اللى كتب غلب!
في منتصف السبعينيات من القرن الماضى، كنت أشرف على رسالة دكتوراة لأحد تلاميذى بقسم الجيولوجيا، كلية العلوم، جامعة أسيوط.. وكانت الرسالة عبارة عن دراسة جيولوجية للصخور الرسوبية الموجودة في شرق مدينة "كوم أمبو".. في سبتمبر، سافرت أنا وتلميذى بالقطار من أسيوط إلى "كوم أمبو"، ونزلنا في استراحة شركة السكر هناك.. وقد سبقنا إليها بيوم السائق الذي سيرافقنا أثناء العمل الحقلى.. كان السائق يقود عربة قديمة، قدم الزمن؛ "جيب" ويلز حربى موديل عام ١٩٣٦..
كانت هذه العربة متهالكة وتفتقر إلى بعض الإمكانات الأساسية.. فهى على سبيل المثال، لا يدور موتورها إلا بــ "الزق"، لذا، كنا نقوم بتجريشها على سطح منحدر، حتى يسهل علينا دفعها قبل الركوب.. وكان السائق هو الآخر من طراز فريد، فهو يرتدى عمامة بيضاء وقد أطال لحيته بشكل ملحوظ.. لم يكن صوفيا، وإن كان يدعى ذلك من خلال العبارات التي درج على إطلاقها، كعبارة: "اللى كتب غلب يا سيدى".. كانت "الجوزة" لا تفارقه، حتى وهو في العربة.. وهى عبارة عن قارورة زجاجية حصل عليها عن طريق صديق له يعمل بقسم الكيمياء بكلية العلوم..
وقد صنع لها "منيما" بأسفل باب العربة على يساره.. كانت القارورة بفتحتين؛ الفتحة الأولى ثبت فيها "غابة" وضع عليها "الحجر" الذي يحمل "المعسل"، والفتحة الثانية ثبت فيها خرطوما طويلا من البلاستيك، قام بلفه حول عمود الديريكسيون لينتهى عند فمه، حتى يستطيع أن يدخن أثناء قيادته للعربة.. كانت تقوم بيننا وبين السائق مناقشات حول كثير من المشكلات التي تواجهنا، وكانت دائمًا تنتهى بعبارته الأثيرة والمستفزة: اللى كتب غلب يا سيدى(!)..
في أحد الأيام وبعد أن انتهينا من عملنا - بين المرتفعات والأودية - عدنا إلى العربة ونحن في قمة التعب والإرهاق.. كنا على بعد نحو ٦٠ كيلو من مدينة "كوم أمبو".. وكان علينا أن نقوم بعملية "الزق" المعتادة، استجمعنا قوتنا وطاقتنا إلا أن الموتور لم يعمل، ومن ثم استقرت العربة في بطن الوادى حيث غاصت عجلاتها في الرمال.. طلب السائق منا أن نعيد المحاولة مرة أخرى.. انتهزتها فرصة كى ألقنه درسا..
ركبت وتلميذى العربة، وبعد أن اعتدلنا في جلستنا، قلت: اللى كتب غلب يا سيدى.. رد السائق (متسائلا): يعنى إيه؟ قلت: يبدو أن الله تعالى كتب لنا أن نبيت هنا.. قال السائق (معترضا): لكن المبيت هنا فيه خطورة علينا، فقد تهاجمنا ليلا بعض الضباع المنتشرة في المنطقة.. قلت (مازحا): أمرنا لله.. اللى كتب غلب يا سيدى.. اضطر السائق إلى الاستسلام، ولم يردد عبارته الشهيرة..
حينذاك قلت: صحيح إن اللى كتب غلب، لكن من منا يعلم ما كتبه الله علينا؟ لقد أمرنا سبحانه أن نعمل وأن نأخذ بالأسباب.. ومع أن الله "هو الرزاق ذو القوة المتين"، وهو قادر على أن يرزقنا ونحن قاعدون في بيوتنا، إلا أن الرزق يأتى من خلال العمل الجاد والسعى الحثيث في الأرض.. لذا، يقول الحبيب (صلي الله عليه وسلم): "لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا"، أي إنها لا تنتظر طعاما يأتيها في عشها، بل عليها - وقد خلت بطونها - أن تنطلق في جد وهمة ونشاط باحثة عن الطعام، كى تعود من رحلتها وقد شبعت وامتلأت..
بعد هذا الدرس، نزلت وتلميذى لكى ندفع العربة وسط الرمال بكل طاقتنا، ولرحمة الله تعالى بنا دار الموتور، فقفزنا إلى العربة التي انطلقت بنا إلى الاستراحة بــ "كوم أمبو"..