رئيس التحرير
عصام كامل

ضرع البلد الذي أصبح في خبر كان!


لم يكُن من المُناسب أن أكتُب في موضوع غير موضوع لبن الأطفال الذي أقام الدُنيا وأقعدها مؤخرًا، لا لمُسايرة الموضة أو السباحة فوق الموجة، لكن لأنه لا صوت يعلو فوق صوت لبن المعركة أو معركة اللبن!


(1) ما أعرفه عن تجارب ومُعايشة عن موضوع اللبن المُدعم أنه لا يتم صرفه إلا بعد إجراء كشف طبى على الأم والمولود معًا لتبيان استحقاق الأم من عدمه (الكشف على قُدرتها على إجراء عملية الرضاعة الطبيعية بشكل كامل)، وهُنا يتم تحديد مقدار الكمية المطلوبة للمولود خلال الشهر، وهى تتراوح من علبتين كحد أدنى إلى 8 علب، يتم صرفها شهريًا بسعر العلبة 3 جنيهات!

(2) يستمر الصرف حتى بلوغ الطفل عُمر ستة أشهر، بعد ذلك يتم شراء اللبن المُدعم من الصيدليات بسعر 18 جنيه للعلبة.. للعلم هذه الأسعار لم تتحرَّك مُنذ تعرَّفت بهذا الموضوع سنة 2009 وحتى يومنا هذا قبل القرارات الأخيرة!

(3) التحايُل من جانب آلاف الأمهات والتُجار للحصول على اللبن المُدعم أبو بلاش (3 جنيه لعلبة تُباع في الصيدلية بـ60 جنيهًا) يصل لدرجة لا يُمكن تصديقها من الفجور، لدرجة أن بعضهن يقُمن بتجويع الطفل الذي بلغ عُمره الشهر بالكاد مع تعصير الثدى جيدًا قبل لحظة الكشف- الذي هو للأسف روتينى وظاهرى أكثر منه عملى - للحصول على النسبة كاملة ومن ثم الاتجار فيها (البعض يبيعه لأمهات يجهلن أصلًا موضوع اللبن المُدعم هذا ويضطررن لشرائه بعشرين ضِعف السعر من الصيدليات)!

(4) تعقيد مثل هذه الأمور قد يحفظ للدولة حقها، ويمنع أو يُقلل من فرصة حصول اللصوص على اللبن المُدعم، لكنه في نفس الوقت يُصيب المساكين غير القادرين على المقاوحة والزَن والمُزاحمة في مقتل، فيروحوا في الرجلين، وهناك عشرات الحالات لأمهات نصابات اجتزن الكشف الطبى بنجاح، بينما الواحدة منهن قادرة على إرضاع منطقة صفط اللبن كُلها لمُدة 12 سنة متواصلة، بينما هُناك مُكافحات ظُلِمن وخرسن ولم يسعين لقطع الطريق أو فتح الجاعورة فحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف!

(5) البعض يعتقد أن من حق كُل أم وكُل طفل الحصول على حصة من اللبن المُدعم، وهذه خيبة ثقيلة تابعتها في عدد من البرامج التي لم يهتم معدوها ولا مقدموها بالاستفسار عن المعلومات الصحيحة، وأرجوك ترجع للنقطة رقم (1) للمُراجعة!

(6) البعض يعتقد أن استيراد الجيش للبن أطفال لحل أزمة خانقة تمس الأمن القومى المسئول عنه هو سيشغله عن حراسة حدود الوطن وتأمينه، ومن هنا ينطلق الهجوم على الجيش أو بالأصح يستمر ذلك الهجوم، فلو قرر الجيش تجاهل الأزمة سيُتَهَم بعدم حماية مصالح المواطنين، ولو تدخل لحلها سيوصَم بأنه يتجاهل دوره الأساسى في حماية الحدود، للعلم الحدود لو مش محمية كويس مكانش زمانك قاعد تنظَّر وتهاجم في الجيش، أكيد كُنت مُمكن تتباع في سوق النخاسة ده لو لقيت حَد يشتريك!

(7) بعد إجراء الكشف اللازم وتحديد الكمية المطلوبة من جانب الطبيب (في النظام القديم الذي أتحدث عنه) يتم عمل كارت صرف للكمية شهريًا، وتروح حضرتك مركز الرعاية الصحى لتبتاع كُل شهر العدد المطلوب وتدفع في العلبة ثلاثة جنيهات (بيوميل 1) أو (ليبتوميل 1) حتى يبلُغ الطفل سن ستة أشهر، والتجارب التي أعرفها معرفة وثيقة في هذا الأمر تؤكد أن أزمة واحدة لم تحدُث، قد يكون هذا مُجرَّد حُسن حظ نادر، وقد يكون كاشفًا لادعاء البعض لدور المظلومية أو التهليل في الهيصة!

(8) في الفترة التي يتراوح فيها عُمر الطفل من ستة أشهر لسنة يكون الشراء من الصيدليات (بيوميل 2) أو (ليبتوميل 2) ـ المُناسبان لهذا السن ـ بسعر نصف مُدعم 18 جنيهًا وهنا المشكلة، فمُعظم الصيادلة يحتفظوا بالكمية المصروفة لهم للحبايب والأصدقاء وهذا سلوك طبيعى في مُجتمعنا، بالبلدى لو ملكش معرفة يبقى محدش هيبيع لك، والبعض الآخر يبيع العلبة ـ للى مش حبايب لكن شكلهم يبان إنهم حبايب ومش هيشتكوا أو يعترضوا ـ بسعر يتراوح ما بين 25 و35 جنيهًا، فيحقق ربحًا ماديًا أكثر من مُمتاز، ويعتبر الشارى نفسه كسبان لأنه اشترى العلبة بسعر أرحم شوية من إنه يشتريها بـ60 جنيها!

هل كان الأمر في حاجة للمُراجعة الآن وتطبيق نظام الكروت الذكية؟ في الواقع أعتقد ذلك، لكن هكذا صار حال بلدنا، اعتراض ورفض لكُل شيء، سواء كويس أو وِحِش، إعلام يُساند أي حَد بيصرَّخ علشان يصرَّخ معاه بدون أن يسعى لفهم الأزمة أو أبعادها أو حتى يعرف لب المُشكلة فين، ومسئولون غير قادرين على شرح الموضوع بشكل جيد للناس، فمن تعليقات المُتحدث باسم وزارة الصحة اكتشفت أنه لا يعرف الكثير مما ذكرته أنا العبد لله الغلبان في ذلك المقال!

المشكلة الأنقح أن التظاهر وقطع الطرق والإضراب صار أسهل من إشعال سيجارة عند الكثيرين، ولقد سألت ذات مرَّة: هل كُنا نعيش في نعيم قبل ثورة يناير حيث لم نر مثل هذه الأحداث السخيفة التي تحوِّل صاحب الحق - إن كان صاحب حق- لبلطجى؟ بالتأكيد الإجابة لا، وإلا لما قامت الثورة أصلًا.. لكن المُشكلة أننا أساءنا استخدام الثورة، وأساءنا للثورة، وأساءنا لأنفسنا، وعلى رأى الراحل (سيد درويش) في رائعته (هز الهلال يا سيد): "ياما شوفنا م الستات طلعوا وعملوا مظاهرات، والكناسين رخرين راسهم وألف مقشة لا يكنسوا كنسة ولا يرشوا لنا رشة، والصنايعية راحوا جايبين ضلفة أحسن ورشة"!

هذا هو ما يجرى في بلدنا باختصار مُنذ اندلعت ثورة يناير وحتى جف ضرع البلد ونشف بسبب الأنانية والطمع والتكاسُل وطبعًا الفساد، المُشكلة أن الكثيرين منا الآن يفضلون قطع الطريق للمُطالبة بإيجاد فُرصة عمل عن قيامهم بالبحث عن العمل أصلًا، بعدها يقطعون الطريق علشان ليتثبتوا في هذا العمل، ثم يقطعون الطريق للحصول على الحوافز، ويقطعون الطريق لرفع المُرتبات، ويقطعون الطريق لتخفيض عدد ساعات العمل، ويقطعون الطريق لأن العمل مش عاجبهم حتى بعد ما خفضوا عدد ساعاته ورفعوا المُرتبات وصرفوا الحوافز، ثم يقطعون الطريق تضامُنًا مع واحدة شايلة ببرونة فاضية!

إننا لا نعيش في سويسرا ولا النرويج، ومُشكلات بلدنا أكثر من حصرها، والحكومة القائمة على قواعد القطاع العام والجهاز الإدارى العفن ترتكز على أعرض قاعدة فساد وجهل وتواكُل في العالم، وأولى خطوات نسف هذا الغَم الأبدى هي العودة للعمل، كُل واحد يشتغل، ويحاول يوجد حل واقعى ومنطقى للمُشكلات بدون غل ولا تصفية حسابات، ويحمد ربنا إن عنده مؤسسة بتحاول تدبَّر الأمر بسُرعة لإنقاذ الأطفال وأهاليهم (مفيش طفل هيستنى الإمضا والختم والبصمة والشحنة والمحنة) لحين إصلاح بلاوى البلد، ومن ضمن هذه البلاوى ناس لا بترحم ولا عايزة رحمة ربنا تنزل!
الجريدة الرسمية