مناسك الحج.. «الوصايا العشر للحجاج»
إنها عشر
وصايا أوصِي بها نفسي، قبل أن أوصي بها إخواني، ممن أراد منهم أن يؤم هذا البيت
الحرام، قاصدا الحج، ممن اختاره الله -عز وجل- للقيام بهذه الوظيفة الشريفة،
والعمل الكبير الذي هو ركن من أركان الإسلام.
فنحن بحاجة إلى المذاكرة، نحن بحاجة إلى مزيد من التواصي
والتبصير، وتذكير النفوس بما يصلحها وينفعها، قبل الشروع في الأعمال، ولربما دخل
الإنسان في عمل يعمله وغفل عن بعض الجوانب المتعلقة فيه، فضاع عليه عمله، أو كان
ذلك سبباً لنقص كبير في هذا العمل، كثيراً ما يندم الإنسان ويتمنى أنه تفطن لبعض
الأمور قبل أن يشرع بعمله، ولذلك أحببت أن يكون هذا المجلس قبل انعقاد الإحرام،
وقبل الدخول في النسك؛ ليكون لدى المرء القدرة التي يتمكن معها من القيام بما يجب
لله -تبارك وتعالى...
وهذه هي الوصايا العشر:
◄الوصية الأولى:
◄أن يحضر النية... أن تكون له نية صحيحة، الله -عز وجل- لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [(110) سورة الكهف] الله يقول كما في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".
والأحاديث والآيات التي تتحدث عن قضية النية والإخلاص
كثيرة لا تخفى عليكم، ولعل من حكمة الله -عز وجل- البالغة أن جعل البيت الحرام
وأكنافه بوادٍ غير ذي زرع، لم يكن ذلك المحل مصيفاً يجد الناس فيه برد الهواء في
وقت الحر، ولم يكن ذلك المكان متربعاً يجدون فيه خضرة وبهجة وأنساً وطرباً، إنما
جعله الله -عز وجل- في بلد هو من أكثر بلاد الدنيا حراً، وليس فيه أثر لبهجة تكسو
الأرض من خضرة وزينة، إنما هي أرض تحيط بها الجبال ليس فيها ما يطرب الناظرين، مما
يقصده الناس لراحة بالهم، وأنس نفوسهم..
ومن ثم، فإنه ليس ثمة مجال لأن يذهب الواحد من أجل
الفرجة ومن أجل البهجة، ومن أجل السفر إلى بلاد غناء يتنافس الناس ويتسابقون
للذهاب إليها؛ لأنها من مصايفهم، ومن الروضات الغناء التي يطرب لها الناظرون ليس
فيه شيء من ذلك، الذي يذهب إلى ذلك المحل يعلم جيداً إلى أين يذهب؟ يذهب إلى مكان
يكثر فيه الزحام، ويحتاج معه إلى كثير من الصبر، وكتم النفوس عن شهواتها ولذاتها
ومألوفاتها، وهذا أمر لا يخفى، فهل تفكرت قبل أن تدخل في الإحرام ما الذي يحركك
تجاه بيت الله العتيق؟ هل تريد بذلك مقصداً دنيئاً ليقل عنك الناس أنك حاج؟ هل
تقصد بذلك أن يقال: إن فلان قد حج خمسين حجة أو أربعين حجة أو عشر حجج أو غير ذلك؟
هل تريد أن تذهب من أجل أن فلاناً من الناس قد أعطاك شيئاً من المال فتحركت عزيمتك
من أجل أن توفر بعضه، وأن تحج ببعضه عن غيرك؟ هل هذا هو المقصود؟ ما هو مطلوبك؟ هل
فكرت؟ وهل جلست مع نفسك لتصحح نيتك؟
بعض السلف لربما طلب منه ما هو أدنى من ذلك، فوقف قليلاً
فحينما يُسأل عن هذا قال: حتى أحضر فيه نية، زيارة، أو تشييع جنازة أو نحو ذلك من
الأعمال التي لا تتطلب مجهوداً كبيراً حتى أحضر فيه نيتي، فكيف بحج بيت الله
الحرام؟! ينبغي أن يكون المقصود هو نيل رضا المعبود -جل جلاله- دون شيء سواه، ومن
انحط عن هذه المرتبة فله أن يلتفت إلى مطلوب يجوز الالتفات إليه من تجارة وعمل
دنيوي ونحو ذلك يكون تابعاً لمقصوده الأول، وهو طلب رضا الله -جل جلاله-، أما
المطالب المهلكة من قصد الريا والسمعة، فالويل لمن كانت تنهزه وتحركه، فربما كان
ذلك قوته الذي يقتاته إلى النار، وراحلته التي تقوده إلى عذاب الله -عز وجل- وبئس
المصير.
نحن بحاجة إلى التفكير، لا ننساق مع الأعمال الصالحة أو
الأعمال الدنيوية، بل حتى الأعمال السيئة قبل أن نفكر؛ لأننا قد نضيع أنفسنا ونندم
ولات ساعة مندم، فإذا حصل لك هذا القصد والنية فأبشر بفضل الله -عز وجل- ورحمته
وألطافه.
◄ الوصية الثانية:
◄ أن تختار رفقة طيبة صالحة، ولست بحاجة لذكر النصوص الواردة في أثر الصحبة على الإنسان: "مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير" "المرء على دين خليله" إلى غير ذلك.
أريد أن أتحدث معكم حديثاً يلامس القلوب، ولا شك أن أعظم
ما يمكن أن يتحدث عنه الناس هو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن
المقصود ألا نتحدث عن أمور لربما قال السامع لقد سمعناها مراراً، المقصود من هذا
المجلس هو التذكير وليس التعميم.
فأقول: الصحبة لقاح، هذا الصاحب لربما أفسد عليك حجك،
لربما كان كثير اللغو واللمز والسخرية بعباد الله -عز وجل-، والثرثرة في غير حاجة،
لربما كان مجادلاً فأوقعك في الجدل، ولربما كان من أصحاب الرفث فتكلم عندك بما لا
يليق من الفحش من القول، فدنس حجك، وأبطل أجرك، ولربما رجعت بخفي حنين ليس لك من
حجك إلا العناء والسفر والتعب، فاختر رفيقاً طيباً صالحاً، يعينك على طاعة الله
-عز وجل-، ولا يثبطك عنه، الأصحاب الذين ينبغي أن يسافر الإنسان معهم، ينبغي أن
يتحلوا بخصال الإسلام، أن يتحلوا بالخصال الطيبة الكريمة.
السفر قطعة من العذاب، فإذا اجتمع معه عذاب آخر، فذاك
عذاب مضاعف، تجدون في تراجم كثير من السلف يذكرون في ترجمته أنه كان قليل المخالفة
في السفر، ما معنى هذا الكلام؟ السفر قطعة من العذاب يسفر عن أخلاق الرجال، ولربما
توارت تلك الابتسامات والمجاملات، إذا وجد مس الجوع والعطش أو الحر أو أضناه التعب
بعد المسير بساعات يجامله فتظهر أخلاقه على حقيقتها، وتتكشف نفسه عن أخلاق أشبه ما
تكون بأخلاق السباع، فهو يهارش ويجادل ويصخب، وينازع على أتفه الأشياء، يكدر عليك
صفوك، ويشتت فكرك، ويشغل قلبك، ولربما شاحنك على أمور تافهة، يغضب من أجل الطعام..
وإذا أردت المسير في وقت جادلك فيه، وإذا أردت
الإقامة في محل جادلك فيه، وإذا أردت أن تسلك طريقاً أكثر من عتابك ولومك، وإذا
رأى عيباً لم يستره فما الحاجة إلى هذه الصحبة والرفقة؟! وأنت تقصد عملاً ترجو به
مطلوباً عظيماً وهو رضا الله -تبارك وتعالى-، وأن تحط عنك الأوزار والذنوب، وهذه
الصحبة لا تؤهلك لهذا المطلوب إطلاقاً.
ولذلك السفر تعب وعناء، ويوجد من هذا العناء في سفر الحج
ما الله به عليم، فأنت بحاجة إلى قوم يتسمون بسعة الصدر، وكثرة الحلم والعفو عن
الناس، والرفق والأخلاق الفاضلة الكريمة، نحن بحاجة إلى ذلك كله، نحن بحاجة إلى
قوم ينشطوننا إلى الطاعة، ويقومون العزائم إذا فترت، لسنا بحاجة إلى من يثنيك عن
كل فضيلة وعمل صالح تريد القيام به، الإنسان لربما خاصة من حج لأول مرة، لربما
ينطبع في نفسه صورة عن الحج بسبب رفقة سافر معها، إذا سافر الرجل مع قوم من
العابدين الصالحين الأتقياء ورأى دموعهم تنحدر على خدودهم، ورأى ابتهالهم وتضرعهم،
ورأى حسن رجائهم بالله، ورأى خوفهم منه انطبع ذلك في نفسه، فلم يعد يقبل بديلاً عن
هذه الحال في الحج، ويسعى إلى تحقيق ما هو أعلى من ذلك.
أما من سافر مع البطالين مع أهل الغفلة في يوم عرفة، في
عشية عرفة يرعى كما ترعى البهيمة، ثم يتمدد ينام في وقت أوقاته لا تقادر بشيء،
دقائقه وأنفاسه وثوانيه لا يمكن أن تعدل بشيء، ثم يسمع عن الحج سنين طويلة، ثم
يذهب مع هذا ويجد فتوراً في طاعة الله -عز وجل-، وخوراً في العزيمة، ودوناً في
الهمة، وقلباً قاسياً، وعيناً جافة لا تدمع، فيظن أن الحج هو هكذا، وأن الناس
ينامون في عرفة، ويأكلون ويشربون ويضحكون وينكتون، فيظن أن هذا هو الحج، وأن هذا
هو الوقوف الحقيقي الذي ينبغي أن يكون في تلك المشاعر.
◄الوصية الثالثة:
◄ وهي تتصل بنفقتك في حجك، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، وتعرفون خبر الرجل "يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك"..
والله -عز وجل- قد أخبرنا عن حال المرابين {يَمْحَقُ
اللّهُ الْرِّبَا} [(276) سورة البقرة] يعني يبطله فتذهب بركته في الدنيا، فإذا
عمل به عملاً صالحاً أو تصدق منه، لم يقبل الله ذلك منه، فهو ممحوق، وهكذا كل مكسب
خبيث رديء فإن الله يمحقه فتخير نفقة طيبة، ثم تبصر في معنى آخر وهو أن هذه النفقة
مخلوفة، المنافقون أخبرنا الله -عز وجل- أنهم يرون النفقة في سبيل الله مغرماً،
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [(98) سورة التوبة] يعد
ما ينفق ذلك من الغرم والخسارة فهي مقطوعة من قلبه..
أما المؤمن الصادق فهو يحتسبها، ويعلم أنها
مخلوفة، حينما تدفع هذه الأموال في سبيل حجك فهذا هو الكسب الحقيقي، هذا خير ما
أنفقت فيه الأموال، نحن ندفع كثيراً في سفرة للنزهة والفرجة، نحن ندفع كثيراً في
سبيل استئجار صالة للأفراح أو استراحة أو غير ذلك مما يذهب ويزول ويبطل، ولربما
يراد به غير وجه الله -عز وجل-، وأما النفقة في الحج فإن الله يقبلها ويثيب عليها،
وينميها للإنسان، فلا تستكثر ذلك، كيف يستكثر والله -عز وجل- يقول: {وَمَا
تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ
اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ
تُظْلَمُونَ} [(272) سورة البقرة] فإذا أدركت هذا المعنى فإنك تخرج النفقة وأنت
مستريح النفس، مطمئن القلب، وتعلم أن هذا الوفد وأن هؤلاء الذين جاؤوا إلى هذا
الحج أن خير ما أنفق هو ما بذل في سبيل الله -عز وجل- في مثل هذه المشاهد
والمقامات والأزمنة الشريفة، أي نفقة أفضل من نفقة تبذل في شهر حرام من شهور الحج،
في بلد الله الحرام، لضيوف الله -عز وجل؟
الحجاج هم وفد الله وضيوفه، فهل ستجد نفقة أفضل
وأكمل وأعظم من هذه النفقة؟ فلماذا تستحقرها؟ أنفق، أنفق، وهذه النفقة ليست من
التضييع ولا الإسراف، هذه نفقة في محلها، الإسراف هو تضييع الأموال في
الحرام، أو صرف الأموال على سبيل المبالغة أو المباهاة في أمور المباح، وأما في
طاعة الله -عز وجل- فهذا خير ما أنفقت به الأموال تنفق على من معك من رفقتك وأنت
منشرح الصدر، فرح بذلك ترجو عائداتها، أما أن يكون الإنسان مقتراً على نفسه،
مقتراً على من معه، يجد أن الحذق كل الحذق هو في تقليل النفقة ما أمكن، وأن هذه
الحجة ما كلفته إلا دراهم معدودة، هل هذا هو التفكير الصحيح؟ هل هذا هو المكسب
والربح الذي يعود به الإنسان في حجته؟ إذا أراد أن يشتري هدياً بحث عن الأرخص إن
كان في اشتراك في بدنة اشترك، وإن كان في شيء عن طريق شركة اشتراه المهم أن يبذل
الأقل والأدنى وأقل ما يجزئ، هل هذا هو المطلوب؟ إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله
كما جاء في الحديث فانظر ما لله عندك.
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجزئه أن يذبح شاة
واحدة، فكم قدم -صلى الله عليه وسلم- في حجته؟ قدم مائة من الإبل، نحر منها بيده
الشريفة ثلاثاً وستين، أما يكفيه واحدة؟ لكنه لم يحسب حسابات أولئك، الذين يظنون
أنهم يحسنون صنعاً، كان حكيم بن حزام -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يقف في عرفة
ومعه مائة مقلدة، يعني مائة من الإبل عليها قد قلدت القلائد، {لاَ تُحِلُّواْ
شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ}
[سورة المائدة] وذلك ما يوضع على البدن ليعرف أنها من الهدي، حكيم بن حزام، يقف في
عرفة ومعه مائة مقلدة، ومائة رقبة فيعتق رقيقه بعرفة، فيضج الناس بالبكاء والدعاء،
ويقولون: "ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده ونحن عبيدك فأعتقتنا" مائة مقلدة
ومائة رقبة ماذا يريد بها؟
إن كنت ممن حج فكم قدمت في عرفة؟ كم قدمت في
مزدلفة؟ وكم قدمت في منى؟ وكم نحرت من الهدي؟ كم قدمت؟ أكثر ما نسمع من الأسئلة في
هذه الأيام هو سؤال الناس عن الحج الذي لا هدي فيه ما هو؟ من أجل ألا يقدموا
هدياً، وأعتق حكيم بن حزام في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، وفعل مثل
ذلك في الإسلام، وأهدى مائة بدنة وألف شاة، وأعتق بعرفة مائة وصيف في أعناقهم
أطواق الفضة، منقوش عليها عتقاء الله عن حكيم بن حزام، فماذا أعددت لهذا الحج؟
وللعلم فإن الهدي لا يختص بالحاج، بل إن الهدي يكون
للحاج وللمقيم يمكن للمقيم أن يرسل هديه إلى بيت الله الحرام، يمكن أن يبعث بها،
ويمكن أن يشترى له من هناك فينحر بتلك المواطن والبقاع الشريفة، لعل الله -عز وجل-
أن يعتقه بذلك من النار.
◄الوصية الرابعة:
◄ وهي أن يكون العمل متابعاً فيه النبي - صلى الله
عليه وسلم، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [(110) سورة الكهف] أي عملاً صواباً،
ولا يمكن للعمل أن يكون صواباً إلا إذا تابعت فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فالله لا يقبل من الدين إلا
ما شرع، ولذلك من أراد أن يقبل الله حجه وسعيه فعليه أن يتعلم المناسك أن يتعلم
هدي النبي -صلى الله عليه و سلم-، وقد قال: "خذوا عني مناسككم"..
فيعمل عملاً صحيحاً صواباً، فيكون عمله صالحاً حتى لا يرد عليه عمله، الله يقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [ سورة الملك] {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [(2) سورة الملك] ما قال: أيكم أكثر عملاً، ليست العبرة بكثرة الحج، فكم من حاج لا يزداد من الله إلا بعداً، ومقتاً وطرداً، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} سورة الملك] هذا هو المعنى الذي خلق من أجله الموت والحياة إحسان العمل وإتقانه، ولم يقل الله -عز وجل: ليبلوكم أيكم أسرع عملاً، قد يجد الإنسان ويجتهد ويشتط ليصل قبل الناس إلى عرفة، ثم ماذا؟ أنت في عبادة، ما حططت رِجلاً ولا رفعت أخرى إلا كتب لك ذلك، أنفاسك مكتوبة، وتعبك محسوب..
كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-
لما قالت له يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك؟ فقيل لها: "انتظري
فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتينا بمكان كذا ولكنها على قدر نفقتك أو
نصبك".. على قدر التعب، فليست العبرة أن تصل قبل الناس، ثم تأتي وتتباهى إذا
رجعت؛ لأنك استطعت أن تصل إلى مزدلفة بعشر دقائق، أو إنك استطعت أن تكتشف طريقاً
سالكوه قليل، وتخلصت من كثير من الزحام فوصلت والناس لم يصلوا إلى مزدلفة بعد، ثم
ماذا؟ إن كان ذلك عند الله مقبولاً فلا بأس، لكن إن كان عملك مردوداً وحجك غير
مبرور فما الفائدة أن تصل قبل الناس أو أن تصل في آخرهم؟ هل هذا هو المعنى الذي من
أجله تعبدنا الله -عز وجل- بالحج؟ فكر، وصحح قصدك ونيتك؛ وليكن شغلك في نفسك،
والتفت إلى إصلاح عملك، وتخلص من ذنوبك.
والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: "خذوا عني
مناسككم" فعلمنا -صلى الله عليه وسلم- كيف نحج؟ وكيف نسير؟ وكيف نتمهل؟ وكيف
نكون مخبتين بخشوع وانكسار، نقف في تلك المواطن؟
وهكذا أيضاً من همه تتبع الرخص، يبحث عمن يفتيه في الرمي
قبل الزوال في أيام التشريق، أو في غير ذلك مما يبحث عنه كثير من الناس، من أجل أن
يختصر على نفسه، لو تعلم ما أنت فيه لما فرطت هذا التفريط، المطلوب عظيم، المطلوب
ليس له جزاء إلا الجنة، تريد حجة مبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة؟ فهل يحسن مع ذلك
تتبع الرخص والاحتيال على أحكام الشرع والالتفات على الأحكام؟ أهكذا يكون عملنا
وسعينا وحجنا؟
◄الوصية الخامسة:
◄وهي أن تتذكر أنك بين أيام شريفة، وأعمال فاضلة عظيمة،
الزمان زمان شريف، الله يقول: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [(1-2) سورة
الفجر] وعامة أهل العلم سلفاً وخلفاً على أن هذه العشر التي أقسم الله بها في عشر
ذي الحجة، فأقول: جاء ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسناد حسن: "إن
العشر عشر الأضحى، الوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر"، والله يقول:
{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [(1-3) سورة الفجر]
والله لا يقسم إلا بمعظم، فدل ذلك على عظمة العشر، وعظمة يوم عرفة على وجه الخصوص،
وعظمة يوم النحر، وهذه كلها من العشر، ونقل على ذلك جمع من أهل العلم اتفاق
المفسرين، والله يقول: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}
[(27) سورة الحج] وهي عشر ذي الحجة، على أشهر القولين في التفسير، ونسبه بعضهم
لجمهور أهل العلم.
وتعرفون ما ورد في فضائل العشر، من قول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: "(ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه" قالوا ولا
الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع
بشيء"، وفي بعض الألفاظ: "العمل فيهن أفضل"، وفي بعضها: "ما
من أيام يتقرب إلى الله فيها بعمل أفضل"، وفي حديث جابر: "أفضل أيام
الدنيا"، وكلها أحاديث صحيحة، وفي رواية من حديث ابن عباس: "ما من عمل
أزكى عند الله -عز وجل- ولا أعظم أجراً من خير يعمله من هذه الأيام العشرة"،
العمل الصالح فيهن أحب إلى الله، يتقرب إلى الله فيها بعمل أفضل من هذه الأيام في
عشر الأضحى كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، من عشر ذي الحجة، من هذه
الأيام العشر.
وهنا لفتة وهي لا سيما من لم يعتد الحج في كل عام، أفضل
عمل تقوم به في هذه العشر هو الحج، ولذلك فإن أداءك للحج من اليوم الأول من ذي
الحجة فتشغل أيام العشر بتلبية وتهليل وتكبير في تلك المقامات هو من أجل الأعمال
وأفضلها، وبالتالي ليست الغنيمة أن يختصر الإنسان حجته إلى أضيق وقت ممكن، إنما
كلما ذهب مبكراً كان ذلك أوفى في عمله إلى الله -عز وجل-، وهذه قضية لا يتفطن لها
الكثيرون، ولكن هناك ملحظ وهو من أراد المداومة على العمل الصالح لربما يشق عليه
ذلك، ومن مقاصد الشارع في تكليف المكلفين بهذه الشريعة المداومة على العمل
"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، فإذا كان العبد يتجشم لوناً من
العمل، لربما يسهل عليه فيبغضه ذلك بهذه العبادة فإنه يحتاج إلى إعادة نظر في طريقة
تعامله معه، ومن هنا قد يقال للإنسان الذي يحج في كل عام: لربما كان الأرفق بك غير
ذلك، بمعنى أن الإنسان يحج يوم عرفة، إذا كان الحج من أول يوم في عشر ذي الحجة يشق
عليه، ولكن أردت التنبيه إلى هذه الملحظ الذي كثيراً ما نغفل عنه، ليس هناك عمل
أفضل من اشتغالك في العشر بعمل أو بأعمال الحج، قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-
لما قال لهم عن فضل تلك الأيام، ولا الجهاد في سبيل الله، قال: "ولا الجهاد
إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" وفي بعض الألفاظ: "إلا من
عقر جواده وأهرق دمه" وفي بعضها: "إلا رجل عفر وجهه في التراب".
فالعمل في هذه العشر أفضل من الجهاد في سبيل الله، وهذا
يدل على أن الأجور فيها تعظم، ولربما تضاعف كما قال بعض أهل العلم، و أيامها خير
من أيام العشر الأخيرة من رمضان، فما بالك بأوله أو وسطه؟!
وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سألته
عائشة: يا رسول نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ "لكنّ أفضل الجهاد، حج
مبرور" فينبغي أن يستغل الإنسان هذه الأيام بالذكر والتسبيح والتهليل والطواف
والأعمال الصالحة من صدقة وصوم وما إلى ذلك، كان سعيد بن جبير -رحمه الله- من
التابعين إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول:
"لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر" فتعجبه العبادة ويقول: "أيقظوا
خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة".
فأيام العشر يجتمع فيها أمهات الأعمال الصالحة من صلاة
وحج وصوم وصدقة وذكر إلى غير ذلك، ومنها يوم عرفة الذي أقسم الله به بقوله: {وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ} [ سورة البروج] وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسناد صحيح:
"الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ
يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ" فما بالكم إذا اجتمع يوم
عرفة مع يوم الجمعة!.
وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ
الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [(1-3) سورة البروج] هذا كله يكون في أيام
العشر، أعني الشاهد والمشهود، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- عرفة فقال:
"ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا
إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين -ليس لهم ما يظلهم من الشمس- جاءوا من كل فج عميق
يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة"
هل استشعرت هذا المعنى وأنت في عرفة؟ وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم-: "ما من
يوم أكثر من أن يعتق الله -عز وجل- فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو
-عز وجل- ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟" رواه مسلم، وفي
الحديث الآخر: "إن الله يباهي بأهل عرفات ملائكة السماء فيقول: انظروا إلى
عبادي هؤلاء جاءوني شعثاً غبراً" وأما الدعاء فيه فتعرفون الحديث: "خير
الدعاء دعاء يوم عرفة" وفي حديث أبي قتادة سئل -صلى الله عليه وسلم- عن صوم
يوم عرفة، يعني لغير الحاج، فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية"
وهذا من لطف الله -عز وجل- ورحمته بعباده، الحاج يقوم
بهذا العمل الجليل وهو الحج، فيرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن لم يحج يختم آخر
شهر له في العام بصيام يوم يكفر سنة ماضية وآتية، ويفتتح عامه بشهر الله المحرم،
الذي صومه أفضل الصوم بعد رمضان، وفيه يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية أرأيتم فضل الله
-عز وجل- على عباده وعظيم أوصافه وكرمه؟! يفتح لهم الأبواب من أجل أن يحط عنهم
الأوزار، وقد جاء في حديث عقبة بن عامر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يوم
عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب"، ويوم
النحر، وهو يوم الحج الأكبر على المشهور عند أهل العلم، ويدل عليه قول النبي -صلى
الله عليه وسلم- حينما خطب على ناقة حمراء مخضرمة فقال: "هذا يوم الحج
الأكبر"..
وفي حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذا يوم الحج الأكبر" ويوم النحر يجتمع فيه عيدان، عيد مكاني، يجتمع فيه المسلمون من كل حدب وصوب في مكان واحد، وعيد زماني يدور في وقت محدد في كل سنة، وفيه الحج كله، حيث يصح الوقوف في ليلته، ويكون الرمي والنحر والحلق والطواف في يومه، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الأيام عند الله -تبارك وتعالى، يوم النحر، ثم يوم القر".. اليوم الحادي عشر؛ لأن الناس يستقرون فيه في منى، هل استشعرت هذا المعنى في اليوم الحادي عشر يوم القر أعظم الأيام عند الله -عز وجل- بعد يوم النحر، وقعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه أي بزمامه فقال لأصحابه: "أي يوم هذا؟" فسكتوا، حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أليس يوم النحر؟" قالوا: بلى، قال: "فأي شهر هذا؟" فسكتوا حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس بذي الحجة؟" فقالوا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" إنما ذكر ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لعظم يوم النحر، كحرمة يومكم أوقاته الشريفة التي نقضي فيها هذه المناسك، هل استشعرناها؟ وهل الأعمال التي لربما يستثقلها كثير من الناس ولربما تبرم بها الإنسان وصدرت منه بعض الكلمات التي تذهب بحجه، أعمالك التي تقوم بها منذ قصدت بيت الله الحرام، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة في ضمان الله -عز وجل- رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله -عز وجل-، ورجل خرج غازياً في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجاً"..
وقد جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في ذكر بعض فضائل أعمال الحج، كما جاء في صحيح الجامع وفي غيره: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله -عز و جل- ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي و يخافون عذابي، و لم يروني فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك; وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك"..هل استشعرت هذا المعنى؟ أي فضل أعظم من هذا؟ هل استشعرت هذا وأنت في سفرك إلى الحج؟ أو عند طوافك في البيت؟ أو عند حلقك وتقصيرك؟ أو عند رميك للجمار؟ أو حينما تلبي؟ "ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا".. "ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط إلا بشر" قيل: يا رسول الله بالجنة؟ قال: "نعم".
وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يزاحم على الركنين، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن مسحهما كفارة للخطايا"، وسمعته يقول: "من طاف بهذا البيت أسبوعاً -يعني سبعة أشواط- فأحصاه كان كعتق رقبة" وسمعته يقول: "لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة، وكتب له بها حسنة" فربما يعتبر الإنسان الطواف لا سيما من السطح في وقت طواف الإفاضة أو الوداع لربما يعتبر ذلك عناء يريد التخلص منه، ويتمنى أنه لو رخص له في تركه، هل استشعرت هذا المعنى وهذا الأجر عند الله -عز وجل؟
الحلق وقد سمعتم بعض ما فيه، فقد قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: "اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر
للمحلقين" ثلاث مرات، وهم يراجعونه في كل مرة "والمقصرين" فكان
يردها -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً: "وللمحلقين".
وأما صلاتك في المسجد الحرام فكل صلاة عن مائة ألف صلاة،
وكثير من أهل العلم يقول: ذلك لا يختص بالمسجد، بل في كل الحرم، ومنى من الحرم،
ومزدلفة من الحرم.
◄الوصية السادسة:
◄ وهي أن الحج فرصة للتغيير، والموفق من وفقه الله -عز وجل- في الحج يرى الإنسان أخلاط الناس، فيرى الفقير فيعرف نعمة الله عليه فيكون حامداً على الغنى، ويرى المقعد فيعرف عافية الله -عز وجل- التي عافاه بها، فأصح بدنه فيكون شاكراً يسخر جوارحه في طاعة ربه ومليكه -جل جلاله- ويرى الجاهل فيعرف نعمة الله عليه بالعلم، ويرى العامل والعابد والمنفق ويرى من ينشط في طاعة ربه -تبارك وتعالى- فيدرك بذلك تقصيره وعجزه وضعفه يرى الناس يتسابقون في البذل يتقربون إلى الله -عز وجل- بأموالهم وبألوان التقربات المالية والبدنية فتنشط نفسه لعبادة الله -عز وجل-، ويعرف تقصيره، إذا بقي الإنسان مع قوم ضعفاء لربما يظن أن حاله على استواء وأنه لم يبدر منه تقصير؛ لكن حينما يختلط بغيره ويرى فرقاً شاسعاً بينه وبين هؤلاء الذين وهبهم الله -عز وجل- ما وهبهم، فإنه يعرف قدره، ويكتشف ضعفه.
تبرز أخلاق الإنسان عند المحك، في الزحام ووقت الشدة، فربما كشر الإنسان عن أنيابه، واختفت بسمته، وذهبت مجاملته، فظهر على حقيقته التي لا يواريها شك، فتكشفت نفسه وتبدت عن ضعف شديد لربما كان يخفى عليه فضلاً عمن خالطه من أصحابه، فالحج فرصة كبيرة جداً لترويض النفس على العفو والصفح والحلم والغفر والشكر والتحمل والرضا، اجعل هذا في نيتك، واعقد عليه عزمك قبل أن تخرج، تجد أثر هذا القصد في سلوكك وحالك وعملك، الإنسان ينسى كثيراً في وقت الشدة حينما يختلط بالزحام ينسى نفسه، فلربما بدر منه ما لا يليق من الأقوال والأعمال التي تنقصه عند الله -عز وجل..
عليك أن تضع في اعتبارك أن تحج حجة سليمة تغير فيها
حالك، فتتوب إلى الله توبة نصوحاً، فترجع بوجه جديد، وعمل جديد إذ أن الحج المبرور
كما قال بعض أهل العلم هو الذي لا يخالطه إثم هو الذي يرجع صاحبه بوجه غير الوجه
الذي ذهب به، لربما كان الإنسان مضيعاً للصلاة لا سيما صلاة الفجر، فيرجع بحال
جديدة، ولربما كان معاكساً لشيء من الشهوات فيرجع بوجه جديد، ولربما كان الإنسان
عاقاً لوالديه فيرجع وهو في غاية البر، ولربما كان الإنسان يحمل أخلاقاً شرسة فيرجع
بأخلاق طيبة، يرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويعين الضعيف، ولا يحقر أحداً، ولا يتكبر
على إخوانه، فيكون مخبتاً متدللاً متواضعاً لله -عز وجل-، ارجع بوجه آخر، غير
نفسك، غير قلبك، غير حالك.
قد يحج الإنسان ملأها الغرور والتعالي والترفع حتى كأنه
قد وصل، كأنه قد حط رحله في الجنة، وأما الناس فهم جهلة مسرفون على أنفسهم مذنبون
لا يعرفون أداء المناسك، فهذه النفس نفس مريضة، تحتاج إلى مداوة وعلاج، وقف مفرح
بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني -رحمهما الله تعالى- في عرفة فقال أحدهما:
"اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي"، وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف
وأرجاه لولا أني فيهم"، انظر كيف يزرون على أنفسهم وهم الأئمة الكبار العباد؟
فأنت وأنت تمشي في جموع الحجيج، وأنت تقف بعرفة، أو تبيت بمزدلفة كيف تنظر إلى
نفسك وإلى الناس من حولك؟
وأما الفضيل بن عياض -رحمه الله- فوقف بعرفة والناس يدعون
وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس
أن تغرب رفع رأسه إلى السماء، وقال: "وسوأتاه منك وإن عفوت" مستحي من
تقصيره وذنوبه وهو الفضيل بن عياض! أين هذا ممن يتمدد في يوم عرفة فينام؟! أو حال
الآخر وقد سمعت ذلك بأذني يسحب صاحبه إلى الطريق ويقول: هيا لنقطع الوقت، يتمشون
في شوارع عرفة يوم عرفة لنقطع الوقت، لو كان هذا في منافسة في أمور الدنيا هل يقال
ذلك؟
يقول ابن المبارك -رحمه الله: "جئت إلى سفيان
الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه -سفيان الثوري جاثٍ على ركبتيه- وعيناه
تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر
لهم"، المغرور والمعجب بنفسه وبعمله، الذي يحتقر الناس ويستهزأ بهم، يذكر كل
من دخل وخرج ألواناً من الطرف والمفاكهة لأصحابه فيمن رآهم في طريقه من إخوانه
المسلمين، فيضحك على هذا ويسخر من هذا، وقد قال بنو إسرائيل لموسى -صلى الله عليه
وسلم-: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} [(67) سورة البقرة] قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين فدل ذلك
على أن الذي يستهزأ بالناس ويسخر منهم من غير موجب أنه جاهل؛ ولكن المشكلة أن
الإنسان لا يدري أنه جاهل، بل يظن أنه فوق الجميع.
ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة
فقال: "أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً -يعني سدس درهم- أكان
يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق"
يعني يرجو للمسلمين رحمة الله -عز وجل-، لا يحتقر عملهم ودعائهم وحجهم ومناسكهم.
حدثني أحد الإخوة عن رجل يعرفه قد حج ورجع فسألته بعدما
رجع فقال: ذهبنا وجلسنا في عرفة، نصف نهار، ثم نمنا في مزدلفة، ثم أتينا إلى منى
وجلسنا فيها يومين، ولم أدر لماذا نصنع ذلك؟ أهذا حج؟ أهكذا يكون العبد؟!
وآخر قال في برنامج أذيع على قناة من القنوات، قال: إن
الذهاب والطواف في الكعبة واستلام الحجر والذهاب إلى عرفة ومزدلفة لون من ألوان
الوثنية، ويقول: الشيطان في قلبك لست بحاجة إلى رمي الجمار، يقول هذا في برنامج
أذيع في عشر ذي الحجة، وهذا رجل يحسب عند أتباعه على أنه من الدعاة إلى الله، ومن
الإسلاميين كما يقال، يقول هذا الكلام في برنامج يسمعه المؤمن والكافر، أهكذا يكون
نظر العبد إلى هذه الأعمال الجليلة؟!
أقول: فلتكن مخبتاً منكسر القلب وغير قلبك وحالك وعملك
وحسن أخلاقك، صاحب الخلق السيء معذب، ومن يحتك به معذب، أول من يعذب بسوء الخلق هو
صاحبه، تجده دائماً في حالة من التوتر والتجهم والقلق، ابتسامته لا ترى، وينظر إلى
الناس شزراً، وهو يوصل ألوان الأذى والكلام الذي يجرح إلى العظم دون أن يرعوي أو
يحسب حساباً لهذه الكلمات التي يتفوه بها.
غير أخلاقك لن تخسر شيئاً، حسن الخلق مجاناً، والله يجزي
عليه أفضل الجزاء "إن من خياركم أحسنكم أخلاقا" "ما شيء أثقل في ميزان
المؤمن يوم القيامة من خلق حسن"، "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم
خلقاً""وخياركم خياركم لنسائهم" "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه
درجة الصائم القائم".
والسفر فيه عناء، والحج فيه عناء كثير فإذا اجتمع معه
سوء الخلق فإن ذلك يتضاعف، كم من امرأة طلقها زوجها وقد ذهب معها إلى الحج أو
العمرة ساءت أخلاقه عليها، بل قالت إحدى النساء: بأنها حجت حجة مضنية حين كان
زوجها يكثر من لومها وعتابها، فكانت معها صغيرة تبكي دائماً، الناس يسألون الله
الجنة ويعوذون به من النار وأنا لا أفتأ أقول: اللهم لا تقبل هذه الحجة بسبب ما
رأت من سوء التعامل، فلا تكن عذاباً على من معك، هي ساعات وأيام قليلة، وهؤلاء
الذين معك من أهلك أو رفقة هم أولى الناس ببرك وإحسانك إن كانوا الأهل "خيركم
خيركم لأهله" "خياركم خياركم لنسائهم" المرأة ضعيفة فهي بحاجة إلى
رعايتك وإحسانك، وإذا غضبت فكما أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاسكت، جاء ذلك
في عدد من الأحاديث "وإذا غضب أحدكم فليسكت" فاسكت، توضأ اجلس استعيذ
بالله من الشيطان، أما أن ينظر الإنسان بعين ترمي الشرر، ويتكلم بكلام كله وعيد
وتهديد، وربما شتم نفسه واليوم الذي جاء به مع هذه المرأة الضعيفة المسكينة، الناس
يطوفون يسألون الله -عز وجل- وهو يقرعها ويلومها ويشتمها أهكذا؟!
وأما الرفقة فالله -عز وجل- يقول: {وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} [(36) سورة النساء]
والصاحب بالجنب الرفيق في السفر، فله حق خاص على من معه، ثم أيضاً تذكر أن سوء
الخلق هذا لن يغير من الأمر شيئاً، هل تتحول الأتعاب إلى راحة بسوء الخلق؟ هل
سينتهي الزحام بسوء الخلق؟ والله ما عرفوا عنك هباءة بين هذه السيارات، هل سينفرج
صحن الحرم عنك حين يسوء الخلق؟
رأيت رجلاً في صحن الحرم الناس يخرجون أدركتهم الصلاة
وهم في الطواف فكانوا يمرون به فكلما مر به رجل جمع يده فوكزه وكزة قوية وهو يصلي.
فأقول: سوء الخلق لن يغير من حالك شيئاً، بل سيرديك
وتكسب أوزراً وتخرج بمذمة، وينقص ذلك عملك وحجك فما الفائدة؟ ما الفائدة من سوء
الخلق؟ هذا الحج صفحة مطوية كم مضى من حجة عبر السنين؟ كثير، أولئك الذين حجوا وقد
ساءت أخلاقهم، وتوترت نفوسهم، وعذبوا من كان معهم، الآن لو سئل هل تودون أن يكون
ذلك مثلكم في تلك الحجة والعمل؟ فربما يستحي الإنسان من نفسه، هي أوقات قصيرة
ستذهب وتزول وتنقضي فاصبر قليلاً، وهذا الزحام الشديد الذي تراه سيأتي وقت قصير
فتجد هذه الطرقات لا يمر بها أحد، هذه الأماكن المكتظة في منى يتنافس الناس فيها
على الشبر الواحد ليجلس فيه في الحج، إذا جاء اليوم الثالث عشر صارت موحشة، ويعرف
هذا من جرب التأخر إلى اليوم الثالث عشر.
فالمقصود أن ذلك سيكون وقتاً يسيراً ثم ينقضي، فعليك
بالصبر والعفو والحلم والصفح، والله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [(134) سورة آل
عمران] {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
[(199) سورة الأعراف] {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} [(43) سورة الشورى] والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لأشج عبد القيس:
"إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة" والرجل الذي قال لرسول الله
-صلى الله عليه وسلم- أوصني، قال: "لا تغضب" رددها مراراً قال: "لا
تغضب" "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على
العنف" "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا
شانه" "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" "إذا أراد الله بأهل
بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) ..
التوأدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة" فهذه
كلها أحاديث ثابتة صحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس عليكم
بالسكينة، فإن البر ليس بِالْإِيضَاعِ" أي الإسراف.
انظر إلى حال الناس وهم ينطلقون من عرفة أمر هائل لماذا
ذلك كله؟ لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسير سير العنق -أي يسير سيراً
رفيقاً- فإذا وجد فجوة -أي كان متسعاً غير مزدحم- نص -يعني أسرع- رواه البخاري.
◄الوصية السابعة:
◄ هل تعلم إلى أين تتجه؟ أنت تتجه إلى حرم الله الذي يؤخذ فيه على الهم بالمعصية {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [(25) سورة الحج] إذا هم العبد بالمعصية في حرم الله أخذه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة" "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة"..
فهل أدركت هذا المعنى؟ انتهاك حرمة الحرم قد تكون
بتقذيره، والله قد قال لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ} [(125) سورة البقرة] فتقذير الحرم -وترون ألواناً من هذا- مما
يصدر من بعض الحجيج، أو بعض المعتمرين لا سيما في رمضان، قلة المبالاة، يأكل فيترك
بقايا الطعام في الحرم، ولربما لوث الفرش، وزاحم الناس وآذاهم، ولربما تكلم
بالغيبة والنميمة والفحش والباطل في حرم الله -عز وجل-، ووقع منه ما لا يليق من
إخلال لحرمة الحرم من إخلال فيه أو سرقة، أو تعدٍ على عباد الله -عز وجل- الذين
ينتهكون حرمة المسجد بأفعال متنوعة، أقل ذلك لربما المشادة والمزاحمة والمخاصمة
على الفرش يضعها في غير ما وضعت له، من أجل أن تكون متكئاً، أو أن يحجز فيها محلاً
لا يحق له أن يتحجره، ولربما استعمل الماء الذي قد وضع للشرب في غير موضعه، بل
لربما غفلنا عن أمور لربما نظن أنها سهلة، تجد الفئام من الناس يأتي كل واحد يهرول
وقد أخذ أربطة من هذه الكؤوس، وجاء يكومها في محله يداريها عن الناس، أليس هذا من
التعدي في الحرم؟ أليس هذا من أخذ ما لا يحل له أن يأخذه؟
أمور كثيرة جداً لربما نغفل عنها، وهي داخلة تحت الإلحاد
فيه، فعظم هذه البقعة، واستحضر رقابة الله -عز وجل- عليك، واعلم أن هؤلاء الحجاج
هو وفد الله، فإياك أن تؤذيهم في حرمه.
◄الوصية الثامنة:
◄وهي أن تتذكر أن الأجر على قدر المشقة، وقد سمعتم قول
النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: "ولكنها على قدر نصبك
-أو قال-: نفقتك" الأجر على قدر المشقة، وبالتالي لا حاجة إلى التنافس في
التنعم، يفتخر الإنسان أنه وفق في حملة وفر له فيها ألوان النعيم، من كل ما لذ
وطاب، هل هذا هو المطلوب؟ الذي يحج ينبغي ألا يكون طائفاً حول نفسه، يطوف حول
شهواته، يريد أن يستصحب كبرياءه وشهواته معه في حجه، فلا يتنازل عن شيء منها، يغضب
إذا تأخر الطعام، أو إذا وجد نقصاً فيه، أو فاته فيخاصم على ذلك ويرفع صوته، ويدخل
في شجار وعراك أو اشتباك بالأيدي، في أمور يستحي العاقل من رؤيتها ومشاهدتها، ولا
يد له فيها؛ لكنها أمور مخجلة ومحزنة تنبئ عن نفوس حقيرة دنيئة، إذا رأيت الرجل
يغضب للطعام، إذا رأيت الرجل يغضب في الطعام ولو في بيته، فاعلم أنه يحمل نفساً
صغيرة، الكبير لا تحركه هذه الأمور الصغار.
فينبغي أن تكون طائفاً لبيت الله، ولا يكون طوافك حول
النفس، فخل وراء ظهرك تلك الشهوات والمألوفات، فالحج يحتاج إلى لون من تصبير النفس
وفطامها عن كثير من إلفها، النفس تحتاج إلى ترويض، وقد جاء عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- لما سئل عن الحاج من هو؟ قال: "الشعث التفل" وقد سمعتم في
الأحاديث: "شعثاً غبراً).. وقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يفرض على
أهل مكة في أيام خلافته يقول: الناس يأتون شعثاً غبراً يأتون إلى مكة شعثاً غبراً
وأنتم تأتون مدهنين - يعني أن أهل مكة يأتون في اليوم الثامن يحرمون- فكان يلزم
أهل مكة أن يحرموا بالحج من اليوم الأول من ذي الحجة من أجل أن يكونوا شعثاً
غبراً، فأين هؤلاء من أولئك الذين لا يذهبون إلا وهم قد ضمنوا لأنفسهم غاية الترف؟
هل هذا هدف ومقصود في الحج؟ هل هذا هو الذي يتنافس عليه المتنافسون؟ أنواع
المأكولات والحلوى والمشروبات وسمر لا سيما النساء إلى أذان الفجر في قيل وقال بين
أكل وشرب وتفكه، تارة بالطعام وتارة بالأعراض، ثم تقول الواحدة: ما كنا نظن أن
الحج بهذا الأنس، نريد أن نحج في كل عام، استأنست وانبسطت ولماذا لا وهي في مثل
هذا الحال؟ لكن هل هذا هو معنى الحج حقيقة؟ كم من إنسان يذهب إلى تلك البقاع ولكنه
لم يحج.
◄الوصية التاسعة:
◄ تذكر أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة،
فأنت تريد أن يكون الحج مبروراً والحج المبرور "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه" دعنا من الكلام الكثير، دعنا في أمور قريبة تلامس كل
أحد، هل استشعرت أن النظر الحرام من الفسق؟ من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه
كيوم ولدته أمه، هل استشعرت هذا المعنى؟ هل استشعرت أن التعليق على الناس والتهكم
بهم من الفسق؟ هل استشعرت أن التوسع في الكلام والجدل من غير طائل والكلام الذي
فيه فحش أو كذب أو غيبة أو غير ذلك أنه من الفسق؟ بمعنى أن الحج قد لا يكون
مبروراً من حج فلم يرفث ولم يفسق، فاحفظ عينيك ولسانك من أجل هذا أردنا أن نقول
هذا الكلام قبل الحج، لا بد من التذكير بهذه المعاني، إذا شرع الإنسان في الإحرام
ونظر ألف نظرة، ثم يسمع هذا الكلام في أيام التشريق، وقد لا يسمعه إلا إذا رجع فما
الفائدة؟
كم سمعنا من إنسان يقول: أريد أن أحج حجة ثانية، هل يمكن
أن تكون الثانية هي حجة الإسلام؟ هيهات، الحجة الأولى هي التي تعتبر حجة الإسلام،
أياً كانت ممن خالطها من الفسق والآثام، فلا تخاصم، ولا تجادل، ولا يقع منك معصية
بغيبة أو نميمة أو فحش أو نظر محرم، أو غير ذلك.
◄الوصية الأخيرة:
◄تذكر جيداً أنه لا يخلو حالك من أحد أمرين:
إما أن يكون الحج مقبولاً مبروراً، نسأل الله -عز وجل-
أن يجعلنا وإياكم جميعاً كذلك إخواناً مسلمين، وأن يقال: انصرفوا مغفوراً لكم، وأن
تحط عنا الأوزار، فإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة لأن تسود صحيفتك بعد الحج من جديد،
فليس هذا من شكر النعمة، بعد أن حط الله عنك الخطايا والذنوب تعود لتسود صحائفك؟!
وأما إذا كانت الثانية: وهي الخيبة، فيرجع الإنسان وقد
حرم، فيرفع يديه: "لبيك وسعديك"، فيقال: لا لبيك ولا سعديك، فهذه هي
الطامة، فمثل هذا ينبغي أن يبكي على نفسه طويلاً، يبكي على قلبه، وعلى ذنوبه، وعلى
إسرافه في أمره، أن حرم ورد وطرد، فلا حاجة في أن يرجع إلى سيرته الأولى من جديد،
عليه أن يعاود التوبة ويستغفر ربه ويبكي كثيراً على نفسه، ومن ثم فإنه يتعين على
هذا وهذا أن يرجعوا بحال أخرى بعد الحج، رجاء أن يبدل الله -عز وجل- ما بهم.
لما أحرم الحسن بن علي -رحمه الله- وهو من هو؟ سيد شباب
أهل الجنة، حج خمس عشرة حجة على قدميه والنجائب تقاد بين يديه ما اشترط مركباً
خاصاً فارهاً، حج على قدميه والنجائب تقاد بين يديه، لما أحرم بالحج واستوت به
راحلته اصفر لونه وارتعد ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لك؟ قال: أخشى أن يقول
لي: "لا لبيك ولا سعديك"، هل قلوبنا وصلت إلى هذه المراتب؟
المقصود أنه ينبغي على الإنسان أن يعزم أن يرجع بوجه
جديد وبحال جديدة بعد الحج، ولربما لم يعتد أهله منه ذلك الإحسان والإفضال والخلق
الحسن لا ضير، المصيبة أن يستغرب منا حسن الخلق، من الناس من يستغرب منه الكلمة
الطيبة، يستغرب أبوه أن يقبل رأسه إذا دخل أو خرج، يستغرب منه البر، هذه مصيبة،
ولربما يستحي بعض الناس يقول: لم يعتد أبواي هذه الملاطفة فماذا سيقولون؟ نقول:
نعم، اعتادوا منك الجفاء والغلظة والعقوق ألا تريد أن تغير؟! ينبغي أن يكون
المستغرب منك هو الجفاء والإساءة، استغرب فلان ليس من عادته، فمن الذي كدره في هذه
اليوم فسمعنا منه كلمة على غير المعتاد؟ لربما فيها شيء من الشدة أو الغلظة؟
هذه عشر وصايا قصدت بها نفسي أولاً، وقصدت بها إخواني... وأسأل الله -عز وجل- أن تكون سبباً لحج مبرور، ولعمل مشكور، وأن يتقبل منا ومنكم، كما بلغنا هذه الأيام الشريفة أن يبلغنا بيته الحرام، وأن يجعل ذلك ليس آخر عهدنا بالدنيا، وأن يقينا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظنا وإياكم بالإسلام قائمين، وبالإسلام قاعدين، وبالإسلام راقدين، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.