رئيس التحرير
عصام كامل

الإبداع في إنقاذ الاقتصاد الوطني


انطلقت قمة العشرين من الصين وبمشاركة مصر كضيف شرف، ولعل أهم المحاور التي تناولتها القمة الإبداع في أنماط النمو الاقتصادي، وهو ما لفت نظري أن الدول العشرين الأكثر ثراء تجتمع من أجل شحذ طاقاتها نحو النمو الاقتصادي باستخدام آلية الإبداع.. وبالطبع هو كلام معقد على التنفيذيين والاقتصاديين خاصة في المجموعة الاقتصادية لحكومة إسماعيل شريف، واللجنة الاقتصادية في البرلمان الذين يرون أن المخرج للنمو الاقتصادي هو قرض أو اكتشاف بترولي أو ضرائب جديدة ولم يتوقعوا أن الإبداع هو وقود التنمية، كما تراه دول العشرين الأكثر تطورا وثراء رغم أننا الأولى في البحث عن حلول استثنائية نحو الاقتصاد والإدارة الحكومية.


تمر مصر بأزمات اقتصادية متلاحقة وإدارية تكبد الدولة وتهز أرجاءها، وبدون الخوض في ملف الفساد الذي يئن منه الرئيس السيسي نحو الإصلاح ولكننا سنتحدث عن الفكر الإداري.. ففي كل أزمة مرة يتكرر نفس السيناريو بتضخم الأزمة.. بلا إدارة أزمة ولا يرجع متخذو القرار لحلول تقليدية مستنسخة سبق توثيقها أو حلول ابتكارية مستحدثة.. في حالة من الفكر الإداري العقيم للأجهزة التنفيذية مع فقد محددات التخطيط الإستراتيجي وتقييم الأداء.. كل هذا يشكل منظومة مناوئة لمكتسبات ثورة يونيو.


"الإبداع هو أغلي وقود على الأرض".. هذه المقولة هي إستراتيجية شركة بي إم دبليو لإنتاج سيارة ثمنها مليون دولار باستخدام حديد وبلاستيك وجلود ثمنها كمواد أولية لا تتعدي ثلاثة آلاف دولار.


اليوم تعتمد المنظومة الاقتصادية الغربية الثرية على إبداع الفكرة وليس على الاختراع لأن تنفيذ أو اختراع أي فكرة أصبح سهلا قابلا للتحقيق ولكن الأهم الفكرة الإبداعية التي تحقق الطفرات الربحية ويتولي مهمة تصنيعها وتنفيذها الشرق الفقير لذا سميت الصين مصنع العالم بعمالتها الفقيرة، واعتمد الغرب على نظام تعليمي يُنشئ المبدعين واستطاع أن يجعل باقي العالم يلهث خلف تعليم التلقين والحفظ بلا مبدعين لضمان تفوق الغرب بصورة واضحة حتى يستمر العالم الأول والعالم الثالث كلّ في موقعه.. 


أما الشرق الأوسط فللأسف هناك دول وجدت الكنز (البترول) وبلا إنتاج حضاري نحو الحضارة الإنسانية ورغم الثراء فإن الغرب والشرق يراهم عالة لا نفع منهم ونحن في مصر تأثرنا بتقليد هذا النموذج بأن النمو يتحقق من استهلاك الموارد بدافع الجوار الجغرافي وتوافد العمالة، وهذه العدوي طبيعية تاريخيا وجغرافيا في شتي أنحاء الحقب التاريخية.. ولكننا للأسف لا نملك الكنز الطبيعي ولم ندرك أن التقدم بالإبداع وهذه هي مشكلتنا حكومة وبرلمان، ثم شعب رغم أنه لا بديل أمامنا عن الإبداع كطريق نحو التنمية، أما الكنوز أو القروض فهي فانية لأن الحكمة الإلهية أن الإبداع هو ما ميز الإنسان عن الحيوان وليس الكنز.


ركز العلماء في النصف الأول على الذكاء البشري ولكنهم أعادوا التفكير في أن الإبداع هو وقود التقدم وربطوا بين الإبداع الإداري ومفهوم القيادة لتحقيق الإبداع وهو ما يميز الرئيس السيسي كبطل شعبي قاد ثورة ضد الإخوان لذا فالمقومات واضحة ولكني أعتقد أن هناك مقاومة ممنهجة في مستويات أدنى نحو تحقيق التغيير والإصلاح.


إن اقتصاديات الإبداع تفوق بمراحل اقتصاديات البترول، استهلاك الموارد الطبيعية بل إن إبداع خطوط الأزياء فقط هو أقوي وأكثر ثباتا من سعر برميل النفط.. ولن أنسي في زيارتي الأخيرة لدبي كيف تمردت الإمارة الوليدة على جيرانها واعتبرت الإبداع هو هدفها نحو الحضارة الإنسانية وليس استهلاك الموارد الطبيعية فكان شعار الإمارة "دبي تبتكر"... دبي نموذج شرق أوسطي متمرد نحو الحضارة ورغم ما نمر به من تحديات تهدد بقاء الوطن فما زال هناك من يقاوم التغيير.


إننا نمتلك من الموروث الحضاري ما يؤهلنا لاقتناص ثقافة الغرب في إبداع الحضارة وبثها في الشرق الأوسط كما كان دور مصر على مر التاريخ، وأدلل عن هذه الفكرة بالمشروع الذي انطلق سنة ٢٠٠٨ ثم تم وأده وهو "الاتحاد من أجل المتوسط" حيث كان القطب الأوروبي هو فرنسا والقطب الأفريقي الآسيوي هو مصر تطبيقا لإستراتيجية فرنسا بأن مستقبلها هو التوجه جنوبا وأعتقد أن مستقبل مصر بالتوجه شمالا لإدراك منظومة إنتاج الإبداع بدلا من ثقافة استهلاك الموارد التي تنتهجها دول الجوار.


وبعيدا عن الإبداع العلمي والفني والمعماري سنتحدث عن إطلاق العنان للإبداع في المنظومة الإدارية والاقتصاد الوطني لأنهم المحك لبقاء الوطن من عدمه في المواجهة مع منظومة الرجعية.


الحل في بناء مؤسسات الدولة ثم بناء المنظومة الاقتصادية من خلال إدارة علمية تعتمد الإبداع منهجا لمواجهة التحديات، وتعيد هيكلة مؤسسات الدولة، أما علماء الإدارة اتفقوا أن الإبداع هو السر السحري لعلوم الإدارة واتخاذ القرار ولعل أهم ما استهواني في مضمار البحث العلمي هو علم value engineering وهو منهج علمي يهتم بالإبداع لصناعة الحلول الابتكارية وتقييمها ومقارنتها وإمكانية تنفيذها بهدف الوصول إلى النتائج باختصار المجهود والمال والوقت في نطاق المشروعات.. 


وقد برع المهندسون الأمريكيون في تقديم حلول تعتمد على الإبداع وإدارتها لتأكيد الريادة الأمريكية الإبداعية لتحقيق التفوق النوعي على دول العالم وقد تطرق هذا العلم لآليات اختيار فريق العصف الذهني brain storming ومن هم المناسبون وخلفياتهم المتنوعة وقدرتهم على التخيل، أيضا هناك معايير لقائد الفريق والملفت أن الفريق قد يحتوي على أعضاء من خارج التخصص للخروج من ثوابت اعتاد عليها أصحاب الخبرات التقليدية.


وقبل الإبداع هناك أساسيات العلوم التقليدية مثل علم إدارة الأزمات ثم نتحدث عن الإبداع فكانت أفلام هوليود الخيالية التي تتحول بعد زمن إلى وقائع وحلول استثنائية لإدارة الأزمات، هي أشد دليل على اعتماد الإدارة الأمريكية على الإبداع والخيال العلمي لتشكيل الأحداث وإدارة الأزمات بإبداع أيضا في تسويق النموذج الأمريكي بدءا من سوبرمان إلى المدمر ( ارنولد شوازنجر حاكم كاليفورنيا)، وهذا هو قمة الإبداع في استخدام القوة الناعمة لبناء إمبراطورية تحكم العالم.. ورغم كل شيء لنا في مصر أحد ملاحم الإبداع فكانت خطة حرب أكتوبر خير مثال على تطبيق الإبداع لإيجاد حلول إبداعية غير متوقعة لقهر خط بارليف الأسطورة بضغط المياه... أيضا إبداع الشعب السياسي في تمكين الإخوان ثم إسقاطهم حفاظا على الدولة يندرج تحت عنوان عبقرية وإبداع الشعب المصري لأن الثورة هي إبداع الجماهير.. ولكننا للأسف لا نصنع معجزاتنا وإبداعاتنا إلا تحت ضغط.

أما في علم إدارة الأزمة فإن عزل الأزمة لضمان عدم تضخمها واستدعاء الحلول التقليدية المجربة هي أحد أهم الأساليب للحل.. ولكننا اليوم يخرج علينا إبداع الحل غير التقليدي من خلال الأسلوب الأكثر تعقيدا "إذا كانت المشكلة غير قابلة للحل.. فضخمها" مقولة لدوايت أيزنهاور وهنا نجد الاحترافية في إبداع الحل من قلب الأزمة وعلي الجانب الآخر نجد أسوأ أساليب إدارة الأزمات الإدارية والاقتصادية في مصر فلا هذا ولا ذاك...والتي لا تعتمد إلا على منهج الصدفة والستر.

أما التخطيط الإستراتيجي العلمي وإطلاق العنان بالأفكار الإبداعية لأقصى استغلال للموارد ثم تقييم الأداء المستمر أحد أهم الأدوات التي تفتقدها الوزارات المصرية لتحقيق الأهداف ومتابعتها إن وجدت وأهمها الإصلاح الاقتصادي المنشود من خلال خطط وبرامج زمنية تتمتع بالشفافية لجذب الاستثمار الأجنبي.

لقد استطاعت اليابان الدولة الفقيرة في الموارد أن تعتمد الإبداع منهجا نحو التطور ودمجه بثقافتها الشرقية المحافظة لتحقيق التنمية الوطنية ومنافسة الغرب، ومن سخرية القدر أن وفدا يابانيا زار مصر سنة ١٨٦٢ لدراسة تجربة محمد على في بناء مصر الحديثة لتطبيقها في اليابان فهل نتحرك نحن اليوم نحو اليابان لدراسة تجربتهم الحضارية؟!

من أجل مصر وثورة يونيو يجب أن يتخذ مُتَّخِذو القرار قرارا نحو أصحاب الأيدي المرتعشة والأفكار العتيقة ( القيادة والإبداع) فلن ولم يحققوا أي نجاح في الأوقات الحرجة التي يمر بها الوطن وأن الخروج من عنق الزجاجة لن يكون بهؤلاء الباحثين عن كنز ما أو قرض مزعوم.. إنما بالعلم والإدارة وأصحاب الرؤي الإبداعية المخلصين نحو الوطن لتحقيق طفرة بذات الموارد والإمكانيات كما حققها الغرب وأشعر أن التدهور الإداري في الفكر الحكومي وإدارة الاقتصاد هو مؤامرة منظمة ضد بقاء الدولة أكثر منه فعل عشوائي يسوقها منظومة الفساد والرجعية وقوي الاحتكار لضمان بقاء مصر فريسة منبطحة بعيدة عن ثقافة التطور والتقدم.


تحدثنا في هذا المقال عن الإبداع كمنهج إداري وتحدثنا في مقال سابق عن الإبداع المعماري كمثال في التنمية، وتسويق المشروع الوطني للدولة ومازلت مؤمنا أننا نستطيع.. ورغم كل محاولات تحطيم الروح المعنوية الوطنية لثورة ٣٠ يونيو فإن هناك ما يدفعني للإيمان بأن قدر مصر هو أن تكون مصر العظمي وأن هناك حلا إبداعيا ثوريا غير متوقع للخروج من الأزمة وهي ليست أزمة إدارية واقتصادية فقط وإنما هي أكبر من ذلك إنها أزمة بقاء.
وللحديث بقية...
الجريدة الرسمية