الروائي إلياس خوري يكتب: «سعيد عقل في مالطا!»
لم يخطر في بالي، وأنا أستعد للمشاركة في مهرجان مالطا، أن سعيد عقل سيكون رفيقي في هذه الرحلة. فعلاقتي بشاعر «رندلى» كانت دائما ملتبسة. لغته العباسية في قالبها المحدث سحرتني، لكنني أشعر أمام رمزيته المفرطة بجليد رخامي يحجب المعاني التي يحاول القبض عليها.
لم أفكر في سعيد عقل في سياق رحلتي المالطية، فالكاتب العربي الوحيد الذي أقام في مالطا وكتب عنها هو أحمد فارس الشدياق. وأذكر أنني قرأت كتابه «الواسطة في أحوال مالطا»، عندما كنت طالبًا جامعيًا، فقررت أن أضع هذا الكتاب في حقيبتي كي أستعين به على معرفة أخبار هذه الجزيرة الصغيرة، التي يحار المرء في وصف مكانها في جغرافية البحر الأبيض، هل هي امتداد لصقلية أم هي جزء من خليج طرابلس في ليبيا؟ لكنني عدلت في اللحظة الأخيرة عن حمل هذا الكتاب الصغير، لأنني لم أتذكر منه سوى موقف الشدياق العدائي من مالطا والمالطيين، وهو صاحب هذين البيتين في مفتتح كتابه:
«وأصعب ما يلقى الفتى في زمانه/ إذا حلّ نجم السعد في برجه/ إقامته في أرض من لا يوده/ وصحبته مع غير أبناء جنسه».
لكنني كنت مخطئًا، اذ بدلًا من أن اصطحب معي الشدياق، وجدت نفسي مع شبح سعيد عقل، وبدلًا من بحوث العلامة العشقوتي اللغوية، الذي لم يجد لنفسه قبرا في قريته عشقوت التي نبذته بسبب عدائه للكنيسة المارونية، رأيت أمامي تهويمات سعيد عقل اللغوية التي قادته إلى اختراع «اللغة اللبنانية» المكتوبة بالحرف اللاتيني، التي ماتت لحظة ولادتها.
أصابتني مالطا بالذهول، ليس فقط بسبب جمالها وطيبة أهلها وكرم أخلاقهم وولعهم بالأدب، بل بسبب لغتها المهجّنة. فوجئت بالمالطيات والمالطيين، وهم يتكلمون لغتهم. إذ كان في استطاعتي فهم الكثير من الكلمات والتعابير من دون الحاجة إلى مترجم، كأنني استمع إلى إحدى اللهجات العربية، وقد امتزجت فيها المحكية التونسية والمغربية بالمحكية الشامية. الكاتب العربي الوحيد الذي قام بتحليل هذه اللغة ولو من باب هجائها هو الشدياق. ولم أفهم لماذا لا يعترف المالطيون بنسبهم اللغوي الواضح، ويصرّون على الابتعاد عن العربية وأهلها، رغم أنهم يتكلمون لغة الضاد، حتى لو لم يلفظوا الضاد والعين والغين والخاء.
سبحت في بحر مالطا الصخري الجميل، لكن سباحتي الفعلية كانت في اللغة. فالمالطيون يكتبون لغتهم، التي دخلتها الكثير من الكلمات الطليانية، بالحرف اللاتيني، وقاموا بتحويل عاميتهم العربية إلى فصحى مالطية، إلى درجة دفعت الشدياق إلى هجاء لغتهم بهذه الأبيات:
«تبا لها لغة بغير قراءة وكتابة عين بلا إنسانِ
تتبلبل الأفكار في تركيبها ويكلّ عنها كل حدّ لسان
أذنابها ورءوسها عربية فسدت وأوسطها من الطلياني».
لا شك أن أستاذنا الشدياق لو زار مالطا اليوم، لقام بحذف البيت الأول من هذا المقطع، لأنه كان سيشهد معي على نهضة ثقافية وأدبية كبرى في هذه الجزيرة، ولأكتشف الكتب التي لا تحصى التي تصدر في جزيرة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 400 ألف نسمة.
أما البيت الأخير فصحيح نسبيًا، إذا قبلنا بافتراض أهل عصر النهضة بأن العامية هي عربية فاسدة. غير أن النتاج الأدبي العربي المعاصر في الرواية كما في الشعر رفض هذه المقولة النهضوية، وقام باستخدام العاميات العربية المختلفة من أجل تطوير اللغة وتحديثها واعادتها إلى معناها الاصلي بصفتها ابنة الكلام.
الشدياق الذي ذهب صحبة المبشرين البروتستانت إلى الجزيرة كي يعمل على ترجمة التوراة والانجيل إلى العربية، وجد نفسه عالقًا هنا، وضربه الحنين إلى مصر ومناخها وطعم نيلها. لكن رغم كراهيته للمكان وأهله، فقد حاول في مجال معارفه اللغوية الكبيرة، أن يقدّم مقتربًا أوليًا للغة المالطية، وهو المقترب العربي الوحيد، على حد علمي، الذي كتب حتى الآن.
ما سر هذه اللغة؟
لغة تلفظ فيه القاف ألفًا، كما في بيروت ودمشق، ويجري فيها تمييل الألف كما في التونسية واللبنانية، وتعج بالكلمات العربية الممتزجة بالطليانية، ويرفض المتحدثون بها نسبتها إلى لغة العرب، فينسبونها إلى الفينيقية تارة والحبشية تارة أخرى.
ولماذا لم تنقرض بعد تنصير أهل الجزيرة كما حصل في الأندلس؟ وكيف انفصلت عن لغتها الأم، لتصير لغة أوروبية يتيمة لا نسب لها في اللاتينية أو اليونانية؟
أستطيع أن أقدم أمثلة عربية لا تحصى نجدها في المالطية، كما تجدر الإشارة إلى الجزيرتين الصغيرتين الملتصقتين بمالطا: فلفلة وكمونة، باسميهما العربيين الصريحين، أو أقول الآن أنني «مِشتاء لمالطا» أي أشتاق للجزيرة وأريدها. (لاحظوا أن لفظ مشتاق في المالطية تُلفظ كما في العامية اللبنانية) أو أن أقول: «كيف إنتِ» بالماطية كي أقول مرحبًا أو كيفك بالعربية، أو أقول «لودوا طيبة»، حيث تصير الغين لاما في غدوة، كي أقول صباح الخير، وكلمات لا تحصى مثل كتاب وأبيض وأسود، و»فتيت» للقليل و»حفنة» للكثير وإلى آخره…
لا شك أن أحد عوامل صمود اللغة المالطية بعد اندحار العرب منها في القرن الحادي عشر، هو عدم اكتراث الافرنج بسكانها، فمالطا التي حكمها الفرسان الصليبيون من جماعة القديس يوحنا نحو خمسة قرون، لم تكن بالنسبة لهؤلاء النبلاء – الفرسان الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، سوى أرض حصون للدفاع عن أوروبا، خصوصًا مع محاولات التمدد العثماني. فانقسمت الجزيرة إلى قسمين: السكان من الفلاحين والحرفيين الذين تنصّروا من جهة، وبقايا الصليبيين الذين طردهم صلاح الدين من القدس بعد تحريرها من جهة ثانية. فرسان يوحنا من نبلاء أوروبا ابتعدوا عن السكان، ولم يمارسوا سوى استغلالهم، فبقي الناس على عاداتهم بعد تطبعهم بمسيحية رومانية كاثوليكية متحجرة. وصمدت لغتهم بصفتها عنوان هويتهم.
تشعر على شواطئ مالطا أنك أمام مجموعة من القلاع الصليبية، هنا اجتمعت بقايا الصليبيين المندحرين من بلادنا، وهنا يكمن سر مالطا ورفضها الاعتراف بعربية لسانها.
وهذا ما فات سعيد عقل الذي أراد أن يبني اسطورة حرفه اللاتيني على الفينيقيين، الذين لا علاقة لهم باللغات اللاتينية. المشروع الثقافي- السياسي الذي روّج له الشاعر اللبناني ينقصه الإفرنج، ومحاولته استبدال الصليبيين بإسرائيل لم تكن ممكنة، لأن الاسرائيليين لا يشعرون بأي تعاطف مع أقلية مسيحية بنت هويتها داخل فكرة العروبة، ثم قرر بعض الحمقى من قادتها التخلي عن هذه الهوية لتصير بلادهم قلعة صليبية بلا صليبيين.
مسكين سعيد عقل، كان يجب أن يقرأ كتاب الشدياق وان يتمعن في دراسة اللغة المالطية قبل أن يتحفنا بمشروعه اللغوي.
عدت إلى بيروت متلهفًا لقراءة الشدياق من جديد، ومتسائلًا متى يحين الوقت كي تعي اللغة العربية أن لها شقيقة صغيرة في مالطا؟