مذبحة القلعة.. الجريمة التي حررت مصر
بعد سنوات من عدم الاستقرار التي تلت خروج الحملة الفرنسية من مصر ١٨٠١ م بسبب الصدمة الحضارية للمصريين إلى جانب إحساسهم بالقدرة على الثورة والتغيير.. مع العلم بأن خورشيد باشا هو خامس من تولي الولاية إلى أن جاء محمد على بدعم شعبي.
مر حكم محمد على بسلسلة من الاضطرابات في بدايته أهمها الحملة الإنجليزية بقيادة فريزر ١٨٠٧ م.. وظل المماليك يمثلون صداعا مزمنا لاستقرار الحكم كعصابات مرتزقة متناثرة أيضا بما يحملونه من أفكار رجعية لذا فقد صارعوا على مقاومة التغيير بكل الصور بل وصل الأمر بهم للتآمر ضد محمد على باشا، وكان هو على أعتاب تجهيز حملة للقضاء على الحركة الوهابية بالحجاز لذا فقد اتخذ قراره بالتخلص منهم قبل تحرك القوات حتى لا يستغلوا الفرصة في داخل البلاد.
وفي مذبحة القلعة تخلص محمد على باشا من قادة المماليك الذي تناوبوا على حكم مصر منذ مقتل شجرة الدر وتولي عز الدين إيبك الحكم ١٢٥٠ م فكانت أكبر عملية اغتيال سياسي في تاريخ مصر.
ومن هنا اتهموه بأنه ديكتاتور دموي حقق انفراده بالسلطة عن طريق قتل منافسيه السياسيين ولكن على الجانب الآخر فقد كانت بداية حقيقية لتحرير مصر من الرجعية والتخلف نحو بناء مصر الحديثة، وأنشأ الدواوين (الوزارات) وأسس جيشا وطنيا مصريا، أيضا تعليم حديث وقوانين تحقق المواطنة والمساواة وطور الزراعة وأنشأ المصانع وأصبحت مصر نموذجا للتطور والحداثة تنافس دول أوروبا، ولعل ظهر ذلك عندما طغت قوة مصر على قوة الدولة العثمانية في معركة نصيبين عندما أراد محمد على الاستقلال بإمبراطوريته وهي مصر والسودان والحجاز والشام مما دفع القوى العظمي لترتيب ما سمي بتسوية لندن ١٨٤٠ م مع السلطان العثماني لكسر شوكة الإمبراطورية الوليدة ولضمان سيطرة السلطان العثماني (رجل أوروبا المريض) على الشرق الأوسط..
وقد قضت هذه الاتفاقية على أحلام محمد على بدءا من تحديد قدرات الجيش إلى الغزو الاقتصادي مما سبب انهيار الصناعات إلى تأخر المشروع القومي في التعليم والثقافة واستعاد الأتراك سيطرتهم على مقاليد المجتمع مما حطم أحلام التحرر والحضارة وبالطبع أغروه بتوريث أولاده الحكم مقابل ذبح الحلم الوطني الذي سيهدد توازن القوى وسيطرة الدول العظمي.
إن عبقرية محمد على باشا أنه حقق بالمصريين تطورا حضاريا هائلا رغم أنهم من وصموا لقرون بالجهل والتخلف ليترك ومضة أمل في تاريخ المصريين في لحظة استثنائية فريدة تحققت فيها إنجازات هزت موازين القوى العالمية.
نعود لمعضلة مذبحة القلعة حيث قرر محمد على دفع أي ثمن لتحقيق مشروعه الحضاري نحو مصر وعادة ما تأخذ النقاشات المجتمعية بين الرؤي سنوات من النقاش بين الرأي والرأي الآخر، ليتم وأد المشروع الحضاري ذاته مع الوقت لهذا فلم يكن أمام محمد على سوي المذبحة وسواء اتفتنا أم اختلفنا على أخلاقيتها فقد كانت المعبر للتخلص من المماليك وإن كان اتهام محمد على بالديكتاتورية والتفرد بالحكم فقد كانوا أكثر دموية منه نحو الشعب المصري بعد قرون من الظلم والجهل والفاشية وإن كان هناك من يتخذ من نفي محمد على للقائد الشعبي الشيخ عمر مكرم حجة لإثبات الديكتاتورية، فقد قرر محمد على تنفيذ مشروعه الحضاري بعيدا عن أيدي المشايخ وآراء العوام ولم تكن مصر قبله بدولة حرة وإنما كانت تحيا في غياهب الأساطير والدروشة الدينية.
لا أدافع عن جريمة سياسية ولكن نتائجها التحررية هي ما شفعت لها وإلا فلم نكن سنري مصر الحديثة نهائيا لأن الاحتلال الذي قدم إلى مصر لا يصنع حضارة ولم يهجرها إلا من عشرات السنوات مخلفا واقعا يحقق له مثلث الجهل والمرض والفقر لتواجهه مصر سلسلة من التحديات أمام التحرر والحضارة.
فتشوا الكتب فالتاريخ يعيد نفسه.