لا دولة بدون مدنية
الفقيه الدستوري ثروت بدوي "رحمه الله" كانت له تجليات فلسفية تعلم منها المئات من تلاميذه.. وفي أحد برامج التوك شو التي كنت أترأس تحريرها، طلبت منه الحديث باستفاضة عن مفهوم الدولة العصرية، وكان ذلك في شتاء 2011، حيث المناخ الثوري الذي يسيطر على مصر، واستعداد الإخوان وتيار الإسلام السياسي عموما للانقضاض على الحكم، باعتباره الأكثر جاهزية كنتيجة لتدمير نظام مبارك للحياة السياسية، واكتفائه باحتضان الإخوان والسلفيين.
وبدأ بدوي كلامه بهذه الجملة العميقة والمعبرة "لادولة بدون مدنية".. واستوقفته المذيعة سوزان حرفي، لتسأله هل يقصد أن الدولة في هذه الحالة تكون ضعيفة.. فكان رده حاسما: إنه لا وجود لدولة دون مدنية.. وشرح مفهوم المدنية بمعناها الشامل.. فالحكم الديني أيا كانت مظاهره ودوافعه يتنافي تماما مع المدنية، وكذلك كل أشكال الحكم التي لا تعتمد على الفكر المدني، وتفعيل دور المؤسسات لتكون هي الحاكمة.
وحاورته كثيرا صديقتي سوزان حرفي، خاصة أن لديها إلماما واسعا بالإسلام السياسي، وأنماط الحكم، وسردت له نماذج من الدول عبر فترات زمنية مختلفة، بعيدة عن مفهوم المدنية، سواء كانت نماذج تستند لمرجعيات دينية، أو يغلب عليها تغييب المؤسسات، والاعتماد على حكم الفرد..
فكان حاسما ومتمسكا بجملته "لادولة بدون مدنية"، وأنه لايمكن توافر شروط ومقومات الدولة من غير ذلك، ولكن نستطيع أن نطلق عليها نصف دولة أو ربع دولة.. فهي تظل كيانا هشا لا يقف على أرضية صلبة تتحرك عليها الأحداث، ويتعاقب فوقها الأجيال، وتظل ثابتة، كحال الدولة المدنية التي لاتتأثر بفرد أو أشخاص مهما كان عددهم وحجمهم.
رحم الله ثروت بدوي الذي لخص كل شيء في ثلاث كلمات، يحتاج شرحها لمجلدات تفسر فلسفة المدنية، وأركانها، وتأثيرها في الشعوب، وعلي الحضارات، وضمانها للتطور والحرية ورفعة البشر ورقيهم، ونضال الإنسان من أجل الحياة الكريمة والمشاركة في الحكم وإرساء قيم العدالة والتقدم.