من أين تأتي الزبالة؟!
وحتى لا نُغضب إخواننا المُصححين والمُراجعين فالزبالة هي القمامة، مُخلفات البيت يعنى، لكن الزبالة بشكل أشمل هي كُل أنواع المُخلفات سواء مُخلفات بناء، أو صناعة، أو حتى المُخلفات الأخلاقية التي نراها عيانًا بيانًا في الشوارع ليل نهار!
أتابع مُنذ فترة مُبادرات تنظيف القاهرة والمُحافظات تحت مُسمى (حلوة يا بلدى)، والحقيقة أننا أفلحنا كعادتنا في إجهاد أنفسنا في البحث عن أسماء حلوة للمُبادرات، ومن ثم التصوير معاها أثناء رفع كيس زبالة من على الرصيف، أو كحت جبل سباخ من نهر الطريق، وصارت فكرة المُبادرة والتصوير معاها واسمها (اللَّذوذ) أهم كثيرًا من محتوى المُبادرة نفسها أو فكرة النظافة بعينها وهى المُستهدف من كُل ذلك، لكنه مُستهدف منسى مخفى خلف جبال من الزبالة الفكرية الاعتيادية!
في زمن الإخوان طلبوا من الناس الاهتمام بنظافة بلدهم عن طريق قيام كُل واحد بتنظيف الشارع بتاعه، كُنت قد وافقت على هذا الطلب العبيط بشرط واحد يخصم منه بعض العبط وهو أن يتم تسريح ملايين من مسئولى وعُمال النظافة في البلد والذين يتقاضون المليارات شهريًا من ميزانية الدولة بلا عمل، مع طلب آخر وهو عدم مُطالبتنا بدفع فواتير النظافة، ماهو مش معقول ألفح المقشة والجاروف على كتفى وانزل أكنس الشارع الساعة 8 الصبح، وأغرق في العرق والتراب والطين، وبعدين ألاقى مُحصل جاى لى الضُهر متكلين ومتبرفن وقاصص ضوافره ومالى شعره چيل، وأنا لسَّة مستحمتش ولا غيَّرت هدومى المعفنة، وبيقول لى عاوزين فاتورة النظافة!
والحقيقة أن مُشكلة الزبالة قبل ثورة يناير وبعد ثورة يناير وقبل ثورة يونيو وبعدها لا تزال مُشكلة شعب في الحقيقة، بالإضافة لكونها مُشكلة حكومات وأنظمة مُتعاقبة فشلت في التعامُل مع الأمر رغم بساطته، وفى بعض الدول الأوروبية بيكسبوا من الزبالة دهب بمصانع مُتخصصة للتدوير، في تُركيا مثلًا بيوصل بيهم الأمر أثناء إعادة تدوير القمامة في أحد أكبر المصانع المُتخصصة إنهم بيطلَّعوا الماء النقى من الزبالة، تخيَّل الماء الأسود المعفن كريه الرائحة اللى بيخُر بيبى هذا بيتم تنقيته لدرجة تصلُح لتحويله لماء شُرب وعلشان هُما ناصحين مش بيشربوه على طول، لكنهم يقوموا بإعادته للأنهار ليكتسب منها نسبة الأملاح الضرورية اللازمة لماء الشرب الطبيعى وبعدين يشربوه، فهل ده مُمكن يحصل في بلدنا؟!
قد يقول قائل إن الزبالة بتاعتنا غير أي زبالة في العالم؛ يعنى الكيس الأسود الشهير يحتوى على كوكتيل ذرى قادر على تدمير هيروشيما ونجازاكى تانى لو ألقى على أحدهما، قشر بطيخ على طبيخ حمضان على بيض ممشش على بامبرز مليان ع الآخر على حجارتين قلم متعضعضين على عازل طبى مُستعمل على طبق سلاطة طماطم قعد في التلاجة ييجى ثلاثة أشهر حتى خرج منها إفراج بحُسن السير والسلوك، أقول له جايز يكون معاك حق، بس المُهم نتخلَّص من الزبالة حتى لو لم نستفد منها كما يجرى في عالم الدرجة الأولى!
وبينى وبينك وحتى لا نجامل بعضنا على حساب البلد أو على حساب نفسنا فالعيب في الناس بصراحة، فأكثر ما نخدع به أنفسنا هو أن نقول إننا أفضل شعب في العالم وأصحاب الريادة والعظمة، والنبى بأمارة إيه؟ هتقول لى بناة الأهرامات والمعابد لا يا حبيبى مش إحنا، دول جدودنا العظام، أما نحن فمُجرَّد ورثة تلفانين بيتفننوا في تبديد ثروة حصلوا عليها على الجاهز دون اجتهاد ولا استحقاق وهُما قاعدين على لا مؤاخذة كراسيهم!
ويتجنن المرء مننا علشان يعرف السبب اللى يجبر إنسان أو إنسانة على إلقاء كيس الزبالة في وسط الشارع بينما هو مُمكن يرميه في الصندوق المُخصص له على بُعد خطوتين تلاتة، طبعًا لازم الحكومة والوزارة المُختصة يشوفوا شغلهم ويوفَّرو الصناديق ويجبروا الناس اللى المفروض تفضى الصناديق إنهم يشوفوا شغلهم ويسيبوا القهوة شوية، يا إما يفضلوا قاعدين ع القهوة للأبد من غير ما يروحوا أول الشهر يطلبوا المرتبات والحوافز والزيادات وبدل العدوى وبدل السفر وبدل ما نعمل وقفة احتجاجية!
لكن ربَّك والحق هناك بعض المناطق بيتوفَّر فيها الصناديق المُخصصة لتجميع القمامة، وهناك مناطق أخرى فيها رجال نظافة مُحترمون من اللى بيطلعوا ياخدوا الزبالة من الشقق، لكن في المُقابل هناك ناس راسها وألف سيف تقلَّع عيالها البامبرز وتشطوحه من الشباك، وناس تانية مزاجها ترمى محتوى حلَّة الملوخية الحمضانة من البلكونة، كيفها كده ومزاجها كده، وتحس إن العيَّل لو جاله شوية إمساك، أو حلة الملوخية اتاكلت كُلها ولم يتبق منها شيئًا لإلقائه من البلكونة العصر، فالواحدة من دول تموت بحسرتها!
آه.. على سيرة الزبالة الأخلاقية ومُخلفات التربية المعدومة لابُد من ضرب عدة أمثلة لهذا الأمر، ويكفيك أن تُتابع شريحة عريضة غالبة من الجيل الجديد الذي يعتمد في ثقافته على مُسلسلات (محمد رمضان) وأفلام (السبكى)، ذلك الجيل الذي يتظاهر أولياء أموره ويعتصموا أمام وزارة التربية والتعليم ويقطعوا شارع قصر العينى ويقطَّعوا شرايينهم معاه مُطالبين بإلغاء نسبة الغياب من المدارس كيلا يلتزم أبناؤهم بالوجود في الفصول ويتفرَّغوا للدروس الخصوصية التي يشكو منها نفس أولياء الأمور في ذات الوقت ويلطموا الصداغ بسبب تكلفتها الضخمة، تابع من فضلك الانفلات الأخلاقى عند كثير أفراد الشعب خاصةً بعد ثورة يناير، وتابع ڤيروس التكاتك وسائقيها من عُمر 16 سنة لحد عُمر 6 سنين، وطبعًا سواقين الميكروباصات رواد هذا النوع من الڤيروس، وباعة الفاكهة الجائلين الغشاشين اللى الواحد منهم مُمكن يبطح زبون لمُجرَّد اعتراضه على كون الاتنين كيلو جوافة اللى اشتراهم عبارة عن 3 جوافيات فقط من الحجم الصغير، وبلطجية الشوارع اللى أكتر من أصحاب الأحزاب السياسية وبتوع حقوق الإنسان والنشطاء، وأرباب الإعلام اللى بيتفرغوا لساعات طويلة بالليل على الهواء لتصفية الحسابات بينهم وبين بعضهم البعض بسبب الحسد أو الغيرة أو لزيادة نسبة المُشاهدة ورفع سعر الإعلانات وعددها، ثم يستيقظوا مُبكرًا أول ناس الصُبح علشان يعملوا برامج إذاعية كُلها برضه ردح وسباب وتصفية حسابات استكمالًا لما بدءوه بالليل!
كل هذه سلوكيات أكثر منها إجراءات، أفعال ذاتية لا تنتظر قانون أو خدمة عامة سواء بالإلزام أو بالتنقية، زيها زى سلوكيات إلقاء مُخلفات البناء على أي طريق حتى لو ستتسبب هذه المُخلفات في تعطيل المرور أو طحن خمستاشر ستاشر عربية في بعضهم البعض بما عليهم من بشر أو بضائع، المُهم نبعد القمامة عنا، ومُخلفات المصانع التي يتم إلقاؤها في النيل، والناس اللى غاوية تعمل لا مؤاخذة زى الناس في أتخن ميادين البلد، هل نحنُ شعب مُتحضر؟ والنبى بلاش نضحك على بعض، هتقول لى الناس ضحية التعليم والتوعية، هقول لَك موافق، ولابُد من توعيتهم وتعليمهم بالذوق، وفى نفس الوقت وعلى التوازى يتم فرض القانون بالقوة، وكمان لازم نستفيد من الزبالة المحلية حتى لو هنعمل منها زبالة دولية أخف وطأة فتستفيد منها المصانع اللى زى بتاعت بلاد برَّة، لكن الأهم من كُل ده إننا عرفنا الرَد على السؤال الأثير اللى بتطرحه البرامج والجرايد والمواطنين نفسهم على حدٍ سواء باستنكار وبراءة ودهشة وكأن الإجابة صعبة جدًا "من أين تأتى الزبالة؟" بتيجى من الناس يا أفندم.. هاتيجى منين يعنى؟!