رئيس التحرير
عصام كامل

وصية الشيخ «عبدالعزيز بن باز» للحجاج

فيتو

قدم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز*، نصيحة جامعة لحجاج بيت الله الحرام قال فيها:


"أيها المسلمون من حجاج بيت الله الحرام.. إن وصيتي للجميع هي تقوى الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال والاستقامة على دينه والحذر من أسباب غضبه, وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات هو توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات مع العناية باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال.. وأداء مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. وإن أعظم المنكرات وأخطر الجرائم هو الشرك بالله سبحانه وهو صرف العبادة أو بعضها لغيره سبحانه لقول الله عز وجل: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). وقوله سبحانه يخاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)"".

 

وتابع: 

"حجاج بيت الله الحرام.. إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع وذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم. وقد علم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله .. وقال لهم صلى الله عليه وسلم .. خذوا عني مناسككم فالواجب على المسلمين جميعاً أن يتأسوا به في ذلك وأن يؤدوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم لأنه صلى الله عليه وسلم هو المعلم المرشد وقد بعثه الله رحمة للعالمين ، وحجة على العباد أجمعين. فأمر الله عباده بأن يطيعوه وبين أن اتباعه هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه وعلى حب الله للعبد كما قال الله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)... وقال سبحانه: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون). وقال سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)""..


وقال سبحانه: "(ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين).. وقال عز وجل: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون). وقال تعالى... (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)".. والآيات في هذا المعنى كثيرة.

 

فوصيتي لكم جميعاً ولأنفسنا تقوى الله في جميع الأحوال والصدق في متابعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.. في أقواله وأفعاله لتفوزوا بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.

 

حجاج بيت الله الحرام.. "إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجه من مكة المكرمة إلى منى ملبياً ، وأمر أصحابه رضي الله عنهم أن يهلوا بالحج من منازلهم ويتوجهوا إلى منى ولم يأمر بطواف الوداع ، فدل ذلك على أن السنة لمن أراد الحج من أهل مكة وغيرهم من المقيمين فيها ومن المحلين من عمرتهم وغيرهم من الحجاج أن يتوجهوا إلى منى في اليوم الثامن ملبين بالحج، وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع".

 

ويستحب للمسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يفعله في الميقات عند الإحرام من الغسل والطيب والتنظف ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بذلك لما أرادت الإحرام بالحج وكانت قد أحرمت بالعمرة فأصابها الحيض عند دخول مكة، وتعذر عليها الطواف قبل خروجها إلى منى، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتهل بالحج، ففعلت ذلك ، فصارت قارنة بين الحج والعمرة..

 

"وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً دون جمع، وهذا هو السنة تأسياً به صلى الله عليه وسلم، ويسن للحجاج في هذه الرحلة أن يشتغلوا بالتلبية وبذكر الله عز وجل وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير كالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الفقراء".

 

وواصل سماحته:

"فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى عرفات منهم من يلبي ومنهم من يكبر، فلما وصل عرفات ، نزل بقبة من شعر ضربت له هناك، واستظل بها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على جواز أن يستظل الحجاج بالخيام والشجر ونحوها".

 

لما زالت الشمس ركب دابته عليه الصلاة والسلام وخطب الناس وذكرهم وعلمهم مناسك حجهم، وحذرهم من الربا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام، وأمرهم بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم ، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ماداموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فالواجب على جميع المسلمين وغيرهم أن يلتزموا بهذه الوصية، وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حكام المسلمين جميعاً أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأن يحكموهما في جميع شؤونهم، وأن يلزموا شعوبهم بالتحاكم إليها، وذلك هو طريق العزة والكرامة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع لذلك، ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلَّى بالناس الظهر والعصر قصراً وجمعاً جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين ، ثم توجه إلى الموقف واستقبل القبلة وقف على دابته يذكر الله ويدعوه ويرفع يديه بالدعاء حتى غابت الشمس، وكان مفطراً ذلك اليوم فعلم بذلكأن المشروع للحاجاج أن يفعلوا كفعله صلى الله عليه وسلم في عرفات ، وأن يشتغلوا بذكر الله والدعاء والتلبية إلى غروب الشمس، وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء، وأن يكونوا مفطرين لا صائمين، وقد صح عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((ما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفه وإنه سبحانه ليدنوا فيباهي بهم ملائكته)). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن الله يقول يوم عرفة لملائكته : ((انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً يرجون رحمتي أشهدكم أني قد غفرت لهم)) وصح عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)).

 

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغروب توجه ملبياً إلى مزدلفة وصلى بها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين، بآذان واحد وإقامتين، ثم بات بها وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة، ثم أتى المشعر فذكر الله عنده وكبره وهلله ودعا ورفع يديه وقال: ((وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)). فدل ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحاجاج، يبيت كل حاج في مكانه، ويذكر الله ويستغفره في مكانه ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل فدل ذلك على أنه لا حرج على الضفعة من النساء والمرضى والشيوخ ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل عملاً بالرخصة، وحذراً من مشقة الزحمة، ويجز لهم أن يرموا الجمرة ليلاً كما ثبت عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. وذكرت أساء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن للنساء بذلك، ثم إنه صلى الله عليه وسلم، بعدما أسفر جداً دفع إلى منى ملبياً فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم طيبته عائشة رضيالله عنها، ثم توجه إلى البيت فطاف به.. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي، ومن حلق قبل أن يذبح، ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فقال.. لا حرج.

 

قال الراوي فما سئل يومئذ عن شئ قدم ولا أخر إلا قال .. ((أفعل ولا حرج)) وسأله رجل فقال يا رسول الله سعيت قلل أن أطوف فقال.. ((لا حرج)) فعلم بهذا أن السنة للحجاج أن يبدءوا برمي الجمرة يوم العيد ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي ثم يحلقوا أو يقصروا.

 

والحلق أفضل من التقصير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين ، ومرة واحجة للمقصرين.. وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول فيلبس المخيط ويتطيب ويباح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده .. ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً وبذل يحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء. أما إن كان الحاج مفرداً أو قارناً فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القدوم. فإن لم يسع مع طواف القدوم وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة. ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فأقام بها بقية يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال يرمي كل جمرة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من الجمرة الأولى والثانية ويجعل الأولى عن يساره حين الدعاء، والثانية عن يمينه ولا يقف عن الثالثة.. ثم دفع صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات فنزل بالأبطح وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

 

ثم نزل إلى مكة في آخر الليل وصلى الفجر بالناس عليه الصلاة والسلام وطاف للوداع ثم توجه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.

 

فعلم من ذلك أن السنة للحاج أن يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم، في أيام منى فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في كل يوم، كل واحدة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رمية الجمرة الأولى ويستقبل القبلة ويدعو، يرفع يديه، ويجعلها عن يساره، ويقف بعد رمي الثانية كذلك ويجعلها عن يمينه وهذا مستحب وليس بواجب، ولا يقف بعد رمي الثالثة .. فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل في أصح قولي العلماء رحمة من الله سبحانه بعباده وتوسعة عليهم، ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا بأس، ومن أحب أن يتأخر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفضل لكونه موافقاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .. والسنة للحاج أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، وهذا المبيت واجب عن كثير من أهل العلم ويكفي أكثر الليل إذا تيسر ذلك ومن كان له عذر شرعي كالسعاة والراعة ونحوهم فلا مبيت عليه.. أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحجاج أن يبيتوها بمنى إذا تعجلوا ونفروا من منى قبل الغروب.. أما من أدركه المبيت بمنى فإنه يبيت ليلة الثالث عشر ويرمي الجمار بعد الزوال يوم الثالث عشر، ثم ينفر وليس على أحد رمي بعد الثالث عشر ولو أقام بمنى.

 

ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت للوادع سبعة اشواط، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا ينفر أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت)). إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.

 

ومن أخر طواف الإفاضة فطاف عند السفر أجزأه عن الوداع لعموم الحديثين المذكورين وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه وأن يتقبل منا ومنكم ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


*الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

الجريدة الرسمية