التأمين الصحي بين دروس الماضي وآمال المستقبل (3)
إذا نظرنا للإنفاق الصحى الكلى في مصر وفقا لما صدر عن البنك الدولى ومنظمة الصحة العالمية في آخر نشراتها حول متوسط الإنفاق السنوى للدول على الفرد، سنجد أن المتوسط العالمى يزيد عن الألف دولار للفرد، وتأتى في المرتبة الأولى النرويج بنحو 9700 دولار للفرد سنويا، في حين نجد أن مصر وقبل التدنى الأخير في قيمة عملتها(صدرت النتائج، حيث كان الدولار يعادل 6.5 جنيهات)، كانت في المركز 124 على العالم بمتوسط إنفاق 174 دولارا على الفرد في العام.
وهذا المتوسط يشير إلى إنفاق كلى نحو 101 مليار جنيه يمثل الإنفاق الحكومى فيها نحو الثلث. وعلينا أن لا ننسى أن هذه التقديرات تعتمد على بيانات وزارة الصحة التي تتسم بعدم الدقة وإغفال كثير من طرق الإنفاق على الصحة سواء في الأماكن غير المسجلة أو مبيعات الأدوية الكلية بما فيها المهربة والخدمات غير التقليدية المرتبطة بالصحة والتي يمارسها غير الأطباء، وكذلك إنفاق المصريين على العلاج بالخارج وهذه البنود قد تستهلك مئات المليارات.
وعلينا أن نتذكر أن فوضى التأمين الصحى الحالية لا يمكن أن ينتج عنها إحصاءات تساعد على التخطيط الصحى، فبينما تأتى أجور العاملين بالقطاع الطبى في ترتيب متأخر مقارنة بالجور العالمية تقترب بعض المستلزمات من ضعف السعر العالمى ومعدل الإنفاق على أعمال التجديد الإنشائية أربعة أو خمسة أضعاف المعدلات العالمية نظرا لانتشار الفساد الإدارى والمالى.
ومن المهم أن نظهر هنا إلى تجارب بعض الدول الأفريقية، ومنها دول جنوب الصحراء، والتي تعد من أفقر دول العالم لكنها تتقدم على مصر في متوسط الإنفاق السنوى على الفرد في الصحة، فهناك غينيا الإستوائية التي يبلغ المتوسط فيها 663 دولارا وناميبيا 499 دولارا سنويا، وموريشيوس 482 دولارا، وبتسوانا 385 دولارا، وليبيا 372 دولارا، والجابون 321 دولارا، وجيبوتى 191 دولارا.
إذا نظرنا للدول العربية نجد أن بعض دول الخليج يصل المتوسط فيها لأكثر من ألفى دولار سنويا، وأن من الدول غير البترولية كلبنان والأردن ما يتعدى الخمسمائة دولار سنويا. ومع تدهور قيمة العملة وزيادة الأسعار وزياد السكان دون أن يقابلهم زيادة بنفس النسبة في الإنفاق الصحى فمن المتوقع أن يحدث مزيدا من التراجع في متوسط الإنفاق السنوى على الفرد وترتيب مصر بين دول العالم.
بعد هذا الدراسة السريعة في الوضع القانونى والمالى للصحة في مصر نصل إلى الخلاصة الواجب ذكرها، وهى أن الزيادة السكانية الرهيبة والتي جعلت سكان مصر يتضاعفون في أقل من 30 عاما، ويليها فساد التخطيط وعدم التقدير الموضوعى لتكلفة الخدمة متضمنة أجورا حقيقية للفريق الطبى وتكلفة صيانة الأجهزة وإحلالها وتكلفة نشر مقدمى الخدمة بالتوازى مع انتشار السكان، وكذلك تكلفة حقيقية الدواء والمستلزمات تدعم هذه الصناعات وتقيم هذا الاقتصاد ثم وضع نظام للتأمين الصحى الشامل يغطى هذه التكلفة، ويضمن استمرار التمويل عن طريق اشتراكات حقيقية وموارد دائمة تغطى تكلفة الخدمة.
إن التدخلات السياسية وكتابة قوانين تحدد مقدار الاشتراك قبل تحديد تكلفة الخدمة هو مجرد تكرار لأخطاء الماضى ولا نتوقع منه نتائج مختلفة، فالتأمين الصحى هو بالأساس صندوق تعاونى تكافلى لتغطية تكلفة الخدمة الصحية لمن يحتاجها. إن افتراض أن المتوسط المطلوب هو 1000 جنيه للفرد في السنة (110 دولارات) بينما يصل المتوسط العالمى لأكثر من ألف دولار (تسعة آلاف جنيه بالسعر الرسمى للدولار)، ويصل الإنفاق في الدول المحيطة بنا والمقاربة لنا في الوضع الاقتصادى لأكثر من 500 دولار سنويا(و يصل في إسرائيل إلى نحو 2500 دولار للفرد في السنة)، فإن هذا لا يعنى إلا مخاطبة المشاعر لا العقول وتكريس الوضع الحالى بكل مشكلاته وأولها إهمال العامل البشرى. وكما نرى فالأمثلة أمامنا والحلول واضحة، وتبقى المصارحة والإرادة.