لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص!
لا أعرف ماذا حدث.. كل ما أذكره هو صوت أقدام مدججة بأحذية تقرع طرقات الشارع الممتد في خطوات منتظمة بليدة حتى ظننتها دهرا.. كان ذلك في الصباح الباكر وسط أصوات قادمة من بعيد تبدو مثل التعليمات الصارمة التي لا تحتمل المناقشة.. وعلي الأسطح المجاورة لمبان قديمة صفراء شاحبة كانوا يختبئون خلف أطباق تتلصص علينا من كل مكان.. الوجوه لا تكاد أن تراها بينما يعم السواد كل شيء رغم الوقت المبكر وحرارة بدأت تلفح الوجوه.. انكسار الشمس على أعمدة الجسر الحديدية كان يوحي بسخونة في وجهي واحتقان في مفاصلي..
استسلمت لترهاتي وشعرت ببعض الونس حين وجدت صهريجا بشريا يتفكك في الاتجاه المقابل ليصبح كتلا تشع تدفقا وتحديا.. الأجواء تلطفت بنسيم قبل أن تعود السخونة في كل الجنبات.. الآن أتذكر أصوات قرعات طبول تشبه تلك التي كنا نراها في أفلامنا التاريخية القديمة.. شعرت بقشعريرة وتهيجا في أحشائي بفعل حموضة كانت تأتيني من وقت لآخر ولم ينفع معها الزانتاك أو ذلك السائل المستورد الذي لا أذكر اسمه الآن..
قرأت الفاتحة وآية الكرسي ثم انطلقت.. كانت صرخاتي كفيلة بأن تهزم شيئا غامضا بداخلي يدغدغني مثل وسوسة الشياطين لأهدأ وأركن وأعود.. ثم صارت الصرخة صرخات تتفاعل في جو هستيري مشحون بالغضب على كل الزمن الذي ضاع وأنا لا أفهم جوهر الحياة.. فحين تزيد الضوضاء ويعلو الراقصون والراقصات خشبة المسرح تتبعثر الأفكار.. قالها إحسان عبد القدوس.. لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص.. وقد رقصنا كثيرا ولم نستطع أن نفكر أو نتفهم لماذا جبل الناس على كل هذا العصيان الأخلاقي والتشتت الذهني..
كان الرقص على الشاشات شديد المهارة وكلما ازداد التصفيق وسخونة الصراخ كلما احتدم التمايل وغاب الوعي أكثر.. الآن توقف الرقص في جنباتي ليجتاحني تأمل كشف لي عن مرارة ما بعدها مرارة.. تزداد السخونة في وجهي وأندفع في لوم مسموع أكثر فأكثر.. لماذا أنتم هكذا ولماذا تتثاقل أصوات الأقدام وتغوص في الوحل الأحمر بكل هذه الجرأة والصفاقة واللامبالاة؟ رأسي يكاد ينفجر؟ ما هو سر الطاغوت وما هو حجم الصفاقة في داخل قابيل حين واتته كل الجسارة ليقتل هابيل.. بينما الأخير مستسلما في رومانسية يقينية تاركا أخاه يجهز عليه وهو مبتسم.. ولماذا عجز عن مواراة سوءة أخيه؟ هل لأنه جبان بطبعه أم مجرم بالسليقة؟ أم عاجز عن أبسط مقومات الشرف والإنسانية.. حينئذ سقطت..
ربما من الإعياء فكرا.. أو انصهارا من حرارة الجو ولهيب العويل.. لا أذكر.. المهم أنني وجدت نفسي أطير ولا أري من يحملني.. الحشرجة تتهدج في بلعومي وأنا أطير قبل أن أستقر في مكان شديد البرودة.. بدأت روحي تهدأ ونفسي تعوم في أنهار من اللبن والعسل.. ولا أعرف حتى الآن هل أنا ميت أم حي.. لكن الشيء الوحيد المؤكد أنني ولدت من جديد، فقاتلي لا زال مرعوبا من لحظة حساب قادمة لا محالة، أما أنا فهادئ النفس مستقر البال واليقين يلفني من كل الجهات!!