رئيس التحرير
عصام كامل

سعد إدريس حلاوة.. أول شهيد يرفض التطبيع مع إسرائيل.. أشرف على عملية اغتياله النبوى إسماعيل بتكليف من السادات.. لقب بمجنون مصر.. ليبيا أقامت له تمثالا.. وسوريا كرمته بمسلسل إذاعى.. ونحن تجاهلناه

فيتو

عندما تتجول فى محافظة القليوبية، وبالتحديد فى قرية أجهور الكبرى مركز طوخ تجد قبرا عاديا أصبح مزارا للناس وتجد احتفالية سنوية تقام لواحد من أبناء مصر الذين كتبوا أسماءهم بحروف من نور، سجلها التاريخ فى أذهان الناس ولم يسجلها الكتاب فى كتبهم أو قصصهم أو مقالات تنشر فى الصحف.


القبر لـ"سعد إدريس حلاوة"، ابن قرية أجهور الكبرى التابعة لمركز طوخ قليوبية وأول شهيد لكونه رفض التطبيع مع إسرائيل، وتم قتله برصاص "الشرطة" فى عملية قادها بنفسه النبوى إسماعيل، وزير الداخلية فى ذلك الوقت، وتابعها الرئيس السادات شخصيا، وكان ذلك يوم إعلان "السادات" بدء تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

ذهبنا إلى منزل سعد إدريس حلاوة، الذى كرمته ليبيا عندما صنعت له تمثالا ووضعته فى أحد ميادينها، وكرمته سوريا عندما أنتجت له مسلسلا إذاعيا يحكى عن حياته الشخصية وكيف عاش ومات بطلا.

منزل البطل سعد إدريس حلاوة مقام الآن على الطراز الحديث، مقسم بين أبناء أخوته، ويحكى لنا مروان سليمان إدريس حلاوة، الابن الأكبر لشقيق سعد فى وجود كثير من عائلة "حلاوة" وهى أكبر عائلة موجودة بقرية أجهور الكبرى ويقول إن "سعد" كان فى طفولته يعيش بين أخوته وأولاد أعمامه حياة عادية، وكان شديد الذكاء، وعندما انتقل للتعليم فى القاهرة سرعان ما عاد بعد وفاة والده، وقرر أن يبقى فى أجهور لمتابعة نشاط الزراعة فى أرضه التى تبلغ فى حينها 15 فدانا.

وفى يوم 26 فبراير عام 1980، خرج الرئيس السادات من بيته مستقبلا "إلياهو بن عازر" واعتماده أول سفير إسرائيلى فى مصر بقصر عابدين، وحينها "فار دم" سعد إدريس حلاوة وكانت له وجهة مختلفة، فجهز شنطة سفر كبيرة تحتوى على مدفع رشاش ومسجل صوت ومكبر صوت وتسجيلات للقرآن الكريم بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وخطب لجمال عبدالناصر، وأغان وطنية بصوت عبدالحليم حافظ، واستقل "موتوسيكل متهالك" من النوع الذى يستخدمه أهالى القرية فى التنقل بينها وبين القرى المجاورة فى محافظة القليوبية، واخترق الطريق المؤدى إلى الوحدة المحلية لقرية أجهور، ووصل هناك فوجد ثلاثة من الموظفين يجلسون أمام الوحدة المحلية فى شمس الشتاء، ثم نادى سعد إدريس حلاوة على الحاج نصيف خاطر، سكرتير الوحدة المحلية فى هذا الوقت.

يخبر "سعد" الموظفين بالوحدة المحلية بأنه أحضر لمن يشترى بعض البضائع، ويتكاثر الموظفون حول الفلاح الشاب يطلبون منه أن يفتح الشنطة "للفرجة على البضائع" فيطلب هو منهم أن يدخل أولاً "دورة المياه" ليغيب داخلها أقل من دقيقة ويخرج فى يدة مدفع رشاش مصوب تجاه الجميع، ففر كل الموظفين الموجودين بالوحدة ولم يبق سوى اثنان فى حجرة مطلة على فناء الوحدة المحلية التى مازالت مكانها حتى الآن.

وفى نفس التوقيت بالضبط كان السادات مع السفير الإسرائيلى "إلياهو بن عازر" فى غرفة مغلقة بقصر عابدين لمدة نصف ساعة بعيداً عن رجال الصحافة المحلية والعالمية، بعدها بثت الإذاعة المصرية تفاصيل اعتماد السفير الإسرائيلى وعندما سمع "سعد" هذه التفاصيل، أطلق وابلا من الرصاص من خلال شرفة الوحدة المحلية وبعدها أسكت الراديو ووضع شريط كاسيت لعبدالحليم حافظ، وصوب الراديو من خلال مكبر الصوت ناحية القرية حتى يعلو صوت عبدالحليم حافظ بدلا من صوت إعلان التطبيع بين مصر وإسرائيل، وأعلن أنه لن يفك اعتصامه إلا بعد طرد السفير الإسرائيلى من مصر.

الطريف فى الأمر أن عمدة القرية هو عم سعد إدريس حلاوة، الذى أراد أن يخلى مسؤليته فاتصل بمركز طوخ وسرعان ما يتصل المركز باللواء أحمد مختار، مدير أمن القليوبية فى ذلك الوقت، وسرعان ما يتصل مدير الأمن بالنبوى إسماعيل وزير الداخلية، وتكتمل حلقة الاتصالات عندما اتصل النبوى إسماعيل بالرئيس السادات وطلب من رجال السادات دخوله على الخط الساخن لأمر هام وعاجل.

احتفظ مروان سليمان إدريس حلاوة، ووائل محمد عبداللطيف حلاوة بنص التحقيقات التى أجريت لمدة عام كامل، فتح التحقيق فى هذة القضية أكثر من أربع مرات والوثائق التى كتبها شفيق أحمد على، وكيل النيابة الذى باشر التحقيق فى القضية، واقتنع بظلم السادات لذا سرب وثائق سرية من التحقيقات كان أهمها الحوار الذى دار بين النبوى إسماعيل والرئيس السادات.

ذهب وزير الداخلية فى ذلك الوقت النبوى إسماعيل إلى أجهور ليشرف على عملية تصفية سعد إدريس حلاوة، وعندما نزل من سيارته يلتقط الميكرفون من اللواء حسن أبباشا ويأمر فورا بضبط وإحضار المواطن سليمان عبدالعزيز عبدالمؤمن سليمان، سائق "الموتوسيكل" الذى نقل سعد وحقيبته إلى الوحدة المحلية، ويأمر بضبط الحاج نصيف أبوخاطر سكرتير الوحدة المحلية الذى هرب من الوحدة، وينادى أيضاً على المقدم وجدى بيومى، الذى تم تزوير الانتخابات الأخيرة له من قبل الحزب الوطنى، والذى كان يعمل بالمباحث الجنائية فى ذلك الوقت ليفتش منزل سعد حلاوة ويأمر بضبط وإحضار والد ووالدة وأشقاء "سعد".

استعان النبوى إسماعيل بأقرب الأقربين إلى سعد إدريس حلاوة، للتأثير عليه والعدول عن موقفه، فوضع السلاح فى ظهر والدة سعد وعندما طالبته بالعدول عما هو فيه رد عليها قائلا: "ارجعى يا أمى وافتحى قبر والدى واعتبرينى من الشهداء دفاعا عن الوطن ضد الخونة"، كما رفض توسل الشيخ خاله الشيخ نور حلاوة، كما اتهم عمه العمدة بالعميل والخائن المنتمى إلى الحزب الوطنى، وكأنة كان يعلم مصير الحزب الوطنى قبل أكثر من 40 عاما.

فى هذه اللحظة تعاملت قوات النبوى إسماعيل مع سعد بإلقاء وابل من الرصاص عليه محدثين إصابة فى فخذه وعينه، وبعدها فر الرهائن المحتجزون داخل الوحدة المحلية، وقبل أن تتم عملية التصفية، كتب "سعد" بدمه على جدران الحجرة "لا إله إلا الله - تعيش مصر حرة"، وبعدها ألقوا عليه القنابل المسيلة للدموع، وتمت عملية التصفية من النبوى إسماعيل بإشراف السادات.

سعد لم يؤذ أحدا ولم يقم بإهانة المحتجزين ولم يطلق طلقة واحدة لإصابة أحد، ووصف بـ"المجنون"، كما يؤكد أبناء قريته وأبناء عائلته أنهم يتشرفون بتسميته البطل المجنون، لأن من رفض التطبيع مع إسرائيل وعبر عنه فى هذا الوقت بمثل ما عبر عنه "سعد" كان يعنى مقاومة كبيرة لم يتوقعها أحد، ولهذا تم وصفه بالمجنون".

كان "سعد" يتصف بالجود والكرم والشهامة، وذلك بشهادة كل أقاربه وأصدقائه، وكان يقوم بتوزيع الثمار من التمر والجوافة وكل ما يملك على جميع الأهل والأقارب والمحتاجين، ويفعل ذلك دون أن يراه أحد، وكان يشرف على تحسين حال المسجد الذى يداوم على الصلاة فيه، ويقوم بترقيم مكان تلاوة القرآن الكريم بوضع زهرة من الزهور التى تشتهر بها القرية على الصفحة، التى توقف عندها فى القراءة.

سعد كان حريصا على صلة الرحم ومحبة الأطفال وبشوش الوجه، والأهم أنه كان صاحب وجهة نظر فى الحياة، وكان يستطيع على يسر حاله أن يعيش منصرفا عن أحوال بلده، لكنه ولأنه صاحب وجهة نظر أقدم على ما فعله وهو يعلم تماما أن الثمن سيكون حياته كلها وهذا ما حدث بالفعل.

ورفض ابن القليوبية البار بتضحيات أمته، والفلاح البسيط (المولود فى 1947)، ورفض المقايضة على دماء شهداء الحروب مع إسرائيل.

ومن هذا اليوم تحتفل أجهور الكبرى بميلاد ورحيل سعد حلاوة، الذى أصبح قبره مزارا لكثير من السياسين وخاصة الناصريين.

يقول نزار قبانى عن سعد الدين حلاوة: سعد إدريس حلاوة هو مجنون مصر الجميل الذى كان أجمل منا جميعا وأفصح منا جميعا وأجمل ما به أنه أطلق الرصاص على العقل العربى الذى كان يقف فى بلكونة اللامبالاة عندما تم التطبيع مع إسرائيل يوم 26 فبراير عام 1980، سعد كان جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء وحجم الكرة الأرضية.
الجريدة الرسمية