟؛ قالت: «يبعت عريس لبنتي اللي قربت تعنس»؛ فقلنا بتهكم: يعني أنتِ فاكرة إن الشيخ هيسيب كل اللي وراه ويشتغل خاطبة لبنتك؟
وهنا أدركنا أننا أقترفنا جرمًا كاد يكلفنا الكثير خاصة حين صرخت السيدة في وجوهنا: «أنتوا باين عليكم إرهابيين من اللي بيقولوا زيارة أسيادنا حرام»، ولم يتدارك الأمر سوى أحد شياخ الطرق الصوفية الكبار الذي احتوى الموقف، وقال لنا وهو يخرجنا من الضريح بسلام: «لا يجوز الحكم على العوام بالظاهر.. ما دامت النوايا صالحة فالخير دومًا منتظر ومأمول.. الله جعل محط نظره إلينا القلوب وهو وحده العليم بما يعتقد أصحابها.. ما تشاهدونه هي أجواء دينية مفعمة بمشاعر روحانية وصفاء نفسي نابع من قصص العشق الإلهي التي اشتهر بها الإمام أبي الحسن الشاذلي وهو عالم كبير ومجاهد أفنى حياته في سبيل الله.. أنقلوا عنا للعالم أجمع: إن كل صوفي يحمل بين طيات قلبه رسائل محبة وسلام للإنسانية جمعاء دون تفرقة على أساس لون أو جنس أو دين».
وعلى صدى هذه الكلمات الطيبة انصرفنا من داخل ضريح الإمام أبي الحسن الشاذلي وصعدنا إلى جبل حميثرة لنوثق ما يحدث فوقه، ونقف على حقيقة: هل يعتبر الصوفيون الصعود إلى هذا الجبل بمثابة حجة صغرى أم أن ما يتردد في هذا السياق مجرد شائعات؟، وهذا ما سننشره غدًا في الحلقة الثانية من: «طقوس فوق جبل حميثرة».